التعليم الياباني..... رؤى مختلفة! (الجزء الأول)

مجتمع لايف ستايل التعليم الياباني اللغة اليابانية

التعليم والمساواة

{في هذا الوطن سوف تجد كافة الطبقات الاجتماعية – وعلى اختلافها - طبقاتٍ متساويةً فيما بينها. فمثلاً لن تجد الغني متعالياً على الآخرين ولن تجد الفقير أيضا خانعاً يحط من قدر نفسه. سوف تجد هنا الروح الحقيقة للمساواة التي تفيض وتسري في المجتمع بِرُمَتِهِ، وتقوم على مبدأ الإيمان بأن الناس جميعا سواسية فيما بينهم} (من كتاب : ”فخر اليابانيين“. بون جي شن شيو للنشر).

هذه الكلمات هى للمفكر الإنجليزي ”باسيل تشابنرن“، المعروف بأبحاثه ودراساته المتعددة عن المجتمع الياباني. ولا شك إن كنت واحداً من بين الذين يعيشون داخل اليابان، فسوف تدرك على الفور مدى واقعية تلك الكلمات وأن اليابان ـ كانت ومازالت ـ مجتمعاً تتجسد فيه روح المساواة بين الناس وقد أخذت أفكر بتمعّن في كلمات ”تشابنرن“ وأنا أتسأل سؤالاً كثيراً ما يطرح نفسه وهو: ترى من أين تستمد اليابان تلك الروح الحقيقية لفكر المساواة السائد بين الناس؟ سؤال جعلني أتذكر مقولة رائد الفكر الياباني ”فوكوزاوا يوكتشي“ الشهيرة: ”إن السماء لا تصنع فوق البشر بشراً ولا تحت البشر بشراً“ ولعل مقولة ”فوكوزاوا“ الخالدة هذه والتي أودعنا ايّاها في عمله الفكري الشهير ”تشجيع التعلم“، ذلك العمل الذي يمتد تاريخه على مدى ١٤٠عاماً حتى مطلع عصر ميجي. حِكمة قَيِّمَة سيما وان هذا الكتاب يُعد الأكثر شهرة في تاريخ النهضة الفكرية اليابانية.

وربما يوجد من بين قارئي هذا المقال العديد ممن سبق له وترددت على مسامعهم هذه المقولة. - حيث ان فوكوزوا هو مؤسس جامعة كييو العريقة في طوكيو والتي واكب انشاؤها بزوغ فجر عصر نهضة اليابان الحديثة في اواخر القرن التاسع عشر- وبالتالي خلال قراءتي لكلمات ”فوكوزاوا“ هذه الباعثة على التأمل والتفكر شرد عقلي وراودتني بعض الافكار حول ما يحدث في عالمنا العربي الآن من أمور وأوضاع متردية.

ولكن حديث اليوم هو عن اليابان وليس حديثاً عن العالم العربي لذا فلن أتطرق لذلك الجانب كثيراً. ويقول فوكوزاوا :”إن الناس يولدون جمعيا سواسية دون فرق في الحسب والنسب أو الفقر والغنى. لكن إذا ما اجتهد الإنسان في تحصيل العلم والمعرفة يصبح إنساناً ذا منزلة عالية، وثري الحال أيضاً، أما الشخص عديم العلم والمعرفة فيصبح فقير الحال دني المستوى“. وبهذا يكاد يكون ”فوكوزاوا“ المفكر الياباني الوحيد الذي وضع قضية التعليم والمساواة في مكيال واحد. وبين ثنايا هذه الكلمات نجد ما أبصره ”فوكوزاوا“ من يقين يؤكد على أن مفتاح تقدم الأمم ليس تطوير الاقتصاد أو تنمية الموارد الطبيعية، بل مفتاح التقدم هو التسلح بالمعرفة دون غيرها. وهكذا يتراءى لنا ويتضح أن فكر المساواة السائد في المجتمع الياباني يأتي من فلسفة راسخة تقوم على مفهوم أن ”العلم نفسه هو رأس المال الحقيقي لتحقيق الذات“.

رحلة ترويج للتعليم الياباني

وأنا أكتب هذا المقال تذكرت فجأة أنني أدخل عامي التاسع عشر منذ أن وطأت قدماي اليابان، ووددت لو كنت قادراً على استخدام التعبير الشهير ”ثمانية عشرة عامًا، مضت سريعا كلمح البصر“، لكن واقع الأمر كان مختلفاً تماماً عن معاني تلك الكلمات، فلقد كانت بالنسبة لِي فترة مليئة بالأحداث والصعاب، لكن في نفس الوقت حين أتذكر أيامي الأولى باليابان وتعود بي الذاكرة في فلاش باك طويل للوراء أجد نفسي أكن قدراً كبيراً من مشاعر الاعتزاز والفخر تجاه تلك السنوات العجاف التي عانيت فيها كثيراً من أجل تحقيق الذات في بلاد الغربة.

ثمانية عشر عاماً/ أو تسعة عشر عاماً قضيت خلالها ١٣ عاماً كطالب علم، و١٠ أعوام أخرى كأستاذ بالجامعات اليابانية، تخللها الكثير من العلاقات الإنسانية مع العديد من الأشخاص كانوا بعد الله أولاً وبلا شك أصحاب الفضل في أن أكون كما أنا كائن الآن. وقبل عدة شهور تلقيت طلباً من إدارة الجامعة التي أعمل بها ـ جامعة ”طوكاي“ ـ مفاده الذهاب إلى دولة الإمارات العربية المتحدة من أجل المشاركة في أحد المعارض الدولية للتعليم العالي الذي يقام (سنوياً)؟؟ بإمارة أبوظبي كممثل عن الجامعة. علماً بانّ المشاركة في هذا المعرض تتم بتنسيق وإشراف الحكومة اليابانية.

وبالطبع فانّ المهمة الأولى والرئيسية لي في هذا المعرض كانت هي السعي بكل جهد من أجل الترويج للبرامج التعليمية والتخصصات المختلفة بجامعة طوكاي، اضافةً الى القيام بالتعريف بمزايا الدراسة والتعلم بالجامعات اليابانية، وذلك لحث المزيد من الدارسين الأجانب على القدوم والدراسة باليابان.

وحين تلقيت الطلب، قلت في نفسي: لم لا! فأنا ابن اليابان وتخصصي هو الدراسات اليابانية وأنا المعني في المقام الأول داخل الجامعة بمنطقة الشرق الأوسط من الناحية الأكاديمية. لكن الجديد في الأمر هو أن الجامعة اختارتني أنا أو بمعنى أصح، اختارت شخصاً أجنبي الجنسية ليمثلها بشكل خاص ويمثل اليابان بشكل عام في معرض رسمي للدولة بمجال التعليم العالي.

وهكذا فانّ حديثي في هذا المقال ليس عن العالم العربي، ولكن أريد أن أذكركم ما دمنا نتحدث عن التعليم فانّه يجب ان نبقي في الاذهان بأن العالم العربي قد عُرف على مدى عصور طويلة بأنه منبع العلوم والمعرفة، وها نحن نشهد الآن محاولاتٍ جادة من قبل عدد من دول العالم العربي لاستعادة ذلك البريق المفقود ونفض هذا الغبار من أجل تحصيل العلم والمعرفة في شتى نواحي العلوم والمعرفة. وتحاول الدول العربية أيضاً في هذا الصدد على غير عادتها اتباع نهج جديد بخلاف النهج الغربي في مجال قضايا التعليم والتنمية، متخذةً في الآونة الأخيرة من اليابان نموذجا يحتذى به من أجل تحقيق أهداف نهضتها المستقبلية، مما يجعلنا نستطيع القول بأن الدول العربية قد بدأت بالعَدو في مضمار سباق الحصول على المعرفة ذات الصناعة اليابانية.

لذا نرى في الآونة الأخيرة اتساع مدى دائرة الإعجاب والشغف العربي باليابان، وبالطبع فإن أعين هذا الإعجاب والانشغال باليابان تتجه بالدرجة الأولى إلى كيفية نقل واكتساب التقنيات اليابانية من أجل تحقيق التقدم المنشود. ومن جانبها، تبدو اليابان بدورها مستعدةً لتبادل مشاعر الإعجاب الموجهة إليها من العالم العربي. ولم لا واليابان تسعى جاهدة من خلال أجهزتها ومؤسساتها التعليمية لركوب عجلة العولمة بميدان التعليم العالي، وإيصال المعرفة والعلوم الحديثة ذات الطابع الياباني لكافة أرجاء العالم، خاصة بعد أن وضعت خطة قومية تسعى جادة من خلالها لزيادة أعداد الدارسين الأجانب إلى حد كبير يصل الى ٣٠٠ ألف دارس أجنبي بِحُلول عام ٢٠٢٠.

لكن السؤال هنا هو ماذا الذي ستقدمه اليابان للعالم في مجال التعليم العالي؟ وما الذي يميزها عن غيرها من دول العالم الأخرى في هذا المجال ؟ وهل ستنجح اليابان في إنتاج ”منتجات تعليمية“ تستطيع تصديرها إلى دول العالم كما نجحت في مجال إنتاج المنتجات والمصنوعات مختلفة التصنيع بمعناها المادي؟

وهنالك أسئلة كثيرة تطرح نفسها من خلال أول مشاركة فعلية لليابان كدولة في معرض رسمي تعليمي للتعليم العالي بالعالم العربي، وهو المعرض الذي أقيم برعاية دولة الإمارات العربية المتحدة تحت عنوان ”معرض نجاح للتعليم العالي“، حيث حظيت اليابان بجناح خاص لها شارك فيه ما يزيد عن ١٤ جامعة ومؤسسة تعليمية تُعد من أرقى الجامعات في اليابان، والتي عملت جاهدة بدورها من خلال هذه المشاركة من أجل الترويج للنموذج التعليمي الجامعي لليابان بِسِماته ومميزاته العلمية. لكنه إذا حاولنا تقييم أثر وواقع هذه المشاركة على زائري الجناح، فسوف نجد أن الانطباع الذي تُرك لديهم لم يكن على القدر المتوقع والمأمول به، وأعتقد أن الأسباب كثيرة ومتعددة، من بينها بالطبع عوامل البعد الجغرافي واللغة إلى جانب غيرها من الأمور والعوائق الأخرى، لكن يبدو أنّ السبب الرئيسي هنا هو أن زائر الجناح الياباني لم يستطع أن يجد ما يحفزه ويدفعه باتجاه اختياره للدراسة في اليابان تاركا اختيار الدراسة بدول الغرب مثل أمريكا وبريطانيا.

وبعبارة أخرى لم يستطع أن يجد ضالته وحلمه المرجويّن من خلال ما قُدم له من عروض للدراسة بالخارج بين أروقة الجناح الياباني. وباختصار شديد وفي كلمة واحدة فإذا أردنا أن نلخص القضية هنا في سؤال واحد فإن ما ينبغي إعادة النظر به والتفكُير فيه مَليّاً هو ما هي القيمة المستفادة والعائدة من الدراسة بالخارج بالنسبة للدولة والإنسان؟ وما هي ايضاً قيمة هذا النموذج التعليمي الذي ترغب اليابان تقديمه لدول العالم في هذا المجال؟ وأقصد هنا بالطبع مجال التعليم الجامعي والدراسة بالخارج.

يمكنك قراءة الجزء الثاني بالضغط على هذا الرابط

التعليم المساواة