تلميع الحذاء للهروب من الوحدة!

مجتمع لايف ستايل

قد تظن عند سماعك لكلمة ”أطفال الشوارع“ أن هناك خطأ ما أو أنها لا تمت بأية صلة لليابان التي نعرفها، لكن هذا أمر غير صحيح. فإذا عدنا قليلاً للوراء والبحث في تاريخ اليابان الحديث نجد أنه في عام ١٩٥١ ظهرت أول أغنية تعبر عن تلك الطائفة الكادحة ومعاناتها بعنوان ”طوكيو شووشاين بوي“ من غناء المغنية اليابانية ”أكاتسوكي تيريكو“. ثم في نفس الفترة، وتحديداً في عام ١٩٥٥ ظهرت أغنية أخرى حطمت الأرقام القياسية في شعبيتها بعنوان ”ماسح أحذية تحت كوبري النفق“ من غناء المغنية اليابانية ”مياغي ماريكو“ التي ولدت بالعاصمة طوكيو عام ١٩٢٧.

تلميع الأحذية في ليل الفقر الحالك

صورة توضح ماسحى الأحذية فى صفوف طويلة عام ١٩٦٩ بمنطقة شيبويا الشهيرة. الصورة مقدمة من جريدة ماينيتشي.

هذه الأغنية عبرت عن مظاهر الفقر التي كانت لاتزال باقية هنا وهناك بين أطياف كثيرة من الشعب الياباني بعد مرور ١٠ سنوات من الهزيمة التي منيت بها اليابان في الحرب العالمية الثانية على يد الحلفاء وإعلان استسلامها، فرغم مظاهر التعافي الاقتصادي الذي بدا واضحاً إلى حد ما من خلال الناتج القومي، ومعدلات الانتاج العالية، وظهور معالم الانتعاش على مستوى الطبقة المتوسطة من موظفي القطاعين العام والخاص. وكان اقتناء الثلاجة والتلفاز والغسالة (وهي الأجهزة الكهربائية المنزلية الثلاث التي أطلق عليها مصطلح ”أدوات الآلهة الثلاث“) دليل على هذا الإنتعاش. إلا أن شبح الفقر كان لايزال هناك جاثماً على صدور بعض أطياف المجتمع الياباني وكان متمثلاً في فئة ماسحي الأحذية من الصبية الذين انتشروا على الأرصفة وفي كل ركن تحت الكباري والذين كانوا بالكاد يحصلون على قوتهم اليومي بعد عمل يوم شاق. لقد كان هؤلاء الصبية الصغار يقومون بإصلاح وترقيع الأحذية القديمة المتهالكة وتركيب كعوب جديدة لها وخياطتها، كل ذلك إلى جانب مهنتهم الأساسية وهي مسح الأحذية.

كان هؤلاء الصبية الكادحين من ماسحي الأحذية يحملون أيضاً عبء الانفاق على آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم من ذلك الدخل الضئيل الذي كانوا يحصلون عليه، فقد كان هذا هو مصدر الرزق الوحيد المتاح لأطفال الشوارع آنذاك. وكان من مشاهير اليابان الذين كانوا يشتغلون في صباهم بتلك المهنة الشاقة الممثل ”كوروبيه سوسومو“ .

أشياء ضاعت مع الثراء

ومع توغل الميكنة في كل مناحي الحياة باليابان ومع رغد العيش والرخاء الإقتصادي الذي قضى على الفقر وطرده من المدينة شيئاً فشيئاً صار اليابانيون يشعرون بالخواء النفسي حيث انعدم التواصل واختفت فرص الحوار تقريباً بين الزبون والبائع ومع مرور السنين وتطور الصناعة ظهرت أنواع الورنيش الجاهزة سهلة الاستخدام التي قضت على تلك المهنة بشكل كبير. وبدلاً من ذلك ظهرت محال صغيرة تتولى إصلاح الأحذية في دقائق معدودة تحت مسمى ”مستر مينيت“ (سيد الدقيقة الواحدة) والتي تنتشر داخل المجمعات التجارية والمولات. كذلك يوجد الأن سبراي للتلميع سهل الإستخدام وهو ما يغنيك عن الإستعانة بأي أحد لتلميع الحذاء.

عندما بدأت دراستي بمدينة أوساكا في عام ١٩٧٨ كان مازال هناك العديد من أشكال التفاعل والتواصل بين الناس. حيث أنه في ذلك الوقت لم تكن الميكنة قد طغت بشكلها الحالي على كل شيء، لذلك عندما كنت أستخدم خطوط السكك الحديدية كان يجب علي إعطاء التذكرة الخاصة بي لعامل المحطة فيقوم بقطعها وردها لي. ربما تلك العملية لا تستغرق سوى بضع ثوان لكنها كانت فرصة على كل حال للتواصل الإنساني اليومي.

كذلك كنت أستمتع بالذهاب لغناء ”كاريوكي“ في الحانة والتي يطلق عليها ”سناك بار“ حيث تقدم تلك المحال التي عادة ما تكون صغيرة المساحة الوجبات الخفيفة والمشروبات. لم أكن أعرف أحداً بالمكان لذلك كنت أجلس وحدى فى زاوية بعيدة في البداية لكن سرعان ما بدأت بتجاذب أطراف الحديث مع المسؤولة عن المكان وعادة ما تكون سيدة ويطلق عليها باليابانية ”ماما“، كما قمنا بالغناء الـ ”دويتو“ سوياً. لقد كان حقاً مكاناً يمكنك الشعور بالدفء والحميمية وهو ما ضاع في ظل تلك الوتيرة السريعة من الحياة العصرية التي لا تعطيك فرصة لإلتقاط أنفاسك.

في عام ١٩٧٨ بدأ عصر ألعاب الفيديو الذي سطر تاريخاً جديداً من توغل الألة أكثر فأكثر في حياة اليابانيين اليومية حتى أستولت أيضأ على أوقات فراغهم.

كذلك اختفى من خطوط السكك الحديدية والمواصلات العامة بشكل عام العنصر البشري وحلت محله الآلة، واختفت تدريجياً تلك المحال الصغيرة التي كنت أعرفها وحلت محلها الـ Karaoke Box (وهي عبارة عن محلات كبيرة يوجد بها العديد من الغرف التي يمكنك الغناء بها كاريوكي وحدك).

الوحدة.. والحنين للماضي

بدأ ملمعو الأحذية يعملون في أحياء طوكيو مثل غينزا. (AP/آفلو).

لكن مع تطور نواحي الحياة في دولة مثل اليابان، والإعتماد الشبه كامل على الآلة، قلت فرص احتكاك البشر مع بعضهم البعض وصار الإحتكاك مع الآلة أكثر، مما تولد شعوراً كئيباً بالوحدة في نفس غالبية اليابانيين. وبدأ اليابانيون يحاولون التغلب على هذا الشعور عن طريق خلق فرص للتواصل. فمؤخراً بدأت محال مسح الأحذية بالعودة مرة أخرى من الماضي بعد أن كادت تندثر، فصار البعض يقصدون تلك المحال الصغيرة بعد انتهاء يوم طويل وشاق.

وعادة ما يدير هذه المحلات شيوخ كبار في السن. وتجد بعض الناس وهم يقصدون هؤلاء الشيوخ عند مداخل بعض محطات القطار في طوكيو وغيرها من المدن الكبرى لعلهم يحصلون ولو لدقيقتين أو ثلاث على نوع من التواصل الإنساني من خلال حوار عابر مع هؤلاء العجائز يخفف عنهم جفاف الحياة اليومية المشحونة بالمشاغل والعمل المرهق الذي لاينتهي!

اليابان الحرب العالمية الثانية الفقر