فن بونراكو المسرحي بين إرثه التاريخي العريق ومستقبله الغامض

مجتمع ثقافة سياحة وسفر

يجمع الفن المسرحي التقليدي بونراكو بين الترنيم والعزف على آلة شاميسين الموسيقية والدمى، مما يضيف تجربة جمالية مميزة. وعلى الرغم من أن هذا الفن حظي بشعبية كبيرة، إلا أنه الآن يعاني من صعوبات في جذب المشاهدين لحضور عروضه. وهذه المقالة تستعرض تاريخ فن البونراكو وتتطلع نحو المستقبل من خلال مبادرة جديدة تهدف إلى إعادة إحياء اهتمام الناس بهذا الفن.

ويعتبر مسرح دمى ”بونراكو Bunraku“ نموذجاً لأحد التقاليد المسرحية العظيمة في اليابان وذلك بالإضافة إلى ”كابوكي Kabuki“ و”نو Nō“. وبعد أن صنفت الحكومة اليابانية هذا الفن المسرحي كملكية ثقافية مهمة وغير مادية عام ١٩٩٥، قامت منظمة اليونيسكو بتسجيله على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية عام ٢٠٠٨.

ولكن شعبية هذا الفن من حيث الإدراك الفني حالياً ضئيلة، بعد أن تراجعت بشكل كبير عن ذروتها في حقبة إيدو (١٦٠٣-١٨٦٨). وفي أعقاب الهزيمة المدمرة لليابان في الحرب العالمية الثانية، أوشك فن بونراكو على التلاشي، ولكن بطريقة ما نجا ذلك الفن وبفضل دعم كل من الحكومة المركزية والحكومة المحلّية لمحافظة أوساكا والمجلس البلدي للمدينة. ولكن في غضون السنوات القليلة الماضية، خفّض عمدة أوساكا الحالي هاشيموتو تورو من التمويل المقدم لبونراكو كيوكاي وهي أكبر جمعية تدعم هذا الفن، وذلك بصفته عمدة ومحافظا سابقا لأوساكا، مما قد يعرض مسرح الدمى التقليدي الياباني لخطر الزوال مرة أخرى.

فعندما ظهر فن بونراكو في اليابان قبل نحو أربعة قرون، كان يطلق عليه اسم ”نينغيو جوروري ningyō jōruri“، حيث نينغيو تعني في اللغة اليابانية دمى أما جوروري فتشير إلى أسلوب ترنيم فريد. وكلمة جوروي تعني حرفيا ”الجوهرة الجميلة“، وقد تطور هذا الفن في منتصف القرن الخامس عشر وأدخل عليه آلة شاميسين الموسيقية في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وفي النهاية أُدخل مع هذين العنصرين دمى كبيرة يحركها أشخاص يطلق عليهم اسم محركي الدمى.

شكسبير اليابان

شهد فن بونراكو في القرن السابع عشر ازدهارا، ومع وجود الكاتب المسرحي تشيكاماتسو مونزائيمون (١٦٥٣-١٧٢٥) عثر هذا الفن على ”شكسبير“ خاص به. وتشيكاماتسو هو ابن لمحارب ساموراي/فارس فقد سيده أو ما يعرف بـ”رونين rōnin“، وكان يعيش في مدينة كيوتو عندما قابل المطرب الكبير تاكيموتو غيدايو (١٦٥١-١٧١٤) ولاحظ القوة الشاعرية لعروضه وأصبح مهووسا بأسلوب جوروي الترنيمي وبمسرح الدمى.

وقد حقق أكبر إنجازاته في عام ١٧٠٣ مع مسرحية ”سونيزاكي شينجو Sonezaki Shinjū“ والتي تعني ”الحب ينتحر في سونيزاكي“، والتي تحكي قصة حب تراجيدية بين العاهرة ”أوهاتسو“ وبين ”توكوبيي“ وهو موظف لدى تاجر لصوص الصويا. ومع ذهاب الاثنين معا للمكان الذي قررا الانتحار فيه في الغابة، يقوم الراوي بإنشاد هذه الأبيات الشهيرة:

’’في نهاية هذا العالم وانقضاء ليالينا.
نمشي نحو طريق الموت، فبأي شيء يمكن تشبيهنا؟‘‘

وقد ترك تشيكاماتسو ورائه أكثر من ١٠٠ عمل مسرحي لفن البونراكو، ومن بينها روائع مثل ”ميئيدو نو هيكياكو“ أو (الساعي نحو الجحيم) لعام ١٧١١ و”كوكوسين يا كاسّين‘‘ أو (معارك كوكسينغا) لعام ١٧١٥ و”شينجوتين نو أميجيما“ (الحب ينتحر في أميجيما) لعام ١٧٢٠. كما كانت له إسهاماته في فن الكابوكي، حيث تعاون لنحو ١٠ سنوات مع ساكاتا توجورو (١٦٤٧-١٧٠٩)، وهو ممثل رائد في منطقة كاميغاتا والتي تضم مدينتي كيوتو وأوساكا. فالكثير من أعمال الكابوكي الشهيرة في الوقت الحالي أصلها مسرحيات لفن بونراكو ولكن تم تعديلها.

بونراكو يحتاج وقتا طويلا من التدريب

يتطلب فن البونراكو في شكله الذي أصبح معياراً نموذجيّا ثلاثة أصناف من الفنانين: وهم التايو أو المطرب، عازف آلة شاميسين الموسيقية ومحركو الدمى.
ويقول كيريتاكيه كانجورو الثالث، أحد فناني البونراكو المتمرسين، لـ nippon.com إن ”الطريقة الحالية المتمثلة في استخدام ثلاثة أشخاص لتحريك دمية واحدة كانت إحدى ابتكارات مدينة أوساكا في عام 1734“. وتتراوح أطوال الدمى بين ١-١.٥ متراً، ويتحكم أوموزوكاي (محرك الدمى الرئيسي) بحركة الرأس واليد اليمنى، بينما يساعده شخصان للتحكم باليد اليسرى والأرجل.

حاز كيريتاكيه كانجورو الثالث على العديد من الجوائز لتميزه بفن الدمى، ومن بينها جائزة وزير الثقافة للفن الراقي، وميدالية شرف (وشاح أرجواني) وجائزة الفنون الأكاديمية في اليابان. وقد تم التقاط هذه الصورة في مسرح بونراكو القومي في مدينة أوساكا بينما كان كيريتاكيه يقوم بشرح آلية حركات رأس الدمى.

 

كيريتاكيه واثنان من مساعديه يتحكمون بدمية لأنثى.

يقوم محركو الدمى الثلاثة بتنسيق تحركاتهم وتنفسهم بشكل متزامن وذلك تماشيا مع تعليمات أوموزوكاي. كما يظهر وجه أوموزوكاي فقط على المسرح حيث أن مساعديه يرتديان أقنعة سوداء. ويقول كيريتاكيه إنه قبل أن تصبح محركا رئيسيا للدمى، يجب أن تمضي ١٠ سنوات تتحكم بالأرجل و١٥ سنة تتحكم باليد اليسرى.

ومع ازدهار فن بونراكو بين سكان مدينة أوساكا خلال حقبة إيدو، فقد انتشر أيضا في كل من جزيرة أواجيشيما في بحر سيتو الداخلي وكذلك في المنطقة التي تعرف حاليا بمحافظة توكوشيما في شيكوكو. ولا يزال الكثير من نصوص بونراكو موجود في المخازن القديمة في منطقتي كانساي وشيكوكو لتبقى شاهدة على شعبية هذا الشكل من الفنون. ويُعتقد أيضاً أن عامة الناس كانوا يحفظون أبياتا من مسرحيات شهيرة والتي أصبحت مصادرهم في التعلم وساعدت في صياغة قيمهم الأخلاقية. وفي منتصف القرن الثامن عشر، وصل فن بونراكو إلى ذروة الشهرة، ولكن سرعان ما تبدل اهتمام الجمهور ليصبح أكثر ميلا نحو فن الكابوكي ودخل بونراكو بفترة انحدار طويلة.

صراع بونراكو في فترة ما بعد الحرب

أعطى مسرح بونراكوزا في أوساكا والذي بُني في القرن التاسع عشر هذا الشكل من الفنون اسمه النموذجي الياباني الحالي. وكان المسرح قد دُمر خلال قصف مدينة أوساكا عام ١٩٤٥ وتمت إعادة بنائه عام ١٩٤٦، ولكن في عام ١٩٤٨ تسببت قضايا عمالية في شركة شوتشيكو التي تدير المسرح بانقسام فرقة البونراكو إلى فصيلين. وهما مجموعة تشيناميكاي والتي بقيت مخلصة لشوتشيكو، ومجموعة ميتسوواكاي التي وقفت بجانب نقابة العمال وقررت الانفصال. وقد استمر الانقسام حتى عام ١٩٦٣ عندما تخلت شركة شوتشيكو في نهاية الأمر عن البونراكو مُرجِعَةً السبب في ذلك إلى استمرار الخسائر.

وعلى الرغم من ذلك، حاز فن بونراكو على تقدير أوسع مع أول عرض قُدم في الخارج في سياتل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما شهد عام ١٩٦٣ تشكيل جمعية بونراكو كيوكاي، والتي أعادت توحيد الفنانين المنقسمين. وقد تسبب تأسيس مسرح اليابان القومي في طوكيو عام ١٩٦٦ ومسرح بونراكو القومي في أوساكا عام ١٩٨٤ في بث مزيد من الحياة في هذا الفن المتعثر.

بونراكو لا يزال في قلوب اليابانيين

في شهر أبريل/نيسان ٢٠١٤، ذهبت إلى مسرح بونراكو القومي لمشاهدة أحد العروض النهائية للمطرب تاكيموتو سوميتايو السابع (٨٩ عاما) والذي صُنِّفَ بأنه كنز قومي حي وتقاعد في شهر مايو/أيار. وقد بيعت جميع التذاكر مقدما واصطف عشاق المسرح في أرتال طويلة منذ الصباح الباكر على أمل تأمين تذاكر في يوم العرض، وقد سجل العرض رقما قياسيا في أكبر عدد من الحضور خلال الـ٣٠ عاما من عمر المسرح.

وأدّى تاكيموتو مقطع ”ساكورامارو سيبّوكو نو دان“ (انتحار ساكورامارو) من مسرحية ”سوغاوارا دينجو تيناراي كاغامي“ (أسرار فن خط سوغاوارا). والتهبت أكُّف الحضور بالتصفيق عندما اعتلى خشبةَ المَسرَح. لقد كان مشهدا يشير إلى أنه لا يزال هناك مكان في قلوب اليابانيين لفن البونراكو حتى وإن كان خلال مشاهدة تاكيموتو فقط. ولكن ما هو السبب في عدم احتفاظ فن بونراكو بشعبيته؟ وغَالبا ما يجري القاء اللوم على العروض الطويلة والبطيئة، كما أن الحوار قد يكون صعبا على الفهم حتى مع وجود شريط في أسفل شاشة يعرض كلمات المسرحية. وكذلك وجود شُحّ في عدد فناني البونراكو الجدد والذي يُشَكل مشكلة إضافية، ومع تقاعد تاكيموتو يتبقى خمسة كنوز قومية حية لفن البونراكو فقط.

ولسوء الحظ، استطاع مسرح بونراكو القومي أن يجتذب ما يزيد بقليل عن ١٠٠٠٠٠ مشاهد فقط خلال السنة المالية ٢٠١٣، وذلك على الرغم من الشهرة التي تحظى بها عروض تاكيموتو. ونتيجة ذلك فقط أقدمت حكومة مدينة أوساكا على تخفيض التمويل المالي المقدم لمنظمة بونراكو كيوكاي في السنة المالية ٢٠١٤ بنحو ٧.٣ مليون ين وذلك تماشيا مع سياستها المعلنة.

لكنّ هذه المنظمة تسعى لكسب معجبين جدد من خلال طرح مبادرات مثل تقديم مسرحيات للأسر وبث فيديو عن العروض، ومع ذلك فلا يزال فن بونراكو غير قادرٍ على اجتذاب أكثر من عُشر جمهور الكابوكي فقط. ورُبَّما يشعر الكثيرون أنه من غير المنطقي خفض المساعدات المالية المقدمة لهذا الشكل الكلاسيكي من الفنون والذي يجب المحافظة عليه.

هذا وبُغية الترويج لقيمة فن البونراكو محليا وخارجيا، أسست مؤسسة نيبّون مشروع نيبون بونراكو. فقد بنت مسرحا متنقلا من خشب أشجار السرو بشكل كامل وتعتزم إقامة أول عرض لها في ميدان ربّونغي هيلز بطوكيو في مارس/آذار ٢٠١٥ كبداية لجولة تشمل كل اليابان وتستمر حتى عام ٢٠٢٠ وهو موعد إقامة دورة طوكيو للألعاب الأولمبية والألعاب البارالمبية. ومن المنتظر أن تحظى هذه المبادرة بالكثير من الاستحسان.

(الشكر موصول لمسرح بونراكو القومي ومسرح اليابان القومي. المقالة الأصلية باللغة اليابانية في تاريخ ١٤ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٤، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: ناكانو هارو.)

السياحة أوساكا بونراكو