الكوارث والروح اليابانية

سياسة مجتمع ثقافة

الزلازل غائبة عن الأعمال الكلاسيكية اليابانية

يقع الأرخبيل الياباني في منطقة نشاط زلزالي على درجة عالية من الهزات الأرضية وهناك سجلات عديدة للزلازل على مدى تاريخ البلاد. ولكن عندما يتعلق الأمر بالأدب الياباني الكلاسيكي، نجد أن موضوع الزلازل شبه غائب تقريبا ولعل هناك سببان رئيسيان يكمنان وراء هذا الغياب.

أولهما كون الزلازل كوارث تحدث في مناطق حضرية في المقام الأول. سيما وأن مُعظم ضحايا الزلازل هم من سكان المدن وممن لاقوا حتفهم إما جراء حرائق أو أنقاض مبانِ متساقطة لكن المدن الكبيرة التي ترتفع فيها البنايات الشاهقة هي ظاهرة حديثة نسبيا. وفي اليابان القديمة والعصور الوسطى، كان حتى تواجد البلدات نادر نسبيا، وإن وجدت، فلم تكن سوى عبارة عن قرى متضخمة. وكانت المعابد البوذية (الباغودا: هيكل متعدد الأدوار) هي المباني الشاهقة الوحيدة في اليابان.

وبالإضافة إلى ذلك، يأخذ البيت الياباني التقليدي بعين الاعتبار خطر الزلازل. حيث يتكون الإطار من الأخشاب التي تُعقد فيما بينها بواسطة مفاصل متشابكة بدلا من المسامير. أما ”الجدران“ (فوسوما) الداخلية، فكانت مصنوعة من الورق. ولم يتم وضع الركائز الأساسية في باطن الأرض أو تثبيتها على أسس بل اسندت على أحجار مدورة وهذا الترابط الرخو ساعد على استقرار الدعائم نسبيا حتى لو انشقت الأرض بعنف تحتها.

منظر جبل فوجي والبركان الخامد أشيتاكا من مجموعة أعمال المحطات الثلاثة والخمسين الشهيرة لأوتاغاوا هيروشيغي.

والسبب الثاني يرجع إلى شح المعلومات عن الزلازل التاريخية من مصادر معاصرة والذي يقف وراءه مفهوم أيديولوجي محض. في الفلسفة السياسية في اليابان (وأجزاء أخرى من شرق آسيا)، فقد كان ينظر إلى الزلزال كعقاب من السماء لحكومة سيئة أو غير عادلة. ولهذا السبب، فإن أي شخص يجرؤ على الكتابة عن أو تصوير صورة لزلزال من شأنه أن يعتبر كأحد منتقدي القوى المهيمنة.

ولعل التردد في تمثيل الكوارث الطبيعية يمتد إلى الانفجارات البركانية كما هو الوضع مع الزلازل. واليوم يُعَّد جبل فوجي رمزا لليابان وجمالها الطبيعي، ولكن ذلك الوضع لم يكن دائما على هذا الحال ففي عصر إيدو (١٦٠٣-١٨٦٨)، فكان الناس ينظرون إلى الجبل بعين الرهبة كمكان مقدس، وكانوا يخشون مزاجه البركاني حيث ثار فوجي آخر مرة عام ١٧٠٧، بعد حدوث سلسلة من هزات ثانوية ارتدادية تلت زلزالاً كبيراً حصل في وقت سابق قبل عدة أسابيع، ورقدت إيدو (طوكيو حاليا) تحت طبقة من الرماد البركاني. ولكن ليس هناك تقريبا أي سجل مكتوب عن تلك الكارثة الكبرى واستمر الفنانون في رسم فوجي كجبل مهيب وهادئ، وكأن انفجاراً بركانياً لم يحدث أبدا، واتخذ الشعراء نفس النهج.

زلزال كانتو الكبير يدمر طوكيو

كاتدرائية القيامة المقدسة (Nikolaidō) في منطقة أوتشانوميزو في طوكيو. تم تمويل إعادة إعمارها بعد زلزال كانتو الكبير من تبرعات المجتمعات الأرثوذكسية في جميع أنحاء العالم، ولكن في الغالب من المجتمع الأرثودكسي الياباني.

نما خوف اليابان من الزلازل في القرن العشرين مع ازدياد تحضر السكان المتنامي وبدأ الناس العيش في مبان مصنوعة من الطوب بدلا من الهياكل الخشبية وهذا يعني مزيداً من الدمار عند وقوع زلزال كبير. كما ارتفع عدد ضحايا الأعاصير مع نمو أعداد السكان في المناطق الساحلية.

في ١ سبتمبر/أيلول ١٩٢٣، عانت اليابان أسوأ كارثة طبيعية في القرن العشرين عندما ضرب زلزال كانتو الكبير منطقة طوكيو وقد خلفت الكارثة ١٠٠ ألف قتيل في منطقة كان يقطنها ما يقرب من ٣ ملايين شخص. كما سُحِقَ بعضاً منهم نتيجة تساقط الأنقاض عليهم في حين لقي آخرون مصرعهم بسبب الحرائق التي سببها الزلزال أو الغرق في الأنهار بينما كانوا يحاولون الهروب من النيران. كما أُصيبت إمدادات الكهرباء والماء وخطوط الهاتف والتلغراف، وغيرها من البنى التحتية بالشلل، ودُمِّرت معظم الأبنية الحجرية في العاصمة التي افتخر بها في أدلة طوكيو كمعالم معاصرة.

وكانت كاتدرائية القيامة المقدسة، التي أنجزت عام ١٨٩١، أطول مبنى في طوكيو لسنوات عديدة. تم بناؤها من قبل الكاهن الأرثودكسي الروسي ايفان ديميتروفيتش كاساتكين الذي طُوِّب في وقت لاحق كقديس نيكولاس في اليابان. وقد تسبب زلزال كانتو الكبير في سقوط برج جرس الكاتدرائية وانهيار قبته. وكان الفندق الامبراطوري (Imperial Hotel)، الذي صممه المهندس المعماري الأمريكي الكبير فرانك لويد رايت، الوحيد من المعالم الرئيسية ممن نجا من الكارثة إلى حد كبير. وكان هذا هو أول بناء حجري في اليابان يتمتع بميزات مقاومة للزلازل واكتمل قبل عام من وقوع الكارثة. وتقدر التكلفة الإجمالية للأضرار الناجمة عن الكارثة بأربعة أضعاف الميزانية الوطنية في ذلك الوقت.

الرد على الكوارث

كتاب Roots of the Japanese Sun للكاتب بوريس بيلنياك.

وحتى في خضم الفوضى من هذه الكارثة غير المسبوقة، حافظ اليابانيون على رزانتهم. في كتاب Roots of the Japanese Sun، فقد كتب الكاتب الروسي بوريس بيلنياك ما يلي: ”بعد إخماد الحرائق، عاد الناجون لانتشال الجثث، وشهد الأحياء صفوف القتلى الذين لقوا حتفهم وتفحموا. وعثر الناس على أطفال ما زالوا على قيد الحياة بين جثث القتلى وتعرض الكبار للتفحم بطريقة منظّمة وماتوا دون ذعر أو ما يقرب من دون ذعر ومن خلال تفحمهم، استطاعوا إنقاذ الأطفال بأجسادهم“.

ووصف الدبلوماسي البولندي ستانيسلاف باتيك مشهداً لم الشمل الأشبه بالمعجزة بين أب وابنته انفصلا عن بعضهما البعض بسبب الفوضى بعد وقوع الزلزال. ”لم يعانقان بعضهما بعضا، بل انحنيا باحترام على الطريقة اليابانية التقليدية المهذبة وأيديهما متشابكة معا وتبادلا بهدوء تحية ”مساء الخير“. ولم يلمسا بعضهما أبدا“.

وللمعاناة من الحزن الشديد مع الآخرين أثر ذو طابع إنساني. فقد كتب المؤلف أكوتاغاوا ريونوسوكي حول الكارثة ما يلي(*١)): ”عندما هدأ الزلزال الكبير أخيرا، أظهر الناس الذين فروا إلى الشوارع شعورا وديا مفاجئا. في كل مكان تقريبا كان من الممكن لي رؤية الناس وهي تدردش بشكل ودي، يتبادلون السجائر وإجاص ”ناشي“، ويرعون أطفال بعضهم البعض، سواء كانوا جيران أم لا .وأولئك الذين فروا إلى المرج الأخضر سادتهم الأريحية فيما بينهم، وبدوا مستمتعين كثيرا وهذا مشهد جميل على أي حال ساده لطف غير مسبوق وخَيَم على هذا الحشد الكبير من الناس. لذا أود إبقاءه في الذاكرة إلى الأبد“.

ثم كان الزلزال الياباني الرئيسي التالي الذي جلب الاهتمام العالمي زلزال هانشين أواجي بقوة ٧.٣ درجة بمقياس ريختر الذي ضرب كوبي والمناطق القريبة منها يوم ١٧ يناير/كانون الثاني ١٩٩٥ وأَودى الزلزال بحياة ٦٠٠٠ شخص وكشف عن العديد من العيوب في تصميم البناء والمشاكل في تنظيم أعمال الإنقاذ. ولعل بطء استجابة الحكومة الوطنية أَثار استياءً عميقا عاما ومما زاد الطين بلة، تدخل جماعات الجريمة المنظمة ”ياكوزا“ لمساعدة الضحايا من خلال شحنات الماء والطعام. وعلى الرغم من الأزمة، قاوم السكان الدوافع الأنانية وأظهروا روح التعاون. حتى أولئك الذين فقدوا كل شيء وانتظروا في صفوف منتظمة للحصول على الطعام وغيرها من اللوازم، لم يلجأوا أبدا إلى النهب.

وظهر العديد من الدروس الهامة من زلزال عام ١٩٩٥. حيث أدخلت معايير بناء أكثر صرامة لمقاومة الزلازل ونوعية البناء، جنبا إلى جنب مع مزيد من التعليم المنتظم من أجل التأهب للكوارث. ولكن الطبيعة تستمر بطريقتها الخاصة وتكتب النصوص الخاصة بها.

الروح اليابانية لم تتغير

١٢ مارس/آذار ٢٠١١ كان يوم السبت من الأسبوع حيث استيقظت في وقت متأخر من المعتاد، وقمت بتشغيل الراديو. قال المذيع إن في اليوم السابق ضرب زلزال مدمر اليابان، تلاه تسونامي مدمر. ولم ترد تفاصيل عن وقوع إصابات.

حوالي فترة الظهر، تلقيت مكالمة من قناة التلفزيون الروسي Rain، وطُلب مني الحضور إلى الاستوديو والتعليق على الوضع في اليابان. وبدأت مُقَدِّمة البرنامج بالإعلان عن أن حالة من الذعر سادت في فوكوشيما وتحدث عن انتشار أعمال النهب. قاطعتها وقلت إنني لا أعتقد حدوث أي شيء من هذا القبيل. بدت مرتابة، ولكن العالم سرعان ما أدرك، من خلال تقارير وسائل الإعلام المختلفة، أنه حتى بعد وقوع كارثة كبرى، أن النهب ليست مشكلة في اليابان. وكان هذا الحدث مأساويا ومرعبا، لكنني كنت سعيدا على الأقل أن اليابانيين لم يخونوا ثقتي في أمانتهم.

لقد سمعت مرات عديدة، من الناس الذين لا يعرفون حقا اليابان، أن البلاد ليست ما كانت عليه سابقا. اليابانيون لم يعد يرتدون الكيمونو، ويستمعون إلى الموسيقى الغربية، ويأكلون الخبز بدلا من الأرز، وهكذا. ولكن هذه هي تغييرات سطحية ويبقى الشعب الياباني وفيا للقيم الروحية، وأبرز هذه القيم يتمثل في الاعتقاد أنه من الخطأ السرقة.

وهناك انتقادات متكررة أخرى هو أن الشباب الياباني اليوم هم أقل شأنا من الجيل الذي وضع اليابان على قدميه مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية. وإنهم يهتمون فقط بأنفسهم ومشاكلهم الفردية وليس ببلدهم أو المجتمع ككل. وقد أظهرت الكارثة أن ذلك غيرَ صحيح فقد تطوع الكثير من الشباب من جميع أنحاء اليابان للمساعدة في أعمال الإنقاذ. وأنا شخصيا التقيت مُجمّلاً لقص شعر الناس في المناطق المتضررة دون مقابل، فضلا عن فنان رسم صورا لناجين مجانا.

وتجدر الإشارة إلى أن مأساة فوكوشيما جلبت وسلطت الأضواء على صفات ممتازة للشعب الياباني. وفي الوقت نفسه كشفت عن مشكلات خطيرة يجب على الدول حول العالم مواجهتها. وقد أدى التطور العلمي والتكنولوجي إلى اعتقاد الناس بأن الإنسانية هي قادرة على كل شيء، وأنه تم ”ترويض الطبيعة“. وهذا خطأ كبير في الحكم حيث كان بناء محطات الطاقة النووية في البلاد المعرضة للزلازل مثل اليابان خطأ منذ البداية. وفي هذا المعنى، فإنّ مأساة فوكوشيما متجذرة في الأسباب الإنسانية، وكذلك في أسباب طبيعية. لذا يجب على بُناة المستقبل أن يتذكروا أن الطبيعة لها نظامها الخاص ولا تغفر لغطرسة أو إهمال الإنسان. ولكني مؤمن في قدرة الشعب الياباني للتعلم من أخطائهم وتصحيحها.

(المقالة الأصلية نشرت باللغة الروسية في ١١ مارس/آذار ٢٠١٦. الترجمة من الإنكليزية. صور العنوان: Namazu-e  (لوحة سمك السلور) من زلزال إيدو ١٨٥٥ من مجموعة إشيموتو. في فترة إيدو، كان هناك اعتقاد بأن سمك السلور العملاقة تسبب الزلازل.)

(*١) ^ في وقت الزلزال الكبير في ١ سبتمبر/أيلول - تقويم فترة تايشو ١٢ (عام ١٩٢٣

زلزال شرق اليابان الكبير زلزال هانشين أواجي الكوارث الطبيعية