اليابان وتركيا تحييان ذكرى مرور ١٢٥ عاما على مأساة غرق السفينة ”ارطغرل“

سياسة مجتمع

هنالك ثُلَّةٌ من اليابانيين ممن تعلم بقضية غرق سفينة تابعة للبحرية العثمانية قبالة ساحل شبه جزيرة كيي قبل ١٢٥ عاما، لكن الجهود بُذلت آنذاك والتي اتسمت بالإيثار من سكان محليين يابانيين في إنقاذ ورعاية طاقم السفينة قد اكتسبت سمعة طيبة ما زالت مستمرة في تركيا التي كانت مركز الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت. وقد تعزز الشعور بهذه المودة من خلال ظروف مشتركة في المعاناة من الجانبين جَرّاء معاهدات جائرة فرضتها القوى الغربية.

السفينة ”ارطغرل“ وهي راسية في الأستانة (إسطنبول حاليا). تاريخ ووقت التصوير غير معروفين.

سمعة طيبة وليدة الكارثة

ويجدر القول إنّ الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد الثاني كان مُعجباً بشكل كبير بمسيرة التحديث السريعة التي انتهجتها اليابان في أعقاب استعادة وإصلاح فترة حكم الإمبراطور مييجي عام ١٨٦٨. فقد تقربت حكومته من اليابان على أمل بناء علاقات صداقة، وقابلت حكومة مييجي هذا المسعى بإرسال الأمير كوماتسو نو مييا أكيهيتو إلى الأستانة عام ١٨٨٧ للتأكيد على عمق المشاعر المتبادلة. وواصل العثمانيون من جانبهم ذلك من خلال إرسال الفرقاطة ارطغرل في زيارة حسن نوايا إلى اليابان في شهر يوليو/تموز ١٨٨٩.

وقد ترأس البعثة العثمانية الأدميرال علي عثمان باشا. ووصل مع طاقم السفينة المكونة من ٦٠٠ بحار ومسؤول على متن السفينة ارطغرل التي يبلغ وزنها ٢٣٤٤ طن وطولها ٧٦ متر إلى يوكوهاما في شهر يونيو/حزيران ١٨٩٠ بعد رحلة بحرية طويلة اكتنفها العديد من المشاكل لكن أثناء تواجد تلك البعثة في اليابان حظي الأدميرال بفرصة مقابلة الإمبراطور مييجي حيث قام بالتعريف عن السلطان العثماني من خلال تقديم هدايا ووسام بارز من الإمبراطورية العثمانية.

شاطئ محافظة واكاياما الصخري بالقرب من موقع غرق السفنية ارطغرل.

وبعد ثلاثة أشهر من الإقامة في اليابان، كان من المقرر أن تبدأ السفينة ارطغرل الإبحار من يوكوهاما في طريق عودتها في الـ١٥ من سبتمبر/أيلول وعندما حان وقت الإبحار خسر الطاقم حينئذ عددا من أفراده نتيجة انتشار وباء الكوليرا، ولكن الأسوأ كان بانتظار البعثة التي كتب عليها الغرق. فقد واجهت السفينة إعصارا بعد يوم من انطلاقها من يوكوهاما. وتقاذفتها الرياح والأمواج طوال ليل الـ١٦ من سبتمبر/أيلول، وفي نهاية المطاف تحطمت السفينة على صخرة قبالة جزيرة كيي أووشيما في منطقة كانساي والتي تقع فيها حاليا بلدة كوشيموتو بمحافظة واكاياما.

وقد لقي ٥٨٧ بحارا ومسؤولا من بينهم الأدميرال علي عثمان باشا وكابتن السفينة مصرعهم. علماً أنَّ سكان جزيرة كيي أووشيما قاموا بتحدي الإعصار وبذلوا جهودا محمومة لإنقاذ ٦٩ فردا من طاقم السفينة. وقد وصلت أخبار أعمالهم البطولية بسرعة إلى تركيا ما أدى إلى تدفق سيل من المشاعر المحبة لليابان. ولا تزال هذه المشاعر متواصلة، مما أوحى بفكرة تصوير فيلم سينمائي ”Kainan 1890“ للحادثة من إنتاج ياباني تركي مشترك، وبحيث يتم عرضه في مسارح كلا البلدين في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام ٢٠١٥.

معاهدات جائرة

إن إرسال بعثة نوايا حسنة من قبل الإمبراطورية العثمانية إلى اليابان المتواجدة على الطرف الآخر من العالم كان منبعه شعور بالمصير المشترك. فالعثمانيون يشبهون اليابانيين في أنهم كانوا أيضا شعبا يفخر بحضارته. كما يشبهون اليابانيين في أنهم متأخرون كذلك عن نظرائهم الغربيين في التطور الصناعي والاقتصادي كما أن كلا الشعبين عانيَا من الإهانة جراء معاهدات جائرة فرضت عليهما من قبل القوى الغربية.

كما كان هناك كارثة بحرية أخرى وقعت قبالةَ سواحل شبه جزيرة كيي قبل ٤ سنوات من غرق ارطغرل حيث سلطت الضوء على تصورات اليابانيين للتمييز من قبل الغرب. فخلال هذه الكارثة، غرقت سفينة الشحن البريطانية ”نورمانتون“ في عاصفة أثناء إبحارها من يوكوهاما إلى كوبي في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام ١٨٨٦.

وكان على متن نورمانتون ٢٥ مسافرا و٣٨ فردا من طاقم السفينة التي يبلغ وزنها ٢٤٠ طن. وقد تمكن قبطان السفينة البريطاني و٢٥ فردا من طاقم السفينة الأوروبيين - إنجليز وألمان - من ركوب قوارب النجاة والوصول إلى بر السلامة. وعلى النقيض، فقد قضى الركاب الـ٢٥ وجميعهم من اليابانيين و١٢ فردا من طاقم السفينة الآسيويين - هنود وصينيين - ولقوا حتفهم غرقا في البحر.

وصعق قادة حكومة مييجي في اليابان من المصيرين المتناقضين للأوروبيين والآسيويين الذين كانوا على متن السفينة نورمانتون. ولكن المعاهدات الجائرة التي سبق إبرامها مع القوى الغربية كانت تحرمهم من حق مقاضاة قبطان السفينة وطاقمها. ثم عقد البريطانيون جلسة استماع في قنصليتهم بكوبي تحت إصرار اليابانيين. وكانت النتيجة بعد ٦ أشهر من الواقعة أن تلقى قبطان السفينة عقوبة بسيطة بينما تمت تبرئة أفراد الطاقم الأوروبيين بشكل كامل.

وأحدثت نتائج جلسات الاستماع حالة من الغضب في المجتمع الياباني. وطالب الناس حكومتهم بإلغاء بنود المعاهدة التي تنقل السلطات القضائية إلى قنصليات الدول الغربية. وقد كانت ردود الفعل الشعبي صاخبة جدا مما شكّل مشاعر إحباط وخيبة كبيرة لدى حكومة مييجي. وفي نهاية المطاف، توصلت بريطانيا إلى إبرام معاهدة مع اليابان في عام ١٨٩٤ تقر بموجبها بسلطة المحاكم اليابانية في مقاضاة البريطانيين وبعد ذلك حذت القوى الغربية حذو السلطات البريطانية في هذا الصدد.

اليسار: الأدميرال علي عثمان باشا، اليمين: أفراد طاقم سفينة ارطغرل (كلتا الصورتين محدثتان ومأخوذتان في موقع غير محدد).

جهود مخلصة لإنقاذ حياة الناجين

حث مسؤولو البحرية اليابانية قبطان سفينة ارطغرل على إرجاء موعد مغادرة السفينة نظرا لأن موسم الأعاصير كان قد بدأ كما أن صلاحية الإبحار كانت موضع قلق للسفينة الخشبية التي وضعت قيد الاستخدام منذ ٢٦ عاما. إضافة إلى تعرّض السفينة لسلسلة من الحوادث خلال رحلتها البحرية الطويلة في طريقها إلى اليابان حيث استلزم ذلك باستمرار إجراء تصليحات مؤقتة، وقد ناشد المسؤولون اليابانيين قبطان السفينة تمديد إقامته والتأكد من إجراء تصليحات شاملة لهيكل السفينة وأجزاء أخرى منها تحتاج إلى صيانة.

ولكن قبطان السفينة ومسؤوليها رفضوا مناشدات المسؤولين اليابانيين لأنهم كانوا يشعرون بأن تأخير مغادرتهم سينم عن ضعف في الإمبراطورية العثمانية وسيجلب لها العار، فقد كانوا ينظرون إليها على أنها حامل لواء الإسلام. وقد أبحروا وفق المخطط من يوكوهاما في الـ١٥ من سبتمبر/أيلول في رحلتها الأخيرة المشؤومة.

وبعد أن تحطمت الفرقاطة، تمكن ٦٩ فردا من طاقمها من النجاة من خلال اتباع شعاع الضوء الصادر من منارة كاشينوزاكي، التي توجد على الحافة الشرقية لجزيرة كيي أووشيما. وكانت تلك المنارة واحدة من ٢٦ مبنية في اليابان وفق تصاميم للمهندس الإسكتلندي ريتشارد برونتون. وبدأ العمل بها في يوليو/تموز من عام ١٨٧٠ كأول منارة في اليابان تبنى من الحجارة وأول منارة تستخدم إضاءة دائرية وامضة، وهي ﻻ تزال قيد الخدمة حتى اليوم الحالي.

وتمكن بعض الناجين من تسلق جرف صخري بارتفاع ٤٠ مترا للوصول إلى المنارة حيث طلبوا المساعدة. ومع وصول أخبار الكارثة، تسابق العديد من سكان الجزيرة إلى مكان الإعصار وقد أمضوا الليل وهم يجاهدون في إنقاذ البحارة والموظفين الذين كانوا يتشبثون بصخور أسفل المنارة من جانب وكذلك في انتشال الجثث من الأمواج من جانب آخر.

وكانت آنذاك جزيرة كيي أووشيما تحتوي على ٣ قرى بلغ إجمالي عدد المنازل فيها ٤٠٠ منزل. وكان الناس يعانون من شظف العيش لكنهم شاركوا مؤنهم المحدودة بكرم وسخاء مع الأتراك. ثم تولت سفنٌ يابانية وألمانية مهمة نقل الناجين إلى كوبي، كما أرسل الإمبراطور مييجي وزوجته الإمبراطورة طبيبهم الخاص و١٣ ممرضة من فريقهم الطبي الخاص إلى كوبي للمساعدة في تقديم الرعاية الصحية لهم.

رعاية بلا مقابل

غادر ناجو سفينة ارطغرل طوكيو متوجهين إلى الأستانة على متن السفينتين الحربيتين اليابانيتين هيئي وكونغو في أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول عام ١٨٩٠. ووصلوا بسلام في يناير/كانون الثاني ١٨٩١ ما أحدث سيلا من مشاعر الامتنان الشعبي تجاه اليابان.

صورة للسفينة الحربية كونغو وهي راسية في الأستانة عام ١٨٩١.

نصب تذكاري للسفينة ارطغرل في محافظة واكاياما.

وقد سلط اكتشاف جرى مؤخرا لوثيقة في معبد بجزيرة كيي أووشيما الضوء على الأحداث التي تلت كارثة ارطغرل. وتلك الوثيقة هي نسخة عن رسالة من ثلاثة أطباء يابانيين قدموا الرعاية الطبية للناجين في الجزيرة وقد كُتبت استجابة لطلب من تركيا بإرسال فاتورة تكاليف الرعاية الطبية التي قدموها. ولكن الأطباء رفضوا الطلب قائلين إنهم ببساطة تصرفوا بدافع التعاطف ولم يكن بنيتهم على الإطلاق تقاضي رسوم لقاء خدماتهم.

وعلى قمة تلة تطل على موقع الكارثة في جزيرة كيي أووشيما ينتصب نصب تذكاري يُخَلِّد أرواح الذين قضوا هناك. وتقيم بلدة كوشيموتو مراسم تذكارية كل ٥ سنوات لتكريم الضحايا. وقد تجمع هذا العام عند النصب التذكاري نحو ٦٠٠ شخص من تركيا واليابان في ذكرى مرور ١٢٥ عاما على الكارثة.

وقد أقيمت مراسم تذكارية خاصة في يونيو/حزيران من عام ٢٠٠٨ حضرها الرئيس التركي في ذلك الوقت عبد الله غول الذي سافر إلى الجزيرة خلال زيارة رسمية كان يقوم بها إلى اليابان ووضع إكليلا من الزهور على النصب. وقد كان غول أول رئيس تركي يزور المكان خلال توليه المنصب.

ويشهد موقع الحطام أعمال تنقيب وحفريات بالإضافة إلى إقامة مراسم تأبين للضحايا فقد بدأ فريق متعدد الجنسيات من علماء آثار ومؤرخين نشاطاته باستكشاف قاع البحر هناك عام ٢٠٠٧ حيث تم العثور على أكثر من ١٠٠٠ قطعة عام ٢٠٠٨.

رد الجميل

وقد انتهزت الحكومة التركية الفرصة عام ١٩٨٥ لترد الجميل الذي أسدته اليابان لها قبل ٩٥ عاما. فقد كانت مجريات الحرب الإيرانية العراقية تتصاعد في ذلك الحين، ووجه الرئيس العراقي صدام حسين في الـ١٧ من مارس/آذار إنذارا مدته ٤٨ ساعة مفاده بأن جيشه سيبدأ باستهداف حتى الطائرات التجارية فوق إيران. وجراء هذا التهديد علِق عمليا أُلوف المغتربين في البلاد، بما فيهم أكثر من ٢٠٠ شخص من اليابانيين.

وقد أرسلت دول أخرى طائرات لإبعاد رعاياها عن الخطر. ولكن الحكومة اليابانية التزمت بتفسير للدستور يمنع - منذ تعديله - إرسال طائرات تابعة لقوات الدفاع الذاتي الجوية اليابانية من أجل مثل هذه الأغراض. كما تحفظت شركات الطيران التجارية اليابانية عن القيام برحلات طيران مستأجرة بسبب وجود مخاطر.

وبدأ اليابانيون الذين تجمعوا في مطار مهرآباد الدولي في طهران بفقدان الأمل بمغادرة البلاد. ولكن الحكومة التركية أرسلت طائرتين لنقل ٢١٥ يابانيا إلى بر الأمان استجابة لطلب من الحكومة اليابانية. ويجدر التنويه إلى أن أكثر من ٥٠٠ من المغتربين الأتراك في إيران اضطروا للإجلاء عبر الطرق البريّة. وعندما أعربت اليابان عن تقديرها للتصرف التركي في إنقاذ مواطنيها، أشار مسؤولون أتراك إلى ما يكُّنُه شعبهم من عرفان بالامتنان وَرَّد للجميل حول كارثة السفينة ارطغرل.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية بقلم موراكامي نارؤوهيسا من Nippon.com ومنشورة في ١٦ سبتمبر/أيلول ٢٠١٥. الترجمة من الإنكليزية. المقالة تتضمن صوراً مأخوذة من منشورات صادرة عن بلدة كوشيموتو. صورة العنوان: قائد البحرية التركية بولنت بوستان أوغلو وتاشيما كاتسوماسا عمدة كوشيموتو يتصافحان خلال مراسم تذكارية في ٣ يونيو/حزيران ٢٠١٥، ويقفان أمام مجسد برونزي للسفينة ارطغرل مقدم كهدية من الحكومة التركية. جيجي برس)

تركيا