مشكلة التنمر في المدارس اليابانية

مجتمع ثقافة التعليم الياباني اللغة اليابانية

عاد موضوع البلطجة والإضطهاد في المدارس إلى دائرة الضوء مرة أخرى في أعقاب حادث الانتحار المروع في أكتوبر/ تشرين الاول ٢٠١١ لطفل عمره ١٣ عاما، من أوتسو/ Ōtsu، محافظة شيغا، وذلك بعد نشر دراسة حكومية أظهرت زيادة مستمرة في عدد الحالات المبلغ عنها والمتعلقة بالبلطجة. سوغيموري شنكيشي/ Sugimori Shinkichi يناقش العوامل الثقافية، الاجتماعية والاقتصادية وراء هذا الوباء وعما يمكن للبالغين القيام به بقصد المعالجة من ذلك الوباء.

يحدث التنور بين الأطفال في كل أرجاء العالم، وحيثما يحدث فإنه يبدي بعض السمات المشتركة. كما يمكننا أيضا التمييز بين الاختلافات في أنواع التنمر السائدة، لاسيما في طرق استجابة ضحاياها، ومواقف المتفرجين عليها. ومن خلال تحليل أوجه التشابه والاختلاف هذه، يمكننا أن نبدأ في فهم العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء التحرش في المدارس الذي برز كمشكلة اجتماعية كبيرة في اليابان.

السيناريو الشائع

يمثل كل من التنابز بالألقاب والإغاظة أنوعاً من التنمر والبلطجة الأكثر شيوعاً في جميع أنحاء العالم، وذلك وفقاً لما بينتّه نتائج الدراسة الدولية عام ٢٠٠١ (الشكل ١).

ويُعد هذا النوع شكلاً خفيفاً نسبياً من المضايقات كما أنه ذو مخاطر قليلة، ولذلك فإن هذا النوع من التصرفات تحدث غالباً في جميع الثقافات، وخاصة خلال المراحل الأولى للتنمر. إلا أنّ البلطجة الجسدية تميل من ناحية أخرى إلى الانتشار في المجتمعات التي تتسم بالعنف حيث تُجبر فيها الناس على التنافس من أجل البقاء. حيث نشاهد انحطاطاً في مستوى الأخلاق وزيادة في خرق القوانين في المجتمعات التي يسود فيها البقاء للأقوى والتي تسمح للموارد الاقتصادية والاجتماعية من دخلٍ ومرتبةٍ اجتماعيةٍ وفرصٍ تعليمية وغيرها بالتركز في أيدي فئة قليلة من الناس. ولعل سيطرة هذه العوامل ضمن مجتمع الكبار ينعكس بدوره بشكل او بآخر على طريقة تعامل الأطفال مع بعضهم البعض.

ووفقا لفرضية الاعتداء-الإحباط، فانّ العدوان على الأبرياء الذين لا يشكلون أي تهديد يحدث عندما يكون الناس غير قادرين على التحكم بمشاعرهم العدوانية تجاه السبب الفعلي الذي دفعهم للإحباط. فمن الواضح أن أغلب حالات البلطجة بين الأطفال تصدر من قبل أولئك الذين يعانون من الإحباط نتيجة لضغوط في المدرسة أو في المنزل. لهذا السبب، يعتبر الحوار مع الجناة أحد الطرق للحد من هذا الوباء.

وفيما كانت البلطجة في ساحات المدارس تقليداّ من اختصاص الأقوياء، فقد قدّمت شبكة الإنترنت والهواتف الخلوية وغيرها من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتقدمة فرصة لأي شخص يريد التعبيرعن نفسه والتنفيس عن إحباطه وغضبه من خلال البلطجة اللفظية عبر الشبكة العنكبوتية مع إبقاء شخصيته مجهولة والتي تظهر أحيانا تحت اسم آخر مستعار. وهكذا ظهر عالم إفتراضي يمكن فيه لأي شخص محبط أو مكبوت أن يصبح بلطجياً خفياً من خلال شبكة الإنترنت، ولعل السؤال المطروح للآباء والمعلمين هو إيجاد طريقة لتربية الأطفال وتمكينهم من التعامل مع حالات الإحباط التي قد يمّروا بها دون اللجوء إلى البلطجة.

في أغلب الأحيان يكون المعتدون أطفالاّ يتمتعون بشعبية وذكاء ويحظون بمهارات اجتماعية جيدة. إن الأطفال المحبوبين من قبل أقرانهم والكاسبين ثقة المعلمين وغيرهم من البالغين هم الأكثر قدرة على حشد الدعم لحملاتهم وسترها عن السلطات.

أنماط البلطجة في اليابان

عندما كان العنف والجريمة أمران شائعان نسبياً خلال السنوات العجاف في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، كان فكر الترهيب إنعكاسا لعقلية ”البقاء للأقوى“ التي نوقشت أعلاه. حيث لا تعتبر البلطجة في مثل هذه المجتمعات أمراّ حتمياّ فحسب بل تتعداه لتصبح جزءا طبيعياً وأساسياً للنمو والاندماج مع المجتمع. حيث يتم تعليم الأطفال أنه من الأفضل ممارسة الضغط والإضطهاد عوضا عن تلقيهما، كما يخضع ضحايا البلطجة للوم بدلا من تلقي التعاطف والشفقة.

لقد ولى زمن ما بعد الحرب الذي خلف مجتمعاً يعاني من الحرمان وانعدام القوانين، إلا أنّ الفوارق الاقتصادية التي نجمت عن انفجار الفقاعة الاقتصادية (تدهور النمو الإقتصادي) في الثمانينات خلقت من جديد مجتمعاً غير متجانس تتفاوت فيه الطبقات الإجتماعية تفاوتاً حاداً. ترعرع  فيه الأطفال الناشئين في بيئة يزدهر فيها أغنيائها على حساب فقرائها، والذي يتسم بكون الضعفاء أكثر عرضة للاضطهاد المنهجي. ولعل هذا النوع من البلطجة أو الإضطهاد هو الذي أدى إلى انتحار طالب في الصف الثاني الإعدادي بأوتسو/ Ōtsu (محافظة شيغا/ Shiga prefecture) في أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١١، وطالب آخر في الصف الثالث الثانوي بكوبي Kobe عام ٢٠٠٧. وكانت الدوافع وراء هذين الانتحارين سلسلة من الاعتداءات الجسدية يجدر نعتها بالسلوك الإجرامي. ويسمى هذا في بعض الأحيان ”ببلطجة النقر السلمي“. يشير اللفظ النقر السلمي إلى التسلسل الهرمي الاجتماعي الملاحظ بين الدجاج، أيّ يُعبَر عن الهيمنة بالنقر، حيث تنقر أقوى الطيور الأضعف، وتنقر هذه الأخيرة بدورها، الطيور الأضعف منها. وفي وقت التغذية، يطرد أقوى الطيور الضعفاء، وبذلك يحدد نظام النقر السلمي الترتيب الذي يأكل فيه الدجاج. ويظهر هذا السلوك خاصة عندما يكون هنالك نقص في الغذاء (أو الموارد في المجتمع البشري).

بالإضافة إلى الاعتداء الجسدي أو على ممتلكات الضحية (الأكثر شيوعا عند الأولاد)، كثيرا ما يأخذ الترهيب شكل العدوان السلبي (أكثر شيوعا بين الفتيات)، الذي ينطوي على إبعاد الضحية من المجموعة من خلال النبذ​​، النميمة، أو ”التجاهل“ أي بعبارة اخرى المعاملة الصامتة. تميل الفتيات في مرحلة الدراسة إلى الاعتماد بشكل كبيرعلى علاقاتهن داخل مجموعة من الأقران بحثا عن السعادة والشعور بالأمان ، كما يعتبرنَ تبادل الكلام مع أصدقائهن وصديقاتهن بشكل شبه مستمرعلى قدر كبير من الأهمية. في حين يبحث الأولاد بدورهم أيضا على الأمن ضمن مجموعة الأقران لكنهم على الأرجح يدعمون ويؤكدون تلك العلاقات من خلال النشاط البدني، مثل المشاركة في الألعاب الرياضية، بدلا من الحديث. وتؤكد نظرة سريعة على الشكل ١ أن التجاهل والعزلة هي وسيلة بلطجة شائعة بين الفتيات أكثر مما هي بين الأولاد.

يكشف الشكل ١ أيضا أن النبذ من المجموعة بالأخص شائع في اليابان. في مجتمع يركز كثيرا على مكانة الفرد ضمن الجماعة فإن أي شكل من أشكال البلطجة التي تسبب أضراراً في علاقات الشخص مع الجماعة مرهقة للغاية وقوية على وجه الخصوص. قد يحدث هذا النبذ ضرراً أقل للأشخاص الذين ليست لهم مشاكل في التصرف على انفراد وكذلك للناشئة ممن يؤمن بفكرة أن كل شخص فريد من نوعه وبالتالي نجد طريقة التفكير هذه أكثر انتشاراً عند المجتمعات الغربية.

تعالج الدراسة التي أجريت على فترة طويلة (من ٢٠٠٤ حتى ٢٠٠٩) والتي أجراها المعهد الوطني للبحوث في السياسة التعليمية لمعرفة عدد الطلاب اليابانيين من الصف السابع (المرحلة الاعدادية) ممن عانوا من التجاهل أو النبذ ​​اعتبارا من يونيو/ حزيران ٢٠٠٤. ومن ثم تلى ذلك فَحص نفس المجموعة من الأطفال وبنفس الطريقة بعد عامين في نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠٠٦. أظهرت الدراسة أن النسبة قد ارتفعت من ٤١٫٦٪ إلى ٨٠٫٣٪. كما استنتجت الدراسة ان نحو ٩٠٫٣ ٪ من احدى العيّنات من طلبة الصف الرابع، ممن شملهم الاستطلاع في عام ٢٠٠٤ تعرّض للنبذ من المجموعة منذ تلك السنة وحتى ٢٠٠٩ عندما أصبحوا في الصف التاسع.

رد الفعل السلبي والدفاع الجماعي عن النفس

جاءت احدى أسئلة الاستطلاع الدولي على النحو التالي ”إذا رأيت شخصاّ يتعرض للبلطجة فهل ستتدخل لإيقاف ذلك الأذى؟“. وإشارت النتائج في بلدان أخرى غير اليابان أن النسبة المئوية للإجابة بـ ”نعم“ ترتفع بثبات إلى حد يتناسب وعمر أفراد العينة. بينما أشارت النسبة المئوية للإجابات بـ”نعم“ في اليابان الى انخفاض على مدى السنوات الأربع الموافقة للصف الخامس إلى الصف الثامن، والتي تمثل أيضا الفترة التي تميل البلطجة فيها لتكون أكثر انتشارا. أو بعبارة أخرى، خلال مرحلة المراهقة المبكرة يكون الأطفال اليابانيين أكثر توجهاً لتجاهل البلطجة، أو للمرور بها دون أي رد فعل يذكر، وذلك خلافاً لما هم عليه قبل أو بعد هذا السن. وهكذا فإن الإرادة الجماعية للفريق عبارة عن مجموعة من الافتراضات غير المعلنة التي تتخلل البيئة وتؤثر على استجابة الطفل لحالة معينة.

وثمة عامل آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو ما إذا كان ضحايا البلطجة أو التنمر يلومون أنفسهم (معاقبة الذات) أو يلومون البلطجي (إلقاء اللوم على الآخرين). حيث أنّ البلطجة الشديدة هي الأكثر في الغالب التي تدفع للانتحار في حال كون استجابة الضحية معاقبة الذات، أما في حالة كون الضحية من النوع الذي يلقي اللوم على الآخرين فإن البلطجة بالأحرى قد تؤدي به للقيام بأعمال انتقامية. اما في المجتمعات التي تؤكد مبدأ الفردية والاعتماد على النفس فمن الأرجح لضحايا البلطجة إلقاء اللوم على البلطجي واتخاذ خطوات مستقلة للدفاع عن أنفسهم. وفي مجتمع يميل إلى نظام المجموعات مثلما هو الحال في اليابان، حيث يشعر الأفراد في كثير من الأحيان بأنهم مجبرون على تصحيح أي قصور أو خلافات شخصية قد تفرض عليهم عدم موافقة عناصر المجموعة، وهنا يكون الناس أكثر عرضة للوم أنفسهم إن أهينوا أو انتقدوا من قبل الآخرين. ولذا يميلون أكثر للاعتماد على أعضاء الجماعة والأقران بحثا عن الدعم والحماية. وبما أن معظم حوادث البلطجة في اليابان تجري بداخل مجموعة الأقران يتعرض ضحايا البلطجة للإيذاء من قبل الناس الذي من المفترض أن يدافعوا عنهم. فالاعتماد على الجماعة والميل إلى لوم النفس تزيد من تفاقم معاناة ضحايا البلطجة اليابانية وتساهم في ارتفاع معدلات الانتحار عند الشباب.

حسب إحصاءات وزارة التربية، التعليم، الثقافة، الرياضة، العلوم والتكنولوجيا (MEXT)، أظهرت السنة المالية ٢٠١١ ما يقرب من ٢٧ حالة انتحار عند الفتيان و١٢ حالة عند الفتيات من بين طلبة المدارس الإعدادية، أما في المدارس الثانوية فقد بلغ عدد حوادث الانتحار عند الفتيان ١١١ حالة ممن تم الابلاغ عنها و٤٦ حالة عند الفتيات (الشكل ٢). وفي الوقت نفسه أشارت الإحصائيات الصادرة عن وكالة الشرطة الوطنية إلى أن حوالي ٧٠٪ من جميع حالات الانتحار بين عامي ١٩٩٨ و٢٠١٠ كانت من قبل الفتيان. في حين لم تحدد اي جهة مختصة البلطجة والإضطهاد كسبب من بين أسباب الانتحار، وبالتالي فإنه يبدو من المعقول أن نستنتج من البيانات الموجودة أن الانتحار المرتبط بالبلطجة هو أيضا عند الذكور ضعف إلى ثلاث مرات أكثر انتشارا عما هو عليه الحال عند الفتيات.

يعتقد الخبراء أن هذا الاختلاف بين الجنسين يرجع لكون الفتيات يتحدثن أكثر مع الآخرين في حالة حدوث ضغط عصبي عليهن أوعند الوقوع في ورطة، كما انهن يملكن طاقة احتمال أكثر لجذب الانتباه لهن ولتلقي المساعدة. أما الفتيان بدورهم أكثر ميولا للصمت ومحاولة تدبر الحلول بأنفسهم. وفي نهاية المطاف عندما لا يجدوا مخرجا يلوموا أنفسهم مما يدفعهم لإنهاء حياتهم بأيديهم. هذا يعني أننا يجب أن نعمل بجد لتعليم الفتيان التحدث عندما تّلم بهم مصيبة بدلا من الكتمان والذي يؤدي لتلك العواقب الكارثية.

يلزمنا أيضا توفير بيئة أكثر دعما مما هي عليه الآن. ولعل إحدى الوسائل للسعي إلى ذلك هي خلق المزيد من فرص التبادل بين أطفال مختلف الأعمار. (في المجتمع الياباني التقليدي، ومع كون السن أساس التسلسل الهرمي للعلاقات، فقد حدثت التنشئة الاجتماعية في سياق اختلاط المجموعات ذات الأعمار المختلفة). وهنالك طريقة أخرى، قد تتمثل في توفير المزيد من الفرص للأطفال لبناء علاقات داعمة مع الكبار. وفي الوقت نفسه، علينا أن نضاعف جهودنا لتعليم الأطفال أن البلطجة سلوك وحشي غير مقبول اجتماعياً.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية، ٤ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٢)

المراجع:

١) Child Research Net: http://www.childresearch.net

٢) موريتا يوهجي/ Morita Yohji، إجيمي نو كوكوساي هيكاكو كنكيو، نيهون، إجرس، أوروندا، نورواي، نو تشوزا بونسكي
(مقارنات الدولية للبلطجة تحليل لدراسة استقصائية للبلطجة في اليابان، بريطانيا، هولندا والنرويج)، كانيكو شوبو/ Kaneko Shobō، ٢٠٠١.

٣) واتس.م / Watts, M، (١٩٩٨) وجهات النظر عبر الثقافات حيال الشباب والعنف، مطابع جاي/
Cross-Cultural Perspective on Youth and Violence, JAI Press

٤) المعهد الوطني لبحوث السياسة التعليمية ” إجيمي تسويسكي تشوزا ٢٠٠٧-٢٠٠٩“ (استطلاع  مستمر للآراء حول البلطجة ٢٠٠٧~ ٢٠٠٩)

التعليم المدرسة الانتحار العنف الجسدي والمعنوي العدوان الفتيات أطفال