زلزال المظاهرات يهز عرش التنين الصيني

سياسة

يراقب العالم عن كثب التطورات في هونغ كونغ، حيث احتجت القوى المؤيدة للديمقراطية على التعديلات على نظام الانتخابات المقترح من بكين للمدينة. وقد اتخذت السلطات الصينية موقفا حازما في مواجهة تلك الاحتجاجات، مما زاد من إمكانية استمرار مواجهة طويلة الأمد بين الجانبين. ”كوراتا تورو“، وهو أستاذ مشارك في جامعة ”ريكيو“، يقوم بدراسة تلك الاحتجاجات، والتي يعتبرها كاحتلال الخط الأمامي من ”حرب باردة“ جديدة.

في ٢٨ سبتمبر/أيلول خرج سكان ”هونغ كونغ“ إلى الشوارع بأعداد غفيرة، مطالبين بحق اختيار الرئيس التنفيذي للمدينة وذلك من خلال إجراء انتخابات حرة نزيهة. وقد قامت الشرطة بإطلاق الغازات المسيلة للدموع ورذاذ الفلفل على تلك الحشود في محاولة لتفريق التظاهرة، مما أدى لقيام المحتجين بالشروع في احتلالٍ مستمرٍ للطرق الرئيسية في الحي المالي للمدينة.

ولربما يبدو على السطح، أن هذه الأحداث ليست أكثر من مجرد احتجاجات سلمية من قبل الطلاب العزل والمواطنين العاديين على طريقة الانتخابات التي ستحدد أعلى منصب في المدينة. لكن الأحداث في هونغ كونغ سرعان ما أصبحت نقطة محورية في السياسة الدولية، حيث يعلق الزعماء الغربيون علناً على الحركة الاحتجاجية، وغلاف مجلة تايم يضم ”جوشوا ونغ“، الذي يرأس واحدة من جماعات الاحتجاج المؤثرة.

ولعل أحد الأسباب وراء هذا الصدى الواسع على المستوى الدولي للحركة الديمقراطية في هونغ كونغ هو أن القضايا المطروحة ليست فريدة بالنسبة للمدينة. كما أن لها تداعيات كبرى على الحكومة المركزية الصينية والسياسة الدولية.

آثار الديمقراطية على غرار النمط البريطاني

لقد بدأت التحركات نحو الديمقراطية في هونغ كونغ في ثمانينيات القرن الماضي بالتزامن مع بدء محادثات تسليم المدينة بين الحكومتين البريطانية والصينية. وكما هو الحال مع غيرها من الأقاليم كان القادة في لندن قد سعوا من قَبل لغرس الديمقراطية على غرار النمط البريطاني في المستعمرة قبل إعادتها عام ١٩٩٧. وقد حاربت بكين هذه التوجهات بقوة، لكنها أعربت عن رغبتها في النهاية بالحفاظ على الديمقراطية بعد عملية نقل السلطة، والحفاظ على بند عام ١٩٩٠ في قانون هونغ كونغ الأساسي والذي ينص على أنه يتم اختيار الرئيس التنفيذي للمدينة من خلال انتخابات شعبية. وكان العديد من سكان هونغ كونغ خلال ذلك الوقت يشعر بالاضطراب وعدم الارتياح حول إعادة المدينة لبكين والخوف من المستقبل وجعل ما هو قادم تحت سيطرة الحزب الشيوعي الصيني. لكنّ وَعدَ بكين بالسماح لهونغ كونغ بالاحتفاظ بالحق في اختيار زعيم المدينة ساعد على كبح جماح تلك المخاوف.

ومنذ ذلك الحين، تميز منحى مسار هونغ كونغ نحو الديمقراطية بالصعود والهبوط. ولكن هونغ كونغ وصلت في ٣١ أغسطس/آب للحظة تاريخية عندما أعلنت اللجنة الدائمة لمؤتمر الشعب الوطني الصيني أن الانتخابات المفتوحة ستسمح لانتخاب رئيس السلطة التنفيذية في هونغ كونغ بحلول عام ٢٠١٧ وهذا يبدو وفاءً للهدف الديمقراطي الذي تم التصويت عليه لأول مرة في وقت سابق أي منذ ٣٠ عاماً لكن كان هناك خدعة واحدة في محاولة لاستبعاد المرشحين غير المرغوب فيهم، أعلنت بكين أن المرشحين الذين يحصلون على موافقة الأغلبية من لجنة الترشيح المتعاطفة مع الحكومة المركزية هم فقط من سيكونون مؤهلين لخوض الانتخابات.

وهذا يعني أن المرشحين الذين يحملون وجهات نظر معارضة لبكين سوف يتم استبعادهم بشكل فعال من الانتخابات. وغني عن القول إن الانتخابات لا تتضمن سوى المرشحين الذين تمت الموافقة عليهم مسبقاً والمتعاطفين مع الحكومة المركزية وهي بذلك تُعِّدُ أقرب إلى العملية الانتخابية للصين من تلك الموجودة في الغرب. فمنذ تسليم السلطة عام ١٩٩٧، استخدم الحزب الشيوعي الصيني سلطاته لإعادة صياغة الديمقراطية القائمة على النمط البريطاني والتي زُرِعَت أولا في هونغ كونغ إلى نظامٍ صيني حيث يتم التحكم في الانتخابات من جانب بكين. وبالمثل، فإن قرار الحكومة المركزية الصينية بشأن انتخابات عام ٢٠١٧ هو محاولة لإعادة تشكيل الديمقراطية في هونغ كونغ جنباً إلى جنب وبشكلٍ يتوافق مع النسق الصيني ورؤيتها الخاصة.

العصيان المدني في هونغ كونغ

دعاة الديمقراطية في هونغ كونغ يصرون على السعي بثبات نحو المعيار الديمقراطي العالمي للحق في التصويت بحرية، ورفض التحرك من جانب الصين لتثبيت نظام الانتخابات التي يتم التحكم فيها مركزياً. وكان قرار بكين هو ما حرض طلبة هونغ كونغ والمقيمون على النزول إلى الشوارع للاحتجاج.

كما كانت إحدى سمات الحركة المطالبة بالديمقراطية في هونغ كونغ التأثر بالقيم والمفاهيم الغربية، مع متظاهرين اعتمدوا ما قد يعتبر ”المعيار الدولي“ للاحتجاج. في بداية عام ٢٠١٣، حيث طرح ”بيني تاي“، وهو أستاذ مشارك في القانون بجامعة هونغ كونغ فكرة تنظيم الاحتجاجات بالاعتصام في الحي المالي المزدحم في هونغ كونغ حيث أطلق اسم حركة احتلوا المركز على المظاهرات التي خطط لها إذا فشلت بكين في توسيع الحقوق الديمقراطية لسكان المدينة ولعل. تاي، مثل الكثيرين من النخبة في هونغ كونغ تأثر بقوة بالأفكار الغربية، فقد درس بجامعة لندن، وهو مسيحي متدين وباحث في القانون الدستوري.

لقد كانت رؤية تاي التي تعتمد على حركة احتلال مؤلفة من سكان المدينة متأثرة بحركة العصيان المدني السلمي التي تبناها كل من مارتن لوثر كينغ، غاندي، ونيلسون مانديلا. وقال إنه تطلع أيضاً للإلهام من حركة - احتلوا وول ستريت - التي اجتاحت العالم في سبتمبر/أيلول عام ٢٠١١.

العالم كله يراقب

وقد لعبت الإنترنت والهواتف الذكية دوراً رئيسياً في جمع المتظاهرين معاً في حركة متماسكة متراصة. في اليوم الأول من الاحتجاجات، تم تبادل صور لا تحصى للشرطة وهي تستخدم الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل ضد المتظاهرين عبر الإنترنت عن طريق الهواتف المحمولة. وخرج السكان الغاضبون إلى الشوارع، وتوسعت رقعة الاحتجاجات بشكل كبير.

وتابَعَت وسائل الإعلام الغربية أنباء الاحتجاجات عن كثب، وَوفرَّت تغطيةً محدثة باستمرار عن الأحداث الجارية في تلك البقعة الملتهبة. وكان هناك لقطات مصورة للمتظاهرين وهم رافعين مظلاتٍ للحماية من رذاذ الفلفل الذي ترشه الشرطة، مما عزز الدعم الدولي للمتظاهرين في جميع أنحاء العالم. وكان الفيس بوك المحظوُر استعمَاله في الصين بمثابة خط أنابيب حيوي يربط هونغ كونغ مع الداعمين والأنصار لها في الخارج.

كمأ أن الطبيعة غير العنيفة للاحتجاجات زادت من مصداقية الحركة عالمياً، خاصة منذ أن تكشفت الأحداث على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام العالمية. وكانت هونغ كونغ والسلطات الصينية مترددة في إنهاء الاحتجاجات بالقوة طالما يتم تسليط أعين العالم على المدينة، مما ساعد الطلاب والمواطنين العاديين على الوقوف في وجه وحشية الشرطة، فضلاً عن الرغبة الجماعية للحقوق الديمقراطية الأساسية، وفي امتداد الاحتجاجات على نحوٍ أبعد من الحي المالي للمدينة.

معركة الأيديولوجيات

ولعل تأجيج المواجهة في هونغ كونغ يعني صراعاً بين نظامين سياسيين ألا وهما: نظام النمط الصيني الاستبدادي ونظام مؤسس على الحقوق الديمقراطية الأساسية. فجذور هذه المظاهرات تمتد في معركة عقائدية بين ”إجماع واشنطن“ الذي يتبنى الديمقراطية، فلسفة السوق الحرة من جانب و ”إجماع بكين“ لرأسمالية الدولة الاستبدادية من جانب آخر. وبالتالي فإنّ هونغ كونغ هي الآن في الخط الأمامي لتلك المواجهة لما لديها من قدرة على التطور إلى أزمة عالمية والتي يمكن اعتبارها حرباً باردة جديدة.

لقد أصبح حجم هذه الحرب الباردة الناشئة واضحاً مع امتداد وتوسع الاحتجاجات في هونغ كونغ. وقد حاربت الصين للحفاظ على عدم تجذر أفكار الديمقراطية على النمط الغربي على الصعيد المحلي. وفي حالة الفوضى التي أعقبت سقوط جدار برلين، تحرك الحزب الشيوعي الصيني بحزم لتعزيز سلطته، والاعتماد على القوة الغاشمة لقمع الانتفاضة الطلابية في ميدان ”تيانانمين“.

وحتى مع الصين حالياً والتي تعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، يبقى قادة الحزب مُدركين للتهديد الذي تمثله الحركات المطالبة بالديمقراطية على سلطتهم - مثل ثورة الياسمين في تونس و ”الثورات الملونة“ في الاتحاد السوفيتي السابق. ولا يوجد أي احتمال بأن بكين سوف تتراجع عن قرارها حيال الانتخابات في هونغ كونغ، لأن ذلك من شأنه تعزيز الحركة التي تنادي بالديمقراطية.

فالقادة الصينيون واثقون أنه من خلال أنصارهم المتبقين، بأن القوة العظمى لبكين سوف تروع وتخيف هونغ كونغ في نهاية المطاف، التي تشكل فقط ٠.٥٪ من تعداد سكان الصين وتمثل أقل من ٣٪ من ناتجها المحلي الإجمالي.

صحيح أن الحركة المطالبة بالديمقراطية في هونغ كونغ تفتقر إلى ما يكفي من النفوذ الاقتصادي أو القوة العسكرية للوقوف في وجه في الصين. وبرغم ذلك، يقف المتظاهرون في وجه السلطة في بكين من خلال تسليط الضوء على موقفهم كمستضعفين. ما يدعو إلى الأذهان القياس الذي قام به الروائي ”موراكامي هاروكي“ للشعور بالتعاطف تجاه البيضة الهشة في مواجهة القوة التي لا تقهر للجدار. وسيكون غير صحيح الافتراض بأن المتظاهرين بدأوا يَشعرُون بالعزلة. سيما وأن نداء المحتجين من أجل العدالة قد ضرب على وترٍ حساس في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي شجعهم على الوقوف ضد السلطات في بكين، والتي تفتقر لخيارات مرضية لإنهاء الاحتجاجات. ونستطيع القول إن تلك الديناميكية قد ذهبت بالوضع إلى طريق مسدود.

حازم لكن متردد

وربما تعكس تلك المُظاهرات أيضاً والتي طال أمدها الطبيعة الفاترة للحرب الباردة الناشئة حديثاً. فقد أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن قلقه إزاء الوضع في هونغ كونغ إلى وزير الخارجية الصيني "وانغ يى" خلال زيارته إلى واشنطن. ولكن بما أن الولايات المتحدة تسعى للحصول على مساعدة الصين في مكافحة ما يسمى الدولة الإسلامية ”داعش“ في سوريا والعراق، فالرئيس أوباما لم يضغط على الموضوع خوفا من أثارة غضب بكين.

وقد أعرب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أيضاً عن اهتمامه البالغ بالأحداث الجارية في هونغ كونغ. وكان لديه رد فعل إيجابي لإعلان أغسطس/آب الصادر عن اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني حيث رحب بها كونها خطوة قوية نحو انتخابات مفتوحة. لكن افتقارَ المجتمع الدولي للنفوذ من أجل الضغط على بكين يعني دعماً محدوداً للمتظاهرين المطالبين بالديمقراطية.

وفي غضون ذلك تجنبت صحيفة الشعب اليومية الناطقة بلسان الحكومة الصينية الإشارة بدقة إلى الاحتجاجات في هونغ كونغ على أنها ”ثورة“ وقللت بشدة القيام بأي مقارنات مع الثورات الملونة. فالطريقة الوحيدة للتعامل مع الاحتجاجات من وجهة نظر الحزب الشيوعي، هي تبني موقف حازم تجاهها. ولكن العالم قد تغير منذ أحداث ميدان تيانانمين. وبوصفها أكبر متبرع للاقتصاد العالمي، لا يمكن للصين أن تخاطر بعزل نفسها عن طريق إجراء حملة مماثلة لفرض النظام. سيما وأن السعر هذه المرة سيكون غالياً جداً، ولن تمضي الأمور بسلام.

وفي النهاية، فإن استراتيجية الصين تجاه الاحتجاجات ستكون حازمة ولكن دون اللجوء إلى إراقة الدماء. ولا يُمكن للسلطات الصينية أن تصل إلى حل وسط مع المتظاهرين، لكنها تحتاج أيضا إلى تجنب تكتيكات الذراع القوية التي يمكن أن تسفر عن وقوع إصابات. ولعل هذا الانقسام بين أيديولوجية ثابتة وتطبيق سلبي لها يجسد حربا باردة جديدة. وما يحدث في هونغ كونغ هو صورة مصغرة عن المشهد السياسي العالمي الشامل.

(النص الأصلي باللغة اليابانية بتاريخ ٢٢ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٤، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: لافتة معلقة من حاجز في منطقة ”مونغ كوك“ في هونغ كونغ يوم ١٦ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٤. الصورة من رويترز/ألفو)

الصين هونغ كونغ