«أوريغامي»... من الفن التقليدي إلى التقدم التكنولوجي

علوم تكنولوجيا ثقافة

الكلمة اليابانية ”أوريغامي“ تعني ”طي الورق“. منذ فترة طويلة، أصبحت هذه التقنية جزءًا من التراث الثقافي الياباني وانتقلت إلى مجالات متعددة خارج نطاق الفن التقليدي. استُخدمت تقنيات الأوريغامي في تطبيقات حديثة تشمل ميداني الفضاء الخارجي والتطبيقات الطبية داخل جسم الإنسان، مما يُظهر التأثير المتنوع والتطوير الذي حققه هذا الفن عبر العصور.

أصل فن الأوريغامي

”أوريغامي“ هو فن ياباني تقليدي يعني ”طي الورق“. تتألف كلمة ”أوريغامي“ من مقطعين: ”أوري“ الذي يعني ”طي“، و”غامي“ الذي يعني ”الورق“. يستند هذا الفن إلى استخدام تقنيات محدودة لطي الورق، حيث يمكن تشكيل هذه التقنيات المتنوعة إلى صور وأشكال ورقية. يمكن إنشاء العديد من الأشكال الزخرفية، مثل طيور الكركي اليابانية أو حتى الديناصورات. يستمتع الكثيرون في اليابان وخارجها بالتسلية بهذا الفن، حيث حقق شعبية واسعة بين المهتمين بالثقافة اليابانية في العديد من دول العالم.

يسار: زينة مهرجان تاناباتا مصنوعة من أوراق ملونة مطوية، يُقال إنها أوحت أسلوب التصنيع النموذجي للألواح التي يكون داخلها على شكل قرص العسل. يمين: هياكل تتكون من وحدات تشبه قرص العسل يمكن رؤيته في استخدامات الحياة اليومية مثل الصناديق المستخدمة في التعبئة. (الصورتان من هاغيوارا إيتشيرو).

في حقيقة الأمر، هناك طيف واسع من التطبيقات للتقنيات المستخدمة في فن الأوريغامي والتي تتجاوز صناعة طائر الكركي من الورق أو ما شابه. يشير هاغيوارا إيتشيرو، الأستاذ في منظمة التنسيق الاستراتيجي للأبحاث والممتلكات الفكرية في اليابان، إلى أن استخدامات الشركات لهذا الفن يمكن أن تصل إلى ما قيمته عدة ترليونات ين. وهي تمتلك المفتاح لفتح الأبواب أمام مجال جديد تماماً من الإبتكار.

وطبقا لهاغيوارا، فإن هناك مهندسين من بريطانيا استلهموا من الأوريغامي بعد الحرب العالمية الثانية، فكرة تطوير طريقة تُستخدم على نطاق واسع لتصنيع Honeycomb Core Panels (ألواح بداخلها وحدات تشبه قرص العسل) للاستخدام الصناعي. وتتم صناعتها من خلال ملء فراغ مسطح بأنابيب قصيرة سداسية الشكل تشبه خلايا قرص العسل. وهي تستخدم بشكل شائع في الأدوات المستخدمة يومياً، مثل مواد التعبئة المصنوعة من الورق المقوى. وتحتوي قطارات الشينكانسين في أرضياتها أيضا على ألواح من الألمنيوم داخلها ما يشبه قرص العسل لامتصاص الاهتزازات. كما أن ألواحاً مشابهة تلحق بأجسام الصواريخ المستخدمة في إطلاق الأقمار الاصطناعية، حيث تحمي الصواريخ من الاهتزازات الصوتية العنيفة الناجمة عن هدير المحرك.

عالمان يابانيان رائدان في هندسة الأوريغامي

الأمر المثير للسخرية نوعا ما فيما يبدو، هو أن هذه التقنية التي قيمتها عدة ترليونات ين والمستوحاة من الأوريغامي لم تستثمر اقتصادياً في اليابان وإنما في بريطانيا. ويذهب البروفيسور هاغيوارا أبعد من ذلك حيث يصف فشل المهندسين اليابانيين في الاستفادة من هذه الطريقة اليابانية التقليدية ”بالأمر المخجل“.

كان هاغيوارا أساسا مختصا بهندسة التصادمات حيث عمل في شركة نيسان موتور في مجال أبحاث التصادمات. وأصبح لاحقا أستاذاً في جامعة طوكيو للتكنولوجيا وكان مسؤولاً عن دراسات الهندسة التعاونية، وهو فرع يسعى إلى دمج آراء المستخدمين، مثلاً حول الركوب المريح للسيارات، بعمليات تطوير المنتجات. ولكن في عام 2002، سمع بمبادرة هندسة الأوريغامي التي يطورها نوجيما تاكيتوشي من جامعة كيوتو (هو الآن باحث في معهد ميجي للدراسات المتقدمة في العلوم الرياضية). وكان نوجيما قد أشار إلى خفة ومتانة الأوريغامي، بالإضافة إلى قدرتها على الانثناء والعودة إلى وضعها مرة أخرى، وأكد على أن تلك المواصفات المميزة يجب أن تكون مفيدة للأغراض الصناعية. وقد استهوت هاغيوارا هذه الإمكانات التي يتميز بها الأوريغامي وأنشأ مجموعة بحثية خاصة به لهندسة الأوريغامي.

وعن هذا الموضوع يوضح هاغيوارا بالقول إن ’’المشاعر مهمة في الهندسة التعاونية، مثل النظر إلى الترتيب الحلزوني لبذور زهرة عباد الشمس والتفكير بأنه جميل. وأعتقد أن استخدام الأشياء الجميلة يجعل من عقولنا أكثر حيوية. عندما سمعت أن البروفيسور نوجيما من جامعة كيوتو قدم عرضاً بشأن هندسة الأوريغامي في عام 2002، قلت في نفسي هذا هو“.

البروفيسور هاغيوارا من جامعة ميجي مع بعض أعضاء فريقه المكون من ١٢ باحثا من اليابان والصين وروسيا وفيتنام. (الصورة من يامادا شينجي).

تنامي الاهتمام العالمي

لا يزال هناك ميل للنظر إلى الأوريغامي في اليابان على أنه فن تقليدي فقط، ولكن هاغيوارا يشير إلى أن تكنولوجيا الأوريغامي تجتذب اهتماماً كبيراً حول العالم. فنحو 300 شخص من 30 بلداً حضروا الاجتماع الدولي السادس عن الأوريغامي في العلوم والرياضيات والتعليم الذي عقد في طوكيو في أغسطس/آب 2014.

أحد العوامل التي ساهمت في زيادة الاهتمام بالأوريغامي منذ تسعينيات القرن العشرين كان ظهور ”الأوريغامي الحاسوبية“، والتي دعمها نشوء تطبيقات برمجية للمساعدة على التصميم والمحاكاة. وفي عام 2012، قدمت مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية 16 مليون دولار لتدشين مشروع بحثي عن تقنية الأوريغامي. وتشهد الدراسات المبتكرة تقدماً، كما يظهر في مقالة عن صنع روبوتات ذاتية الانثناء مزودة برقاقات من لدائن ذكية نشرتها مجموعة بحثية من بين أعضائها البروفيسور إريك دمين، الأستاذ في علوم الحاسوب والهندسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (مجلة ساينس، 18 أغسطس/آب 2014).

إسيه ميياكي يتعاون في صناعة أزياء أوريغامي

فستان من تصميم إسّيه ميياكي، مطوي باستخدام تقنية الأوريغامي ويدعى ماكيتوري أو الالتفاف (الأسفل).
الصورة مقدمة من يامادا شينجي (أعلى) وهاغيوارا إيتشيرو (أسفل).

كما يمكن ملاحظة وجود العديد من المبادرات لدراسة واستخدام الأوريغامي حالياً في اليابان. فعلى سبيل المثال، تعاون مصمم الأزياء العالمي إسيه ميياكي مع نوجيما لإنتاج ملابس مستوحاة من الأوريغامي. وتستفيد تلك الملابس من نماذج أوريغامي ملتفة أو مطوية بطريقة مخروطية طورها نوجيما الذي استوحى الفكرة من الآلية التي تتفتح فيها براعم زهور اللبلاب بطريقة حلزونية عند تحولها إلى أزهار.

بينما التراكيب ذاتية الانفتاح التي تُصادف في الطبيعة مثل المحارات وأجنحة الحشرات وبذور دوار الشمس، فهي تقدم مواضيع دراسية مثيرة للاهتمام للباحثين في مجالات العلوم الفضائية والهندسة الميكانيكية. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2014، نشرت مجلة Proceedings of the National Academy of Science مقالة للبروفيسور سايتو كازويا من جامعة طوكيو مع آخرين بعنوان ”الطي غير المتماثل للأجنحة عند الخنفساء الرواغة“، وتأمل المقالة في القيام بدراسات مستقبلية تقود إلى تطبيقات في مجالات تتراوح بين آليات انفتاح ألواح البطاريات الشمسية للأقمار الاصطناعية إلى الأدوات المستخدمة يوميا مثل المظلات والمراوح اليدوية التي يمكن طيها.

من علب المشروبات إلى الأوعية الدموية

طريقة ”طي ميؤرا“ على اليسار ابتكرها ميؤرا كوريو الأستاذ الفخري في منظمة بحوث الفضاء اليابانية (جاكسا)، حيث يمكن طويها وإعادتها ببساطة عن طريق السحب أو الدفع من زاويتين متعاكستين. بينما النموذج الذي يشبه المعين، والذي تم ابتكاره أيضا في أبحاث ميؤرا حول الهندسة الفضائية، يستخدم في علب المشروبات كتلك الموجودة على اليمين.

طريقة ”طي ميؤرا“ معروفة جداً نظراً لاستخدامها في ألواح البطاريات الشمسية للأقمار الصناعية. بينما على المستوى اليومي أصبح ”نموذج يوشيمورا“ منظراً مألوفاً في اليابان، حيث تستخدم الطيات السطحية التي تكون على شكل المعين في صناعة علب القهوة والمشروبات الكحولية. ويمكن رؤية تطبيقات يومية أخرى في تصاميم قنينات الشرب البلاستيكية القابلة للطي بسهولة عندما تفرغ وأيضاً في طي الوسائد الهوائية للسيارات. وتتواصل الأبحاث حول تنويعة من التطبيقات المستقبلية، مثل استخدام ألواخ خشبية وفولاذية مطوية في البناء، كما أن الأوعية الدموية الاصطناعية (الدعامة) تصبح مرنة مع تقنيات الطي، بالإضافة إلى استخدام نموذج أوريغامي عن رئة إنسان للمساعدة في تقصي الأمراض التنفسية.

يعمل مختبر جيت بروبلشون التابع للإدارة الوطنية الأمريكية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا) مع باحثين في جامعة بريغام يانغ على تطوير نظام ألواح شمسية يمكن أن تنطوي للأعلى مثل الأوريغامي وأن تفتح بحجم يعادل 10 مرات حجمها أثناء الطي. (صورة عن نموذج أولي، مقدمة من BYU/NASA).

يسعى تاتشي توموهيرو الأستاذ المساعد في جامعة طوكيو إلى تطبيق تقنيات الأوريغامي في إنشاء المباني، كما يظهر في تصميمه لهذا الموديل. (الصورة من تاتشي توموهيرو).

السعي لابتكار تطبيقات بإنتاج كبير

تجتذب تقنية الأوريغامي اليابانية اهتماماً في طيف واسع من المجالات، من بينها الطب والنقل والإنشاء والفضاء. ولكن يُقال إن الهياكل التي تتكون من وحدات تشبه قرص العسل هو التطبيق الوحيد الذي أدى إلى إنتاج كبير حتى الآن.

وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، نجح سايتو من جامعة طوكيو في تقديم برهان عن طريقة جديدة لإنتاج هياكل تتكون من وحدات تشبه قرص العسل. فحتى الوقت الحالي يتم إنتاجها باستخدام عدة طبقات، ولكن طريقة سايتو الجديدة تستخدم رقاقة واحدة فيها شقوق لإنتاج الشكل المرغوب ثلاثي الأبعاد يكون أكثر قوة ومتانة وإنتاجه أسهل. كما أن تكاليف الإنتاج أقل باستخدام هذه الطريقة، وهي تمكن من إنتاج ألواح منحنية من الصعوبة إنتاجها باستخدام الطريقة التقليدية.

ألواح مركزها على شكل جملون طورها فريق هاغيوارا يمكن أن يتم ضغطها وتقويسها بواسطة الآلات، وهي رخيصة التكلفة ومقاومة للنار. (الصورة مقدمة من هاغيوارا إيتشيرو).

في غضون ذلك، طور فريق هاغيوارا في جامعة ميجي لوحاً له ”لب على شكل جملون“. ويمكن إنتاجه بأشكال مقوسة، وهو مقاوم للنار. وعند وضع لوحين معا على شكل شطيرة بحيث تكون الأجزاء المحدبة والمقعرة متعاكسة، تصبح صلابة اللوح المركب الناتج أكبر بـ 7-8 مرات من الألواح المسطحة. وأكثر من ذلك، يُقال إن تكاليف الإنتاج تبلغ فقط نحو ثلث الألواح النظامية على شكل هياكل تتكون من وحدات تشبه قرص العسل. وينظر الفريق حالياً في تشكيلة من التطبيقات المحتملة، مثل ألواح الهليوستات الشمسية، وصناديق بطاريات الليثيوم، وأرضيات القطارات.

كما يعمل أعضاء فريق هاغيوارا على تطوير ما أسموه ”طابعة أوريغامي ثلاثية الأبعاد“. وعلى خلاف الطابعات الثلاثية الأبعاد العادية والتي تنتج الأجسام بإضافة طبقات، فإن نظامهم سيطبع رسوم نشر أوريغامي بناء على بيانات ثلاثية الأبعاد. ومن المفترض أن يمكن هذا النظام تصنيع منتجات في المستقبل بدون استخدام قوالب مكلفة. كما يدرس الفريق تطوير روبوتات صناعية للحام والطي، بحيث يكون نظامهم قادرا على إنتاج تراكيب ثلاثية الأبعاد اقتصادية التكلفة باستخدام مواد معدنية وبلاستيكية وأخرى.

إن الأوريغامي هو فن ذو تاريخ عريق، ولكن هندسة الأوريغامي لا تزال مجالا حديثا للدراسة. وسيكون من المثير للاهتمام رؤية أي نوع من المفاهيم والتقنيات الإبتكارية سينشأ من العمل الجاري حاليا ضمن اليابان وحول العالم.

(المقالة الأصلية مكتوبة باللغة اليابانية بناء على معلومات من منظمة التنسيق الاستراتيجي للأبحاث والممتلكات الفكرية في جامعة ميجي ومعهد ميجي للدراسات المتقدمة في العلوم الرياضية في يناير/كانون الثاني 2015. صورة العنوان: البروفيسور هاغيوارا إيتشيرو من منظمة التنسيق الاستراتيجي للأبحاث والممتلكات الفكرية. الصورة من يامادا شينجي)

أوريغامي