عشق الأجانب لليابان وحده لا يكفي !

اقتصاد مجتمع لايف ستايل

تحظى البرامج التلفزيونية التي تستضيف أجانب يبدون انبهاراً بالثقافة والتكنولوجيا اليابانية بمعدل مشاهدة مرتفع، وربما يعكس هذا الأمر تنامي ثقة البلاد بنفسها بعد عقود من الركود. ولكن آبي هيرويوكي الخبير في وسائل الإعلام يؤكد على أهمية الحفاظ على رؤية متوازنة للعالم وموقع اليابان فيه بدلاً من توجيه الثناء لليابان مما يحولها إلى أمة نرجسية راضية تماماً بما هي عليه.

إن تمتع ركاب خطوط مترو الأنفاق اليابانية برحلة مريحة أمر مضمون، ويعود الفضل في ذلك إلى صيانتها بصورة دقيقة يومياً. والجدول الزمني المضبوط بدقة بحيث تسير القطارات بفارق زمني مقداره بضع دقائق فقط هو ثمرة تدريب صارم لتطوير تقنيات قيادة تقاس دقتها بالثوان. إن مثل هذه الأمور التي تظهر البراعة اليابانية قد أدهشت الزوار الأجانب، وقد أصبح تعبيرهم عن هذا الإعجاب بالهتاف بكلمة ”مدهش!“ مشهدا مألوفا على شاشات التلفزيون هذه الأيام.

أصبحت برامج التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى التي تعيد اكتشاف الصفات البارزة لليابان رائجة بشكل كبير في هذا الوقت. ومن بين سيل هذه البرامج، برنامج ”Tokoro-san no Nippon no deban (إعادة استكشاف اليابان)“ الذي يعرض على قناة TBS، وبرنامج ”Sekai ga odoroita Nippon! Sugōi desu ne!! Shisatsudan (فريق الإطلاع على اليابان المذهلة)“ على قناة Asahi، وبرنامج ’’?You wa nani shi ni Nippon e (لماذا أتيت إلى اليابان؟)“ على قناة Tokyo.

كما تحقق دور النشر مبيعات قوية من كتب تمتدح مناقب اليابان. فعلى سبيل المثال بيع بحلول نهاية ٢٠١٤ أكثر من ٥٠٠٠٠٠ نسخة من كتاب ”Nihon wa naze sekai de ichiban ninki ga aru no ka (لماذا اليابان هي البلد الأكثر شعبية في العالم؟)“ الذي ألفه تاكيدا تسونيياسو.

عقدان من التشاؤم

ولكن ما الذي يمكن صنعه بهذا الكم المفاجئ من الثناء الذاتي؟ وماذا تكشف هذه الظاهرة عن العقلية اليابانية المعاصرة؟ سأبدأ بدراسة العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجت هذا التوجه الحالي.

انتهت فترة الازدهار الاقتصادي لليابان في نهاية ثمانينيات القرن العشرين مع انهيار اقتصاد الفقاعة في بداية تسعينيات القرن العشرين. وأدى رفع ضريبة الاستهلاك عام ١٩٩٧ من ٣٪ إلى ٥٪ إلى دفع الاقتصاد نحو فترة من الانكماش المعتدل. وأخيرا بدأت نقاط إيجابية بالظهور الآن ولكن لا يمكننا القول إن الاقتصاد خرج بالكامل من نفق الانكماش الطويل. تزامنت تقريبا الأعوام الـ٢١ التي قضيتها بالعمل كمذيع في تلفزيون فوجي مع ”العقدين المفقودين“ لليابان حيث تخللهما شعور لا مفر منه من التشاؤم في غرفة الأخبار.

على مدى سنوات عديدة كان هناك القليل جدا من الأخبار الجيدة التي يمكن أن تلهم الشعب الياباني استعادة ثقته بنفسه. ولكن الانصهار النووي في فوكوشيما في مارس/آذار ٢٠١١ كان مضرا على نحو خاص، فقد اهتزت ”أسطورة سلامة“ صناعة الطاقة النووية في اليابان بشكل كبير، إلى جانب ثقة الناس واعتزازهم بالمستوى العالي للبلاد من التقدم التكنولوجي.

استعادة الثقة بالنفس

مرت ٤ سنوات على وقوع الزلزال والتسونامي المدمرين، وتتجه التوقعات الاقتصادية أخيرا نحو قليل من التفائل كنتيجة لسياسة آبينوميكس للنمو الاقتصادي. ربما لم يلمس جميع المواطنين الفوائد بعد، ولكن أفادت تقارير للمساهمين والهيئات الاستثمارية بجني مكاسب رأسمالية ضخمة، كما تجني الشركات الكبرى أرباحا متزايدة. وتعطي المؤشرات الناشئة للتغيير الأمل حتى للشركات الصغيرة والعمال العاديين في أن الأيام الأفضل باتت قريبة.

في عام ٢٠١٣ تم اختيار طوكيو لاستضافة الألعاب الأولمبية التي ستقام في صيف عام ٢٠٢٠، وفي عام ٢٠١٤ زار اليابان عدد قياسي من السياح الأجانب بلغ ١٣ مليون زائر بزيادة قدرها ٣٠٪ عن السنة السابقة، ويعود الفضل في ذلك إلى تخفيف القيود المفروضة على منح تأشيرات دخول وإلى تراجع قيمة الين. ويمكن رؤية عدد كبير من الزوار الأجانب في أماكن متوزعة في جميع أنحاء اليابان، وهم ينفقون ما متوسطه أكثر من ١٠٠٠٠ ين للشخص الواحد خلال فترة إقامتهم في اليابان، وأكبر الزبائن عددا في الرحلة الواحدة هم مسافرون من الصين. وقد بلغت كمية الأموال المنفقة من قبل السياح الأجانب ٢ ترليون ين سنويا. وهو يمثل سوقا ضخمة وجذابة للكثير من الشركات، وليس للمنتجين التلفزيونيين فقط.

وبالتالي فإن اتساع مقدار المديح الذاتي قد يكون مظهرا طبيعيا يدل على أن الناس تستعيد ثقتها بنفسها بصورة بطيئة مع ظهور علامات ببطء تشير إلى التعافي الاقتصادي.

كما تلعب العوامل الخارجية دورا مهما في ذلك مثل إدراج المطبخ التقليدي الياباني ”واشوكو“ في عام ٢٠١٣ على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي غير المادي. ومن الأمثلة أيضا، حملة ”كوول جابان“، والتي لاقت نجاحا كبيرا. أقوم كل عام بتغطية معرض اليابان ”جابان إكسبو“ في باريس، وفي عام ٢٠١٤ حضر المعرض أكثر من ٢٥٠٠٠٠ ألف شخص. ويزور المعرض أناس من كل أنحاء أوروبا وليس من باريس فقط لتجربة الثقافة اليابانية، ويبلغ مستوى الحماسة في المعرض مبلغا كبيرا حيث هناك فعالية يسير فيها الناس في شوارع باريس مرتدين أزياء مصممة وفق موضة ”غوثيك ولوليتا“ ذات الأصل الياباني.

وقد دفعت مثل تلك القصص اليابانيين إلى الاعتقاد أن لبلادهم في حقيقة الأمر الكثير من المعجبين الشغوفين بها، بعيدا عن نظرة الازدراء التي ينظر بها آخرون. وقد أصبحت مثل تلك الأخبار أكثر شيوعا، ويتملك الناس شعورا جيدا بصورة متزايدة حيال أنفسهم، مما يجعلهم متقبلين للبرامج التي تتغنى بمديح اليابان.

وعندما استوعبت محطة تلفزيون هذا الاتجاه وأنتجت فعلياً برنامج حول الدعوة لإعادة استكشاف اليابان فإنها حققت نجاحاً كبيراً بشكل غير متوقع، مما دفع محطات أخرى إلى الاحتذاء بها على وجه السرعة.

مشاكل غير محسوسة

إن إعادة استكشاف أفضل الصفات في اليابان ليس أمرا خاطئا. ولكن بنفس الوقت، يجب ألا نغفل عن الكثير من المشاكل التي تعاني منها البلاد.

وللتأكيد، تحتوي اليابان على تقنيات بارزة. ولكن ليس من الضروري أن تكون جميع المنتجات حديثة ومميزة. وقد تكون بالفعل خدمة القطارات في اليابان ”مذهلة“ في نظر الزوار الأجانب لأنها تسير على الوقت بصورة منضبطة، ولكن الحفاظ على نفس المعايير ليس أمراً قليل التكلفة وخصوصاً في ضوء التكلفة المرتفعة لليد العاملة في اليابان. وهذا ما أجبر الكثير من الشركات على الانتقال للخارج آخذة معها فرص العمل.

وبالتالي فبإمكان الشركات السعي نحو تحقيق كفاءة أكبر وبتكلفة أقل بدلا من التركيز على إضافة أعلى المواصفات لجميع المنتجات. وتبسيط العمليات قد يؤدي إلى وجود وفرة في العمال الذين يمكن استخدامهم في تطوير منتجات أو خدمات جديدة.

المساهمة في المجتمع الدولي

ولكن الثناء على اليابان له آثار مهمة يجب عدم التغاضي عنها. فهو يشكل دعوة لنا لإلقاء نظر أكثر قربا على العالم ولإعادة توجيه الطريقة التي نفكر بها حيال أنفسنا. يجب ألا ننسى أن اليابان جزء من المجتمع الدولي وليست مركزه. وبالإضافة إلى التعلم أكثر حول بلدنا، يجب علينا أيضا أن نسعى إلى كسب معرفة أكثر عمقا وفهما صحيحا حول البلدان الأخرى. ففي عصر العولمة، تقع على اليابان مسؤولية إعادة التأكيد على موقعها في العالم والانخراط بصورة فعالة مع الناس من البلدان الأخرى. وهذا من شأنه أيضا أن يساهم في إحلال الاستقرار في شرق آسيا.

لقد تعهد رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي بتقديم دعم إنساني للشرق الأوسط خلال زيارته إلى المنطقة في شهر يناير/كانون الثاني من عام ٢٠١٥. وستلعب جهود تعزيز الاستقرار السياسي دورا حاسما في استئصال الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية. وبينما تحظى اليابان باهتمام العالم في الوقت الراهن، فالوقت مناسب لها لدراسة ما يمكن أن تساهم به للعالم وأن تضع تلك الأفكار حيز التنفيذ.

(النص الأصلي باللغة اليابانية ومنشورة في ٢٧ فبراير/شباط ٢٠١٥. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان من ناكانيشي كيئيسوكيه/أفلو.)

طوكيو اليابان وسائل الإعلام