تاريخ اليابان من خلال شرق أسيا

الإتجاهات التاريخية في أوراسيا واليابان : من المغول إلى المانشو

مجتمع

يصور "سو جى يا ما كيو هيكو" (Sugiyama Kiyohiko) كيف أن منظور أوسع أوروبي آسيوي (Eurasian) يمكن أن يلقي ضوء جديدا على الاتجاهات التاريخية لليابان في القرون الوسطى ومطلع الاونة الاخيرة من التاريخ المعاصر وبحيث يتجاوز اتجاهاً لدى المؤرخين عن دراسة اليابان في السياق الإقليمي المحدود لشرق أسيا – الصين وكوريا واليابان.

عادة ما تندرج اليابان تحت مسمى شرق أسيا في سياق تاريخ العالم (أو الشرق الأقصى) وتعرف بصفة عامة كإحدى الثقافات الرئيسية الثلاث التي استخدمت نظام الكتابة الصيني : الصين، كوريا، واليابان، ولكن من الخطأ تصور أن الثقافة اليابانية يمكن فهمها بالكامل بين حدود شرق أسيا ، أو أن تاريخها منفصل بطريقة ما عن التيارات الأوسع للتاريخ الاوراسي. فالمدنية والثقافة الصينية لعبت دورا حاسما في تطوراليابان وخاصة في المراحل المبكرة من تاريخها. ولكن بالرجوع إلى حقبة القرون الوسطى بدأت اليابان تجربة التأثير المباشرعلى التطورات السياسية بشكل أكبر في القارة الاوراسية، وأول هذه التأثيرات كانت نهضة الإمبراطورية المغولية في القرن الثالث عشر.

توحيد مغول اوراسيا

كان المؤرخون  في الماضي  يميلون الى رؤية الإمبراطورية المغولية وتوسعها على حساب الكثير من دول أوراسيا حيث أحرزت النصر بالقوة العسكرية المدمرة فقط دون غيرها، أما اليوم فهناك إدراك أكثر لاعتبارها علامة مميزة للوحدة السياسية الاوراسية، فالإمبراطورية المغولية التي ولدت على السهوب الآسيوية توسعت بسرعة حيث أخذت تتحكم في مدن وأسواق الواحات وطرق التجارة. وفي مرحلة ازدهارهم لم يكن المغول يمارسون قوة سياسية كبيرة فقط بل لعبوا كذلك دورا هاما في حماية االتنقل وشبكات التجارة وفي تنشيط الحركة وتبادل المعلومات عبر الكتلة الاوراسية، واليوم يشير الطلاب اليابانيون إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر باعتبارهما ”فترة المغول“ ويعتبرونها تفاعلا خصباً  للاوراسيون وتكاملاً سابقاً لعصر الاستكشافات. 

عشية الفتوحات المغولية كانت الخريطة السياسية لأوراسيا مجزأة بدرجة كبيرة و منقسمة بين عدد كبير من الدول الصغيرة نسبياً، وفي شرق أسيا القارية – كانت الصين مقسمة بين الأسرة الحاكمة للجورسين في الشمال والأسرة الحاكمة سونج الجنوبية في الجنوب، وكانت هذه مطوقة عسكريا بواسطة مملكة  ”جوريو“ (Goryeo) على شبه الجزيرة الكورية ومملكة ”دالي“ (Dali) اليوم في إقليم يونان، والإمبراطورية ”تانجوت“ (Tangut) أو الأسرة الحاكمة كيا الغربية في الشمال الغربي، وكانت في أسيا الوسطى وغربها كذلك مجموعة من الدول الصغيرة شاملة أولئك المحكومين بواسطة لياو الغربية، وكل منهم مقسم إلي نظم محلية عديدة (كانت أوروبا كذلك مقسمة في نفس الفترة).

والرجل الذي حول هذه الساحات الطبيعية كان قائدا قبليا مغوليا باسم ”تاماجين“ الذي قام بالعمل الفذ المذهل بتوحيد قبائل من البدو الرحل الذين كانوا يتجولون بين السهوب المغولية طوال ثلاثة قرون والنصف السابقة، وفي مجلس الرؤساء المغولي في سنة ١٢٠٦ أتخذ ”تاماجين“ لقب ”جنكيز خان“ قائد الإمبراطورية المغولي الأكبر، ومن خلال مجموعة من الحملات وسع جنيكز وخلفاؤه حكم المغول شرقاً وغرباً عبر اوراسيا، في عهد كوبيلاي خان (١٢٦٠ – ١٢٦٤) حفيد جنكيزخان، بالاتجاه الشرقي للمغول تغلبت على الـ ”جين“ (Jin) و ”سونج“ (Song) الجنوبية و”كيا“ (Xia) الغربية و”دالي“ (Dali)، في حين تحويل ”جورجيا“ إلى دولة تابعة، وتقدمهم تجاه الغرب أخترق أوروبا بعيدا كروسيا في العصر الحديث وأوكرانيا وبولندا، وعلى جهة الغرب الأسيوية نهبوا بغداد ودمروا الخلافة العباسية.

ساعد علي هذا الغزو قوة عسكرية جرارة قوية على ظهور الخيل. وعلي الرغم من أنه ليس هناك من أدنى شك أن نجاح هذه الحملات يرجع الفضل فيها إلى القوة الجبارة والبراعة في جيوش المغول، و لكن في الواقع ليس بالقوة العسكرية فقط تم تحقيق كل هذا. كان هناك الكثير لإمبراطورية المغول أكبر من القوة العسكرية ودولة البدو وهو نوع من التنظيم السياسي الذي نشأ مع السكيثيين في غرب أوراسيا وكيونغنو في شرق البلاد وبلغ ذروته في الإمبراطورية المغولية، كان يحكمها البدو، ولكنها لم تكن مكونة من البدو فقط. كان نوع من الاتحاد تحت السيطرة السياسية والعسكرية للبدو ولكن يضم مختلف السكان من الواحات والمناطق الزراعية، هؤلاء السكان بينهم تجار من دول عديدة متباعدة  كانوا يقومون بالتجارة والسياسة وإقامة الاتحاد وكان معقدا عرفيا ولغويا وثقافيا وصناعيا، ورغم أن تركيزه على الجيوش البدوية، فان الإمبراطورية المغولية توسعت بفضل الوحدة العسكرية والسياسة والتجارية والإنتاجية لمختلف البدو والتجار الوافدين من مختلف االبقاع والمزارعين وسكان المدن والتجار المتحدون في ظل حكم المغول.

و ظهر هذا جلياً في الصين حيث أسس ”كوبيلاي خان“ (Kubilai Khan) مملكة ”يوان“ (Yuan) وبالإضافة إلى بناء عاصمته في ”دايدو“ (Daidu) التي أصبحت بعد ذلك (بكين : بيجينغ)، فقد أقام شبكة من القنوات والطرق ومراكز البريد وربط المدن بالطرق الرئيسية والطرق البحرية في اوراسيا وفتحها للناس مما ساعد على تبادل البضائع والمعلومات حول العالم. و قد تم وصف الثروة وروعة الشرق خلال هذه الفترة في سلسلة كتب : ”عجائب العالم“.

التوسع البحري المنغولي واليابان

بعد هزيمة سونج الجنوبي في عام ١٢٧٦ أستغل كوبيلاي خان بناء السفن المتقدمة والمعرفة الملاحية والبحرية المركزة في منطقة ”جيابنجنان“ (Jiangnan) الصينية بإرسال قوات سريعة في كل بحار آسيا، ونجحت هذه الغزوات تقريبا بعد مقاومة عنيفة. ولكنهم حققوا هدفهم الرئيسي و هو إخضاع المنطقة عسكريا  لتوسيع التجارة وتأمين طرق التجارة، ومع نهاية القرن الثالث عشر كان لمملكة يوان علاقات تجارية مع كل ركن في أسيا.

ولم تكن اليابان استثناء، فأرسل يوان حملات عاجلة إلي اليابان مرتين في سنة ١٢٧٤ و سنة ١٢٨١ كل منهما انتهت بالفشل العسكري، و هو ما يطلق عليه حملات ”المغول“ كذلك معروفة في اليابان باسم معركة ”بون آي“ (Bun’ei)، ومعركة ”كووان“ (Kōan)، وفي كلتا المناسبتين وصل أسطول المغول إلى المياه اليابانية الإقليمية و دارت معركة  مع قوات الدفاع اليابانية، لكن الجيش المغولي هزم بسبب هبوب عاصفة حادة أغرقت سفنهم. و قد سماها اليابانيون فيما بعد باسم ”الرياح المقدسة“ ، وبالنسبة لليابان – شعب جزيرة معزولة نسبيا – كان هذا حدثا تاريخيا غير مسبوق وخطير ولكن بالنسبة ”للمغول“ كان مجرد واحدا في مجموعة من المغامرات البحرية التي كانوا يقومون بها، ومن وجهة نظر (المغول) لم يكن هناك شيء ذا قيمة بشكل فريد حول اليابان ولذلك فلا سبب لتوجيه قوتهم العسكرية الكاملة للغزو، ونظرية الغزوات كانت مستلهمة من أوصاف اليابان على أنها ”أرض الذهب“ في كتابات ماركو بولو التي لم تكن مدعومة بالسجلات التاريخية الموثقة.

ورغم أن حملات المغول منعت اليابان ومملكة يوان من إقامة علاقات دبلوماسية فأنها لم تضع نهاية للاتصال بين اليابان والقارة الاوراسية، وعلى العكس فإن التجارة البحرية الخاصة والتبادل الإنساني تزايد في السنوات التالية، و توقفت اليابان عن إرسال بعثات رسمية إلى البلاط الصيني في القرن التاسع، لكن  سُدت هذه الفجوة من قبل تجار البحر القادمين من منطقة جيانجان الذين كانوا يصلون كثيرا لليابان حاملين بضائع صينية، هذا التدفق للناس والبضائع ازداد خلال عصر المغول مع مواني نينجيو في جيانجنان وهاكاتا، حيث أقامت هاكاتا قاعدة لتجار البحر الصينيين وصارت مركزا ضخما لتجارة (اليابان - الصين) وترتب على هذا نوع مختلف تماما من التفاعل عما كان سائدا خلال مملكة تانج – عندما كان المبعوثون اليابانيون يرتحلون إلى العاصمة شانجان لمشاهدة واستيراد النظم الصينية. والعلاقات المرتكزة على التجارة في السنوات اللاحقة جعلت اليابانيين في اتصال مباشر مع الثقافة الثرية لمنطقة جيانجنان التي كان لها تأثير رئيسي وقوى على اليابان – وكما يوحي هذا، فالتفاعل بين اليابان والقارة خلال فترة المغول كان قائما على فصل السياسة عن الاقتصاد.

نهضة وسقوط المنيغ

كانت الإمبراطورية المغولية تمثل ذروة دولة البدو ولكنها لم تستطيع تجاوز نقاط الضعف الملازمة لهذه الدولة، وكأناس متنقلين يعيشون في بيئة قاسية فالبدو يعتمدون على قادة أقوياء ذوي بأس، ولهذا السبب كان يتم اختيارالحكام البدو على أساس الجدارة و القوة. ولم يكن هناك قانون للتوريث لضمان إنتقال سلس وهادئ للسلطة، كذلك فالشعوب الرحالة الذين كان أساس الثروة لديهم فى الأصل الدواب معتادين أن يقسموا الأملاك بين ورثة متعددين، حتى بعد قيام الإمبراطورية الواسعة كان كل قائد (نوماد من البدو الرّحل) يستمر في هذا التقليد بتقسيم الإقطاعيات بين أبنائه وأقاربه الذكور الآخرين، ونتيجة لذلك، في القرن الرابع عشر حدث ضعف تدريجي في السلطة المركزية للملك والمنازعات حول الخلافة أنهكتها وقضت على القوة المتماسكة لحكومة يوان ونظم مغولية أخرى عبر اوراسيا. وما ضاعف من مشكلات الإمبراطورية الكوارث الطبيعية والمجاعات والأوبئة (الموت الأسود من أوروبا) التي اجتاحت أوراسيا في القرن الرابع عشر، ومع اضطراب الحكومات في كل القارة، وفي الصين، انتشر تمرد بقيادة مجتمع لوتس الأبيض وتصاعد حتى عام ١٣٦٨ تمكن قائد التمرد ”زهو يوانزهانج“ (Zhu Yuanzhang) (١٣٢٨ – ١٣٩٨) من اعلان نفسه إمبراطورا متخذا اسم حكم ”هونجود“ (Hongwu) وأسس مملكة مينغ وعاصمتها في العصر الحديث نانجينج : ”نانكين“ (Nanjing).

ومن وجهة نظر تاريخ الأسرة الحاكمة الصينية فإن عام ١٣٦٨ كان نهاية مملكة يوان وبدء أسرة مينغ، وإذا نظرنا إلى ذلك بطريقة موضوعية من المنظور الواسع (الاوراسي) صعود المينغ لم يكن يعني نهاية اليوان، وعندما تخلى دايدو عن بلاط يوان وتراجع إلى السهوب المغولية كان هذا مجرد تخلي عن إقليم جنوب السورالعظيم، والملك تحت تحكم هذا البلاط الشمالي – غالبا ما تسمى مملكة يوان الشمالية ، وتجدرالإشارة إلى انها أصبحت القوة المقابلة لإمبراطورية جنكيز خان في الماضي، وبالإضافة إلى منغوليا في الشمال قام عدد من القادة المغول الأقل قوة بالسيطرة على البلاد المحيطة بالصين إلى الشمال الشرقي ”منشوريا“ (Manchuria) والغرب ”جانوسو“ (Gansu) والجنوب الشرقي”يونان “ (Yunnan).

وبالنظر إلى الخريطة السياسية في السنوات الأخيرة من مملكة مينغ نجد أن الصين هي التي كانت تظهر محاصرة ومعزولة، ورغم أنها قد نجحت في دفع اليوان الشمالي إلى ما وراء السور العظيم، بالإضافة إلى التهديد من الغزو عن طريق البر فإن مملكة مينغ كان عليها أن تناضل مع ”ووكو“ (Wokou) القوية بشكل متزايد ضد عصابات من القراصنة على الجزر الواقعة قبالة كيوشو. و أرسلت مبعوثين لمملكة جوريو، واليابان، وريوكيو طالبة منهم إعلان الانضمام إليها، ودفع الجزية، كان في الواقع اعتراف بضعف النظام الجديد بطلب هذه الدول الأقل مرتبة أن تعترف بنظامه والتعاون في كبح جماح أعمال القرصنة.

وبعد التعاقب على عرش يوان الشمالي انتقلت الخلافة من نسل كوبيلاى خان إلى فرع آخر من الأسرة الحاكمة وإستمرت قوة خان العظمى في الضعف، وتلا ذلك سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة من قبل زعماء الحرب المتنافسين. لكن على الرغم من هذه الصراعات الداخلية والصراع على السلطة، ظلت يوان الشمالية صامدة ضد قوات مينغ، والسور العظيم، الذي خضع لبناء كبير عظيم وتحصين من مينغ في وقت مبكر، وتحول ليصبح حدود الصين بحكم الواقع.

وقد تبنت حكومة مينغ في وقت مبكر سياسة غير مألوفة لمواجهة مثل هذه التهديدات الأمنية في البر والبحر بطلب احتكار الحكومة للتجارة والتبادل مع العالم الخارجي. وهذا يعني أن الشكل القانوني الوحيد للتجارة الدولية هو تبادل الهدايا مع البعثات الأجنبية و تم حظر التجارة الخاصة مع الدول الأجنبية. وفي ظل هذا المبدأ الخاص بعدم الفصل بين النواحي السياسية والنواحي الاقتصادية، نجح مينغ فى السيطرة على الهجمات الساحلية في وقت مبكر من القرن الخامس. ولكن هذا لم يكن نهاية الاضطرابات. ففي الشمال كان المغول يقومون بالضغط العسكري  من أجل الحقوق التجارية. وعندما صعدت التجارة البحرية مرة أخرى حوالي نهاية القرن الخامس عشر ثبت أن الحوافز الاقتصادية لتجاهل قيود الحكومة لا يمكن مقاومتها.

بدأت السلطة في المنطقة كافة تتحول نحو أولئك ذوي القدرة على تجميع الثروة من هذه التجارة واستخدامها لكسر منافسيهم بالقوة، أما في اليابان كان هذا الاتجاه مجسدا في الدايمو حقبة سنجوكو (الولايات المتحاربة ) وقادة الحرب الثلاثة هم ”اودا نوبوناجا“ (Oda Nobunaga)، ”تويوتومي هيديوشي“ (Toyotomi Hideyoshi)، وأخيرا ”توكوجاوا إياسو“ (Tokugawa Ieyasu) الذين قاموا بتوحيد الدولة بالقوة في النهاية. وفي الصين عهد مينغ و من خلال  التجارة على طول ساحل البحر الجنوب الشرقي والحدود الشمالية تركزت ثروة كثيفة وقوة في أيدي ملاك الأرض المحليين والتجار والرموز المؤثرة الاخرى الذين كانوا موالين لأسرة مينغ، ولكنهم من المرجح وبشكل كبير أن يتحدوا رغباته، ونفس الشيء كان ينطبق على قوات الحصون التي كان ينفق عليها البلاط  أموالا طائلة لحراسة الحدود والسواحل، هذه الظاهرة يمكن تلخيصها في الحياة العملية لـ ”زهنج زهيونج“ (Zheng Zhilong) (١٦٠٤ – ١٦٦١) وهو تاجر، مهرب، والقائد العسكري الذي جمع ثروة ضخمة من خلال التحكم في التجارة في بحر الصين الشرقي.

في الشمال، قام الحاكم المغولي ألتان خان (١٥٠٧-١٥٨٢) عن طريق سلسلة من الغارات ضد مينغ، نجح في النهاية في تحقيق هدفه من إجبار حكومة مينغ على منح حقوق تجارية للمغول. وأصبحت هوهيهوت العاصمة التى اسسها ألتان خان فى أقصى جنوب البلاد ومركز مزدهر للتجارة. وصار حجم التجارة مع الصين مينغ أيضا يشكل عاملا محفزا في الحملات اليابانية الفاشلة على كوريا و التى شنها هيديوشي تويوتومي (١٥٣٧-١٥٩٨) بين ١٥٩٢ و ١٥٩٨. في هذا الصدد، كانت حملات هيديوشي تقارن بالحملات العسكرية التي شنها ”خان ألتان“ (Altan Khan) الذي  استقر بعد ذلك في علاقة سلمية مع مينغ، وتلاشت أحلام هيديوشي في الغزو و إنتهت معه. لكن لم تكاد تنحسر هذه التهديدات حتى ظهر خطر ثالث خرج من السهول العشبية من منشوريا: الزعيم ”نورهاتشى“ (Nurhaci) (١٥٥٩-١٦٢٦)، الذي سيكون فيما بعد المؤسس لإمبراطورية ”تشينغ“ (Qing).

التشينغ كإمبراطورية اوراسية

الجيرشس شعب تانجسيك من منشوريا أقام مملكة جين في الصين الشمالية ولكن وقعت تحت سيطرة حكومات اليوان و مينغ بعد سقوط الجين حيث بدأ الوضع في التغير في القرن السادس عشر عندما انتشرت وزادت التجارة بشكل حيوي بين الصين ومنشوريا تقوم على الفراء والجنسنغ (إسم نبات) وغيرها من العناصر الفاخرة والتى كانت موضع طلب كثير بين الأغنياء في الصين. والأرباح من هذه التجارة الصاعدة ساعدت قادة الحرب المنشورين المنافسين ، وفي النهاية –  وحّد أحد هؤلاء الرجال الأقوياء وهو نورهاتشى العشائر الجورشين وأعلن نفسه ”خان“ للأسرة المالكة الأخيرة جين وابنه ووريثه هونج تاجي (١٦٢٦ – ١٦٤٣) اندفع إلى منغوليا الجنوبية واخضع الشهار المنغولي من أبناء يوان الشمالية، وبعد هذا النصر أعاد ”هونج تاجي“ (Hong Taiji) تسمية الشعب المانشو وفي سنة ١٦٣٦ أعلن نفسه إمبراطورا لمملكة مينغ ، وبهذه الطريقة فان المانشو تعافوا من جديد وتقلدوا سلطة والمركزالوظيفة، تحت هؤلاء القادة المغول مثل جنيكز وكوبيلاي خان ، وسنة ١٦٤٤ مع سقوط مملكة مينغ بالعصيان والتمرد وعبرت قوات المانشو السور العظيم، واستولت على بكين معلنة أنها عاصمة مينغ الجديدة وبهذه تقلد الإمبراطور عرش الصين الإمبراطوري.

لم تكن اليابان بمنأى عن هذا الاضطراب في القارة الأسيوية، فبعد سقوط بكين – أقام الموالون لمينغ تحصينات في كافة انحاء الجنوب ويشار إليها جماعيا بمملكة مينغ الجنوبية، ولكن المعسكر الموالي لم يكن قادرا على التغلب على الخلافات الداخلية وهذه الحصون سقطت بالتتابع قبل تقدم جيش مينغ .على مدى السنوات القليلة المتتالية وكان احد هذه الحصون فوتشو في إقليم فوجيان تحت القيادة العسكرية لزهانج زهيلونج القرصان المذكور آنفا ذو النفوذ وأدميرال مينغ ارسل زهانج زهاينج مبعوثين إلى اليابان بمناسبتين في ١٦٤٥ و ١٦٤٦  تطلب التدخل المسلح ولكن توكوجوا رفض كل الطلبات بعد التشاور مع مستشاريه. ومع ممارسة التشينغ السلطة على شمال و أواسط الصين، رأى التشينغ  انه سيكون حماقة مطلقة إرسال قوة عسكرية عبر البحر دعما لنظام يحتضر، ولكن تأثير هذه الأحداث على اليابان لم ينته حتى بعد استسلام زهانج زهيلونج لتشينغ، فحملة المقاومة استمرت بعد تولي ابن ”زهانج تشينجونج“ (Zheng Chenggong) (١٦٢٤ – ١٦٦٢) المعروف في الغرب باسم ”كوكسينجا“ (Koxinga) الذي ولد في هيرادو (ولاية ناجازاكي) من أم يابانية وأعماله الباهرة ومآثره ألهمت أكثر عروض الـ ”بونراكو“ (bunraku) الشعبية (هو مسرح الدمى التقليدي الياباني).

استمر كوكسينجا في قيادة قوات الاسطول الموالية له –أطلق ومن جديد غارات على إقليم تشينغ المحتل في الجنوب وأرسل عددا من المبعوثين إلى اليابان طالبا المساعدة، وفي عام ١٦٦١، سنة قبل مطالبة مينغ الاخيرة بالعرش – كان قد قبض عليه بواسطة تشينغ، واحتل كوكسينجا تايوان (تحت سيطرة الهولنديين آنذاك) وأقام نظاما مواليا لمينغ و استمرت الحكومة الموالية في تايوان في المقاومة لعقدين امتتاليين.

وكان الإمبراطور كوكسينجا (١٦٦١- ١٧٢٢) الإمبراطور تشينغ الرابع والثاني الذي يحكم الصين، والذي  دمر في النهاية أسطول زهانج، وضم تايوان في سنة ١٦٨٣، كما كان كانجسي مشغولا ايضا على الحدود الواقعة في الشمال الشرقي في مناوشات مع القوات الروسية لمنع توسع الإمبراطورية الروسية نحو نهر أمور ، وفي النهاية تم الاستيلاء على الحكم في وادي نهر أمور بعقد معاهدة ننرشينسك في سنة ١٦٨٩. لكن في نفس الوقت جاء ايضا تهديد أخر في قلب القارة على سيادته وذلك من خلال التوسع السريع لزونجر خانات وهي دولة مؤلفة من غربيّ المغول.

من وجهة نظر يابانية: حيث يقطن شعبها في جزيرة منفصلة عن الكتلة القارية الأوراسية بواسطة المياه، بدا عام ١٦٨٠ و كأنه بداية لعصر .سلام بعد سنوات طويلة من التمرد في الصين والبحار المجاورة، لكن من وجهة النظر الاوراسيوية فإن هذه الحقبة شهدت بداية لـ ”اللعبة الكبرى“ من المواجهة العسكرية والمناورات الدبلوماسية بين ثلاث امبراطوريات متنافسة للسيطرة على قلب القارة: أسرة تشينغ، والإمبراطورية الروسية، وزونجر خان. وكان السبب وراء حظر كانجسي من الإبحار إلى البحار الجنوبية في ١٧١٧ عندما كان العالم على الاغلب في سلام  يرجع الى الرغبة في تعزيز الدفاعات الساحلية حيث ان ذلك افضل من الاشتباك مع زونجر خان في الغرب لاسيما وأن الدفاع في البر والبحر مترابط ببعضه البعض وأن الدفاع بالنسبة لإمبراطورية قارية كبيرة مثل تلك المعروفة بـ تشينغ المانشو.

و انتهت أخيرا هذه الفترة من التوتر بسقوط  زينجر خان في ١٧٥٥، فى عهد الامبراطور ”تشيان لونغ تشينغ“ (Qianlong) (١٧٣٥-١٧٩٦). مع ضم هذا ”الإقليم الجديد“، أو شينجيانغ، كما أطلق عليه اسم تشيان لونغ، ووصلت حدود الإمبراطورية تشينغ الى مداها الأبعد. ولم تقتصر سلالة تشينغ، والتي بدأت كلعشيرة حاكمة لشعب المانشو بتولي العرش الامبراطوري في الصين فحسب ثم اصبحت تحكم هذه الامبراطورية الواسعة والمتنوعة عرقيا بل تبوأت مكانتها اللائقة والرائدة لدى بصفة الخان الكبير.أما بالنسبة لأولئك الذين يعيشون أيضا في المناطق الداخلية فقد كان الإمبراطور حامي الإسلام والبوذية التبتية، وقال انه كان مؤيدا للعقيدة الكونفوشيوسية القديمة والتقاليد للصينيين الهان والسكان من روافد الصين في شرق آسيا.

التاريخ الاوراسي كمرآة

كما يشير هذا العرض الموجز، لم تكن اليابان بأي حال من الأحوال بمنأى عن التطورات الحاصلة في القارة الأسيوية، كما أنها لم تكن مجرد ملتقى سلبي للتأثيرات القارية.

كان واحدا من التغيرات الأساسية في تاريخ العالم التحول في المسرح الرئيسي للأحداث ، من الأرض إلى البحر، هذا لا ينطبق فقط على التوسع البحري من القوى الأوروبية، بل أيضا إلى آسيا ، حيث تحول التركيز من تأثير الشعوب الرحالة التي بلغت ذروتها مع الامبراطورية المغولية وبالترافق مع التجارة البحرية والقوة البحرية، وفي التاريخ الياباني يمكن رؤية تأثير هذه الاتجاهات في نهضة ووكوا والاستغلال العسكري لـ هيديوشي وأخيرا البعثات التي لا يمكن تجاهلها لـ توكجوا، من منظور العصر الحديث إن المساحة الشاسعة من أراضي جمهورية الصين الشعبية هي إرث من عهد أسرة تشينغ المانشو، والتي بدورها ورثت الكثير من إمبراطوريتها الآسيوية البعيدة والمعقدة من المغول. و يمكن القول في النهاية أن ”التاريخ الاوراسي“ يحمل مرآة جيدة يمكن لليابان والصين أن يريا ذاتيتهما منعكسة في ضوء جديد يبوح بسرهما.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية، الترجمة من اللغة الإنكليزية)

انظر إلى الروابط باللغة الانكليزية للاطلاع على مقالات متعلقة بالموضوع

The Ainu and Early Commerce in the Sea of Okhotsk
Extranational Pirate-Traders of East Asia

التاريخ