اليابانيون والساكورا

شجرتان من الساكورا ... هما الذكرى الباقية من الوطن الغارق

مجتمع ثقافة

لأشجار الساكورا وأزهارها التي لطالما زينت الطبيعة في اليابان على مر العصور مكانة مميزة في أفئدة الشعب بمختلف أطيافه. وقد فقد اليابانيون الكثير من الأشياء في ظل عمليات إعادة البناء بعد الحرب وحتى فترة النمو السريع لليابان. ولكن الساكورا ظلت رمزاً هذا العصر، باقية في أعماق الجبال على ضفة بحيرة السد.

”الساكورا“ التي بقيت وصارت بديلا للوطن الغارق

هناك في الجزء الشمالي لمحافظة غيفو، حيث يوجد سد ميبورو القائم في الوادي الضيق بين جبل هاكو وجبال هيدا، تجد شجرتين عملاقتين من أشجار الساكورا من فصيلة إيدوهيغان وهي تقف شامخة على شاطيء بحيرة السد الخرسانية. حيث قُدِّر عُمر كل منهما بحوالي ٤٥٠ سنة، وبارتفاع الواحدة منهما حوالي ٢٠ مترا، وبمحيط ٦ أمتار. وكذلك تفتح أزهارهما بالكامل في مطلع شهر مايو/ أيار من كل عام.

ولكن هذا لم يكن موقعهما قبل ٤ قرون بل كان في قاع بحيرة السد المجاور، حيث كانت تقع قرية ”شووكاوا“ التي غمرتها المياه وغرقت مع بناء سد ميبورو عام ١٩٦١. وكانت الشجرتان من أكبر الأشجار المعمرة في القرية، إحداهما في معبد كورين-جي والأخرى في معبد شورين-جي اللذين كانا يقعان داخل نطاق القرية الغارقة.

إنشاء السد من أجل بقاء اليابان

لقد وضِعت خطة إنشاء سد ميبورو عام ١٩٤٧. وهي فترة كانت فيها اليابان لا تزال تتخبط وتتصارع مع آلام واضطرابات ما بعد الحرب. وعلى الرغم من ارتفاع الأصوات طلبا لإعادة البناء والتعمير، إلا أن إمدادات الطاقة كانت منخفضة المستوى بشكل ميؤوس منه، حيث أن النقص في الطاقة الكهربائية كان مزمنا، وكان التيار الكهربائي ينقطع بشكل متكرر في كل المناطق سواء كان ذلك في القطاع الصناعي أو في البيوت. وبالأخص، كان وضع الطاقة الكهربائية في إقليم كانساي، جنوب غرب اليابان، سيء للغاية وأصبح حينها تأمين مصدر جديد للطاقة الكهربائية لهذا الإقليم مهمة قومية عاجلة. وفي عام ١٩٥٢، وضِع قانون لتعزيز تطوير مصادر الطاقة الكهربائية وتأسست هيئة عامة لتطوير مصادر الطاقة والتي لعبت دورا رئيسيا في بناء سد ميبورو. وكانت خطة الإنشاء تهدف لبناء سد حجري بإرتفاع ١٣١ مترا، بإجمالي سعة مخزون للمياه ٣٧٠ مليون متر مكعب، والتي كانت تعتبر آنذاك خطة إنجاز مشروع ضخم في ذلك الوقت.

وفي نفس الفترة، كان التقدم يسير أيضاً وبشكل متوازٍ في خطة إنشاء سد كوروبي الرابع أيضاً كمصدر للطاقة الكهربائية من قبل شركة كانساي للطاقة الكهربائية، وذلك في الجهة المقابلة من جبال هيدا في وادي كوروبي بمحافظة توياما. وقد كانت عملية إنشاء سد كوروبي شاقة جدا وسط ظروف بيئية وطبيعة قاسية وبشكل لا يمكن مقارنته بنظيره سد ميبورو، سيما وأنه أسفر عن مقتل ١٧١ شخصا أثناء أداء عملهم خلال فترة إنشاءه من عام ١٩٥٦ وحتى ١٩٦٣. وذلك عدد كبير من الضحايا ولا غرو في التنويه إلى أنّ مثل تلك الفاجعة قد تُسبب في استقالة الحكومة إذا ما حدث ذلك في الوقت الحاضر، ولكن كان تأمين الطاقة في ذلك الوقت بالنسبة لليابان، الخالية من الموارد، أمراً مهماً وخطيراً ومسئلة حياة أو موت.

الشجرتان المسنتان اللتان شهدتا على القرية

تاكاساكي تاتسونوسوكي (الصورة مقدمة من جيجي برس)

وكانت خطة بناء سد ميبورو ستودي إلى غمر حوالي ٢٣٠ بيتا تحت الماء وكذلك الإلزم بتهجير حوالي ١٢٠٠ شخص إلى أراضٍ أخرى. وحتى إذا قلنا أنها كانت تضحية ضرورية من أجل بقاء اليابان، إلا أن هذا لا يعني قبول الأطراف المعنية من الأهالي بأن يفقدوا بلدتهم بسهولة، فهي أرضهم التي ظلوا يعيشون بها ويتوارثونها جيلا بعد جيل. وكان من الطبيعي أن قامت حركات معارضة محلية قوية في المناطق التي كان مخططاً لها أن تغمرها المياه. وتم تشكيل ”مجلس الدفاع المستميت عن تحالف معارضة مطلقة ضد إنشاء سد ميبورو“، والذي أبدى موقفا يقضي بعدم الاستجابة مطلقاً للتفاوض. ومن جانب هيئة تطوير مصادر الطاقة، فقد ذهب الرئيس الأول للهيئة ”تاكاساكي تاتسونوسوكي“ (المدير العام لوكالة التخطيط الاقتصادي في حكومة هاتوياما آنذاك) للتفاوض المباشر مع الأهالي لأكثر من مرة. وتحت مبدأ وسياسة لا للإجبار أو فرض الأوضاع بالقوة على المواطنين حتى تتم الحصول على موافقتهم، فقد انتهى المطاف بعد أن استغرقت مفاوضات التعويضات مدة ٧ سنوات. وبالوصول إلى اتفاق في المفاوضات تم حل ”مجلس الدفاع المستميت“ في نوفمبر/تشرين الثاني عام ١٩٥٩. وحضر تاكاساكي شخصياً جلسة حل المجلس.

وبعد انتهاء جلسة حل المجلس، ذهب تاكاساكي في جولة حول القرية بمصاحبة كبار أعضاء ”مجلس الدفاع المستميت“. وخلال الجولة، لاحظ تاكاساكي هاتين الشجرتين الكبيرتين من الساكورا، حيث خطر في باله فجأةً وقال: فلنقوم بنقلهما وإعادة زراعتهما من أجل الحفاظ عليها. وطلب من موظف هيئة تطوير مصادر الطاقة الذي كان يقف بجانبه بأن يهتم بتنفيذ هذا الأمر الذي كان له صدىً إيجابيا كما لمس مشاعر أهالي القرية الذين كانوا قد عزموا على ترك بلادهم لتغرق في أعماق البحيرة.

الحكمة تقول: إنه لمن الغباء محاولة تقليم شجر الساكورا..!

ولكن لم تكن عملية الإزدراع هذه بالأمر السهل. حيث كان يبلغ مجموع وزن كلا الشجرتين المسنتين حوالي ٧٣ طن، كما يترتب على القائمين على تلك العملية تنفيذ كل مراحلها من سحب واستخراج من عمق ٥٠ مترا ونقل لمسافة ٦٠٠ متر. ولا يتوقف الأمر عند الوزن الكبير فحسب، بل تُعتبر أشجار الساكورا أيضاً من الأنواع الحساسة تجاه الإصابة بالجروح الخارجية حيث من المعروف عنها بأن الأفضل ألا تُقَطع أغصانها ولو للتقليم، بالإضافة إلى أنهما شجرتان مسنتان. كما أنه حتى بعد إتمام عملية الإزدراع في مكان آخر، لم يكن هناك أي ضمان لنجاح عملية تأصّل الجذور في الأرض الجديدة. ناهيك على أنها كانت عملية سابقة من نوعها.

وهنا قام تاكاساكي بالاتصال المباشر مع ”ساسابيه شينتارو“، الباحث المدني المتخصص في أشجار الساكورا، وأقنعه بأن يكون المسئول ويشرف على عملية الإزدراع. وأثناء عملية النقل والإزدراع التي تمت في نوفمبر/ تشرين الثاني عام ١٩٦٠، استُخدمت جرافات خاصة بأعمال البناء لنقل أغصان وجذور الشجرتين بعد تقطيعها، مما أثار الكثير من الانتقادات حينها تجاه تاكاساكي وساسابيه بسبب الحالة والمنظر المُرثى الذي بُتت عليه الشجرتان. ولكن بحلول ربيع عام ١٩٦١، نبتت أوراق جديدة نضرة للشجرتين المسنتين، أي ما يعني أن الجذور قد تأصّلت بسلام في المكان الجديد. وقد استغرقت قرابة ١٠ سنوات أخرى حتى تعافت حيوية ونمو الشجرتين تماما وتفتحت أزهارهما بشكل كامل.

وكان أهالي قرية شووكاوا الغارقة يتجمعون حول هاتين الشجرتين المسنتين الموجودتين بجانب السد في موسم تفتح أزهار الساكورا كل عام. ويقال إن بعضهم كان يتشبث في ساق الشجرة والدموع تذرف من عيونهم.

ذكرى لم تكن لتبقى في القلوب بغير ”الساكورا“

عندما نفكر فيما مضى من أحداث ذلك العصر، نجد مثل هذا المشهد يُروى ويتكرر. لقد فقد الكثير من اليابانيين أوطانهم أو هجروها خلال فترة إعادة البناء بعد الحرب وحتى الوصول إلى فترة النمو السريع للبلاد. وفي ظل هذه الأوضاع، نجد الجهود التي سعت جاهدة للإبقاء على ذكرى هذه الأوطان بأي شكل ممكن تهز قلوب اليابانيين ومشاعرهم.

ولكن، لماذا اختار تاكاساكي أشجار الساكورا المسنّة بالرغم من أنها الأكثر صعوبة في النقل إضافة لوجود احتمال كبير لتعرض العملية للفشل. ولِما لم يختار إحدى المنشآت أو غيرها من الأشياء؟ لعل السبب هو أن أكبر كيان يمكن أن يليق بوصف كلمة ”الوطن“ بالنسبة له كان يتمثل في الساكورا. وكان نفس الأمر لأهالي القرية. بعد مرور أكثر من نصف قرن، وكذلك بالنسبة لليابانيين الذين كانوا وقتها لا يمكن أن يتخيلوا حدوث مثل هذا النجاح والإزدهار، لعله أن تكون أزهار الساكورا هذه التي تتفتح مكتملة في الشجرتين كل عام هي ما يذكرهم بمشهد الوطن العزيز الذي فقدوه. فالـ”ساكورا“ لتلك الدرجة، هي أزهار لها قيمتها الخاصة المحفورة في أفئدة جميع اليابانيين.

(النص الأصلي باللغة اليابانية بتاريخ. ٢٤ مارس/آذار ٢٠١٥. صورة العنوان: مقدمة من جريدة ماينيتشي/أفلو)

ساكورا