الاستراتيجية الخارجية للصين المتنامية

الدبلوماسية الصينية في مفترق الطرق

سياسة

برزت الصين كدولة كبرى في المجتمع الدولي. يلقي الأستاذ المنتدب بجامعة طوكيو كاواشيما شين (عضو لجنة تحرير نيبون دوت كوم) المتخصص في السياسات الخارجية المعاصرة للصين الضوء على التغير في مبادئ السياسات الخارجية للصين المعاصرة.

مبادئ الدبلوماسية الحديثة

هل ستتمسك الصين بمبادئ الدبلوماسية الحديثة كما هي الآن، أم ستبدأ بتأسيس مبادئ جديدة؟ نلاحظ أن الصين تقف الآن أمام مفترق طرق.

يمكن ملاحظة ثلاثة مبادئ للدبلوماسية الصينية الحديثة. أولها هو السيطرة والوحدة الفكرية. ويعنى بالسيطرة أن الصين تبسط نفوذها على مواطنيها الموجودين داخل حدود أراضيها. فإذا حاولت أي قوة سياسية أن تخالف الحكومة فإنها ستعمل جاهدة على قمعها واستئصالها وكذلك إن ظهرت حكومة منافسة للحكومة المركزية سارعت على إبعادها عن الساحة الدبلوماسية وإخمادها. وبذلك تكون الصين قد حققت الوحدة الفكرية.

المبدأ الثاني، هو قيام الحكومة المركزية بسياسات دبلوماسية تفيد سياساتها الداخلية. فهي جعلت من الدبلوماسية الخارجية امتداداً لسياساتها الداخلية. وليس هذا فحسب بل جعلت من الدبلوماسية الخارجية أداة لتعزيز السياسة الداخلية. ومن ذلك المنطلق نجد أن هناك قواسماً مشتركة بين المبدئين الأول والثاني حيث أن ما يطبق على السياسات الداخلية يطبق على الدبلوماسية الخارجية. ولكن في نفس الوقت، فإن الصين ليست بمعزل عن تحركات المجتمع الدولي وإنما لديها العديد من العلاقات مع المجتمع الدولي وتتغير بتلقيها تأثيراتها.

المبدأ الثالث، الارتقاء في المكانة الدولية. وهو أمر جوهريا وحسي أيضا. يبرز الجانب الجوهري في السعي لاكتساب مكانة في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، أو المكانة الدولية الواضحة فيما يسمى بـ ”الدول الأربع الكبرى“ الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. أما الجانب الحسي، فيظهر برغبتها في إكتساب السمعة في الإعلام العالمي واكتساب مكانة في الخطاب العالمي. والجانب الأخير هو الجانب غير المرئي الذي سعت الصين دائما للرد عليه بحساسية.

ويمكن القول بأن هذه مبادئ مشتركة وموجودة لدى جميع الدول ذات السيادة. ولكن الصين اهتمت بهذه (العصرية) للوصول إلى المكانة التي تحتلها الآن. وبهذا توضح للعالم ولأول مرة العقبات التي يمكن مواجهتها للوصول إلى العصرية.

نهاية عهد استراتيجية ”الصين الضحية“

استمدت الصين الحديثة هذه المبادئ في مرحلة لم تكن قد استعادت فيها بعد ”قوتها الحقيقية“ بسبب تعرضها المستمر للعدوان. وكان من  حق الصين التمسك بهويتها القومية للحفاظ على الوحدة الداخلية وكذلك كان من حقها إستعادة سلطتها المسلوبة إذا تعرضت لها القوى الدولية الأخرى. وكما في فترة ضعف حضورها الدولي، كان من حق الصين أن تستخدم المبادئ التي كانت تروجها داخل البلاد لتثبت شرعيتها في أجندتها الدبلوماسية ولتبرز وجودها ضمن المجتمع الدولي دون أن ينتقدها أحد. لذلك سعت الصين جاهدة لاستعادة مكانتها بين الدول العظمى وذلك بتشريعها لشعار ”تحقيق العدالة“

إلا أن الصين تطورت من كافة الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية بسرعة أكبر مما توقعته سلطة الدولة. وذلك بسبب ظهور صعوبات في التمسك بمبادئ السياسة الخارجية المعتادة. وأدت الحساسية المفرطة فيما يخص مشكلة الوحدة من أجل حماية السلطة إلى تقليص إمكانية التوصل لحلول وسط أو التعاون لحل مشاكل السيادة، مما أدى إلى استهجان الدول المجاورة. ولذا فإن على الصين استيفاء واجباتها كواحدة من الدول الكبرى بالمشاركة في التنسيق مع المجتمع الدولي وصياغة النظام العالمي، فمحاولتها للتنسيق بين سياساتها الداخلية والدبلوماسية الخارجية بشكل يخدم مصالحها على حساب المصلحة الدولية، سيؤدي إلى انتقادها من قبل المجتمع الدولي. 

تعديل مبادئ الدبلوماسية

مهما كانت الظروف الصعبة، إن الصين قادرة على التعامل مع كل مشكلة على حدة وبطريقة تحصل فيها الدولة على الفائدة القصوى. ولكن مع تنوع علاقات الصين مع المجتمع الدولي بشكل كبير، تعقدت النظرة إلى مصلحة الدولة عن النظرة الاعتيادية كما تعقدت عملية تحديد خطط الدولة مع وجود تأثير في السياسات الخارجية من قبل العديد من الأطراف ذو مكانات مختلفة داخل الصين. هناك أهمية كبيرة لكل من اتجاهات الرأي العام بالداخل و جماعات المصالح الخاصة. وبالنظر بشكل خاص للرأي العام، يمكن ملاحظة أنه بسبب تلقين الحكومة الشعب من خلال التعليم ووسائل الإعلام أصبح المواطن يحمل في وجدانه إحساساً عميقاً بـ ”الصين الضحية“. ولذلك عندما برزت الصين كدولة عظمى، أصبح الشعب يطالب بنتائج غير مسبوقة فيما يتعلق بقضايا السيادة والوحدة، معارضا بشدة السياسة الخارجية الحذرة المعهودة لبلاده. أصبح المواطنون يطمعون في اكتساب احترام العالم ولذلك بدأوا يمارسوا ضغوطا كبيرة على السياسات الخارجية للصين من أجل جذب أنظار العالم للقيم العامة ومنطق الأمور داخل البلاد ومن أجل رفع مكانتها الدولية. إن الروح القومية التي بثتها الحكومة الصينية داخل البلاد بدأت تنعكس سلبا على السياسات الخارجية الحالية وتقيدها.

أصبحت ”التنمية الاقتصادية“ منذ فترة حكم دنج زياوبنج على الأقل الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية للصين. أى أنه على الرغم من الدعم الطبيعي للمبادئ الثلاث السابق ذكرها، والاهتمام بـ ”التاريخ“، وبث القومية، فقد قررت الدولة أن من مصلحتها جعل التنمية كأولوية. لذلك نجد أن الصين حرصت على تحسين العلاقات مع الدول الجوار واللجوء لحلول وسط إلى حد ما فيما يخص مشاكل الحدود مع دول أسيا الوسطى ومشاكل السيادة في بحر الصين. كان هدف ذلك تنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية مع المناطق والبلاد المجاورة للصين بشكل متزامن مع التنمية الضخمة للقطاع الغربي للصين. وقد تم إتباع نفس هذه السياسة عند تشكيل حكومة هو جينتاو.

لكن يعتقد أنه مع حلول عام ٢٠٠٦، قامت الصين بإدخال تعديلات على خطط السياسة الخارجية تلك التي جعلت من التنمية الهدف الأول. فبالإضافة للتنمية تم إدراج ”السيادة“ و”الأمن“ في المبادئ الأساسية. لكنه مع مرور أولمبياد ٢٠٠٨، وفي عام ٢٠٠٩ تم تبني سياسات خارجية أكثر إيجابية مع الخارج. زادت الخطابات التي تدعو إلى أنه لا يوجد ضرورة أن تضع الصين قيوداً من أجل ”التنمية“ بعد الأن في ظل التنمية الاقتصادية التي تم تحقيقها، بل الأهم هو جَني نتائجاً  أكثر إيجابية في السياسات الخارجية المتعلقة بالسيادة والأمن. وقد تم تعديل الشعارات التي ظهرت في تصريحات القيادات الحكومية لتتماشى مع هذا الاتجاه.

معضلة السياسة الخارجية الصينية

في النصف الثاني من فترة حكم ”هو جن تاو“، بدأت مجموعة من التساؤلات تتصاعد حول ”مدى قدرة الصين على الصبر في سياساتها الخارجية“ وأيضا ظهرت بعض التصريحات التي شددت على ”وجوب تبديد الاستياء السابق لأن الوضع قد تغير وأصبحت الصين بالفعل دولة كبرى“. و في المقابل، يوجد الجدل بين الرأي الزاعم بأنه ”يجب التنسيق مع الدول المجاورة والمجتمع الدولي لأن الصين لا تزال دولة نامية يجب أن تولي التنمية أهمية كبيرة“ و بين الرأي الأخر الذي يقول أن ”الصين تجاوزت مرحلة كونها دولة نامية، ويجب عليها تولي مسئوليتها كدولة كبرى في العالم وتتصرف بشكل إيجابي فيما يخص نواحي السيادة والأمن“.

ولكن في الحقيقة، بينما تتصرف الصين كدولة كبرى على صعيد سياساتها الخارجية، إلا أنها تواجه صعوبات لدى مواجهتها للأزمات كقضايا بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. ويبقى السؤال: كيف يمكن للصين الاستجابة للمتطلبات الداخلية والخارجية بطريقة تستطيع بها التنسيق بين نزعتها القومية في الداخل ومسؤوليتها تجاه المجتمع الدولي؟ وفي الوقت الحالي تحاول الصين أن تنسق بشكل متزامن بين قضايا السيادة والوحدة في الداخل وبين مسؤوليتها تجاه المجتمع الدولي بطريقة لا تتعارض مع سياساتها الداخلية، وبالإضافة إلى ذلك فهي تتحمل مسؤوليتها في مجال الحكم الدولي بشكل يستجيب لمتطلبات القومية، وبذلك تُطرح فكرة أنها تسعى إلى التعامل مع نظرية التهديد الصيني والانتقادات المضادة للصين.

هل من الممكن التغلب على المعاصرة؟

في الحقيقة، هل من الممكن تنظيم السياسات الخارجية القائمة منذ مائة عام على التحركات الداعية لاستعادة السيادة والوحدة الوطنية بشكل يتلاءم مع العصر الحديث؟ وهل يمكن تحقيق التصالح بين السياسات الداخلية الداعمة للنظام الحاكم والسياسات الأخرى الخارجية؟ وهل هنالك من طريقة مقنعة لكل من الداخل والخارج للارتقاء بالمكانة الدولية؟ هل يمكن للصين المعاصرة مواجهة كل هذه المشاكل؟

في الوقت الحالي، لا يبدو أن الصين تسعى لإيجاد أجوبة خالية من التناقض على هذه الأسئلة. ففيما يتعلق بالسيادة والأمن، تقوم بتقليل مجال المناقشة بتحديد خط غير قابل للتنازل عنه بما يمس المصالح الجوهرية وكذلك تحاول تثبيت موقفها من خلال استخدام القوانين وتفسيرها، وتقليل فرص التفاوض من خلال الفهم الثابت للملابسات التاريخية. وبينما يرضي هذا الموقف وجهات نظر العقول  المتحجرة في الداخل فإنه يحصر التفاعل في السياسات الخارجية على مواقف تفتقد للمرونة. كما أن القول عن الأقاليم ذات الملابسات التاريخية المتعددة، على أنها ”أراضي ذات خصائص صينية في الماضي“ يثير الإحساس بالـ ”تهديد الصيني“ لدى الدول المجاورة.

وعلى مستوى الحفاظ على الأمن القومي، تهدف الصين إلى استعادة الأراضي المفقودة في الوقت الذي يتعالى فيه الإحساس بالتهديد الصيني من الدول المجاورة بسبب زيادتها لقوتها العسكرية وحساسيتها الحادة تجاه زيادة تسليح دول الجوار. وتأتي هذه الحساسية بسبب شعورها بأنها ضحية للاحتلال منذ فترة المعاصرة. وأيضا على صعيد الارتقاء بالمكانة الدولية، هناك نفاذ صبر من عدم القدرة على اكتساب الاحترام والتقدير الدولي رغم استجابتها لمتطلبات المجتمع الدولي.

تحاول السياسة الخارجية الصينية في الوقت الحالي الاستجابة لمتطلبات الداخل والخارج، بطريقة مبعثرة كقطع الفسيفساء. ورغم عدم التمكن من حل قضايا الوقت المعاصر، فإنه مع ذلك يمكن القول بأنها في مرحلة اكتشاف الحل للعديد من القضايا الأخرى.

التغلب على التاريخ واستكشافه

وفي ظل سعي الصين لإيجاد حلول جديدة، وعلى الرغم من محاولة الصين الحفاظ على المبدأ الذهبي الذي ينص على ”عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى“، هناك نقاش يدور حول إمكانية قيام الصين بـ ”التدخل البناء“ في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وذلك بطلب من المجتمع الدولي وبموافقة الدول المعنية.

ومن ناحية أخرى، بالإضافة إلى وضع الصينيون للمشاكل مع دول الجوار حسب اعتبارهم، يوجد هناك ظاهرة تستحق الاهتمام ألا وهي اتجاه الصينيين للتعلم من التاريخ بالعودة إلى فترات الفوتو والتشوجنج. تعتبر هذه الظاهرة غريبة جداً من وجهة  نظر البحث التاريخي. وذلك لأن كتب التاريخ الكلاسيكي الصيني لا تخلو من الإسهاب في الحديث عن التعايش السلمي وكذلك بين الأسر الحاكمة في الصين والدول المجاورة حيث الاحترام الذي كانت تكنه لها تلك الدول. فالعودة إلى وثائق فترة الفوتو والتشوجنج التاريخية يؤدي إلى تجاهل رأي الدول الأخرى ولا تظهر إلا وجهة نظر الأسر الحاكمة. أي أنه يجب إجراء دراسة تاريخية معمقة للتحقق فيما إذا كان هناك توافق دولي في فترة الفوتو والتشوجنج. وبالتالي، إذا استمرت السياسات الخارجية الصينية بالرجوع والاعتماد على الوثائق الكلاسيكية لفهم النظام الدولي الحالي، فسيؤدي ذلك إلى سوء تفاهم بينها وبين الدول المجاورة.

و على أي حال، تتأرجح السياسات الخارجية مع تأرجح الصين لإدراك ذاتها المعاصرة، فسياساتها الخارجية تتحرك بشكل متعرج وتتعدد كالفسيفساء. وتدل هذه الحركات على وجود العديد من المحاولات والمساعي، ولكن من الصعب معرفة تأثيرها في مراحل لاحقة. وسوف يكون من الصعب التغيير في ظل التنوع الكبير في المجتمع الصيني والتعقيد في عملية اتخاذ القرارات السياسية، وفي ظل صعوبة التنبؤ بالسياسات الخارجية للصين.

من الصعب التكهن إذا ما كانت ”المعاصرة ذات الأمد الطويل“ قد تستمر بالنسبة للصين. ولكن لا شك أننا قد وصلنا إلى الوقت الذي يجب فيه على الصين أن تتغلب على قيود المعاصرة.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية)

السياسة الصين الدبلوماسية بحر الصين الجنوبي التاريخ