دراسة حول القوى السياسية الجديدة في اليابان

الإصلاحات السياسية في اليابان

سياسة

منذ تسعينيات القرن العشرين، أجرت اليابان مجموعة من الإصلاحات السياسية الرامية إلى تأسيس نظام حكومي أكثر كفاءة وفعالية. يقوم تاكيناكا هاروكاتا في هذه المقالة بتقييم نتائج هذه التعديلات الدستورية والعقبات العالقة في ديمقراطية الأكثرية في اليابان وآثار ذلك على وضع السياسات خلال الولاية الثانية لرئيس الوزراء شينزو آبيه.

اعتمدت اليابان بدءا من عام ١٩٩٤ سلسلة من الإصلاحات السياسية والإدارية والتي أحدثت تأثيراً بارزاً في سير النظام الديمقراطي البرلماني في اليابان. وسأستعرض في هذا المقال التحديات التي واجهت النظام البرلماني في اليابان وإلى أي مدى ساهمت الإصلاحات التي أجريت مؤخرا في التغلب على تلك التحديات. ومن أجل هذا، سأقوم بتقييم الميزات الرئيسية للنظام الياباني قبل وبعد الإصلاحات وذلك في علاقتها بنموذجي ديمقراطية الأكثرية ’’ويستمنستر‘‘ والديمقراطية التوافقية. وبعد أن أقوم بتحديد مواضع الشذوذ المزمنة في النظام، سأجري دراسة لمعرفة تأثيرها على الوضع السياسي في السنوات الأخيرة. وأخيراً، سأقدم توقعاتي الخاصة للسياسات في ظل الولاية الثانية لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ذلك في ضوء الانتخابات الأخيرة لمجلس الشيوخ. 

خصائص النظام الديمقراطي البرلماني في اليابان

يعتبر نظام الحكم في اليابان نظاماً برلمانياً. ويقع جوهر مثل هذا النظام في العلاقة القائمة بين مجلس الوزراء والمجلس التشريعي، حيث يستمد مجلس الوزراء الثقة من المجلس التشريعي من جهة كما يتمتع مجلس الوزراء بصلاحية حل المجلس التشريعي من جهة أخرى(*١).

فكيف يمكن لنا الآن أن نوصف نظام اليابان البرلماني من وجهة نظر مقارنة؟

لعل النمطية التي اقترحها عالم السياسة ’’آرند ليبهارت‘‘ تقدم إطار عمل مفيد. فقد صنف الديمقراطيات فيما يتعلق بنمطين متباينيين من حكم الديمقراطية إلى: نموذج الأكثرية ’’ويستمنستر‘‘ الذي يعطي أغلبية بسيطة سلطة اتخاذ معظم القرارات ونموذج التوافقية الذي يحاول أن يدمج وجهات نظر العديد من الأقليات في عملية صناعة القرار(*٢)). وعلى ضوء هذا التصنيف، فقد صنف عدد من الباحثين اليابانيين بِدَورِهم الديمقراطيات إلى فئتين. وفيما يلي ملخص يشمل عناصراً من تحليلاتهم(*٣).

يتميز نموذج ديمقراطية ويستمنستر بوجود كلٍّ من : (١) دوائر انتخابية ذات مقعد واحد، (٢) نظام سياسي حزبي ثنائي، (٣) تركيز السلطة التنفيذية بيد حكومة حزب الأغلبية، (٤) الوحدة بين مجلس الوزراء وحزب الأغلبية، (٥) هيمنة السلطة التنفيذية على المجلس التشريعي، (٦) أحادية السلطة التشريعية، (٧) قيادة قوية لرئيس الوزراء.

وفي المقابل يتميز نموذج الديمقراطية التوافقية بِدَورِه بوجود: (١) نظام التمثيل النسبي، (٢) نظام سياسي حزبي تعددي، (٣) السلطة التنفيذية تتشاركها ائتلافات عدة أحزاب، (٤) ازدواجية مجلس الوزراء وحزب الأكثرية، (٥) توازن بين السلطة التنفيذية وفروع السلطة التشريعية، (٦) ثنائية السلطة التشريعية، (٧) رئيس الوزراء ذو سلطة تنفيذية محدودة.

صفات ديمقراطية الأكثرية والديمقراطية التوافقية

ويستمنسترتوافقية
دوائر انتخابية ذات مقعد واحد نظام تمثيل نسبي
نظام سياسي حزبي ثنائي نظام سياسي حزبي تعددي
تركيز السلطة التنفيذية بيد حكومة حزب الأغلبية السلطة التنفيذية تتشاركها ائتلافات عدة أحزاب
الوحدة بين مجلس الوزراء وحزب الأغلبية ازدواجية مجلس الوزراء وحزب الأكثرية
هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية توزان بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية
أحادية السلطة التشريعية ثنائية السلطة التشريعية
رئيس وزراء قوي رئيس وزراء بصلاحيات محدودة

التحولات في النظام السياسي الياباني

كيف يمكن تصنيف النظام الديمقراطي البرلماني في اليابان؟

وفقا لنظام عام ١٩٥٥، فقد استمرت فترة الحكم المتواصلة للحزب الليبرالي الذي حكم من عام ١٩٥٥ وحتى عام ١٩٩٣، وذلك على نحوٍ يتوافق فيه النظام البرلماني للحكومة اليابانية بشكل كامل مع نموذج الديمقراطية التوافقية مع وجود بعض التباينات. وعلى الرغم من أن نظام الانتخابات الياباني لم يتبع نظام التمثيل النسبي، إلا أنّهُ كان لنظام المناطق متوسطة الحجم متعددة المقاعد في اليابان تأثيراً مماثلاً بما يدعم نظاماً حزبياً تعددياً وإن كان يخضع للسيطرة عليه من قبل حزب واحد وهو الحزب الليبرالي. وعلى النقيض من الديمقراطية التوافقية النموذجية، فقد خضعت اليابان لسيطرة حكومات الحزب الواحد خلال تلك الفترة. ونظراً لأنّ الحزب الليبرالي يتألف من فصائل متنافسة، فقد كانت حكومات الحزب الليبرالي مماثلة لحكومات ائتلافية في أوجه كثيرة(*٤).

ومن وجهة نظر دستورية، يتمتع البرلمان بدرجة كبيرة من الاستقلالية مقارنة بالحكومة. ولعل هذه الحقيقة بالإضافة لنفوذ الفصائل الداخلية في الحزب الليبرالي تكسب جهاز الحزب صوتا قويا في عملية صناعة القرار، مما يتنج عنه عملية صناعة سياسات مزدوجة، تقودها الحكومة من جهة والحزب الليبرالي من جهة أخرى. وبما أنّ للحكومة سلطة محدودة نسبيا على الحزب، فقد كان من غير الممكن السيطرة على المجلس التشريعي. وبالنظر للنفوذ الذي يتمتع به كبار أعضاء الحزب الليبرالي الديمقراطي، فانّه يبدو من الإنصاف القول بأنّ السلطة كانت بشكل أو بآخر متوازنة وبصورة متساوية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ومن حيث تركيب الهيئة التشريعية، فالبرلمان ثنائي السلطة التشريعية و يتكون من مجلسي النواب والشيوخ. وفي حين أن مجلس النواب أقوى من مجلس الشيوخ، إلا أن مجلس الشيوخ يتمتع بقوة كبيرة في إلغاء التشريعات. وحتى خلال السنوات التي سيطر فيها الحزب الليبرالي الديمقراطي على المجلسين، فقد مارس مجلس الشيوخ هذه السلطة مما أثر بفعالية على السياسة من وراء الكواليس. وأخيرا وكنتيجة لتلك الصفات السابقة، كانت سلطة رئيس الوزراء الياباني ضعيفة بشكل واضح.

وقد خضع النظام السياسي في اليابان لعدد من الإصلاحات خلال تسعينيات القرن العشرين. وكان أهمها إصلاح النظام الانتخابي عام ١٩٩٤ وإعادة تنظيم الحكومة والوكالات الحكومية عام ٢٠٠١، حيث تمت مناقشتها والتخطيط لها بين عامي ١٩٩٦ و١٩٩٨. وقد أدى إصلاح النظام الانتخابي عام ١٩٩٤ إلى استبدال نظام الدوائر الانتخابية المتوسطة الحجم بنظام مواز يجمع بين الدوائر ذات المقعد الواحد والتمثيل النسبي. كما عززت الإصلاحات الإدارية التي طبقت في عام ٢٠٠١ من الكادر الاستشاري وكادر الدعم لرئيس الوزراء ووسعت صلاحياته وصلاحيات مكتبه. (كانت هناك إصلاحات رئيسية أخرى خلال هذه الحقبة، بما في ذلك إصلاح نظام التمويل السياسي الذي رافق إصلاح النظام الانتخابي عام ١٩٩٤، ولكن لن أناقشها هنا).

هل أحدثت هذه الإصلاحات تحولا في نظام اليابان البرلماني؟

حقق استبدال نظام الدوائر الانتخابية متعددة المقاعد بنظام الدوائر ذات المقعد الواحد التأثير المرجو في نقل اليابان إلى نظام الحزبين. فبعد فترة وجيزة من تطبيق الإصلاح، بدأت القوى السياسية التي لا تنتمي للحزب الليبرالي بالتكتل، وقد انضوت أولا ضمن حزب الجبهة الجديد وبعد تفككه اجتمعت تحت اسم الحزب الديمقراطي الياباني. وخلال الانتخابات العامة التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٣، توزعت ٨٦٪ من مقاعد مجلس النواب بين الحزب الليبرالي والحزب الديمقراطي الياباني. وفي أعقاب انتخابات مجلس الشيوخ التي أجريت في يوليو/تموز عام ٢٠٠٤، سيطر الحزبان الكبيران على ٨١٪ من المقاعد في مجلس الشيوخ. وعلى مدى السنوات الثمانية التالية، تنافس كُلٌ من الحزب الليبرالي والحزب الديمقراطي الياباني من أجل السيطرة على الحكومة بطريقة تقترب من النظام الحزبي الثنائي.

كما تسبب إصلاح النظام الانتخابي في تقليل المنافسة بين الفصائل داخل الحزب الليبرالي الديمقراطي، لأنه لم يعد بإمكان عدة مرشحين تابعين للحزب الليبرالي خوض الانتخابات والفوز في دائرة انتخابية واحدة. ونتيجة لذلك، بدأ الحزب بأخذ صفة حزب متماسك بعد أن كان نوعا ما عبارة عن ائتلاف لفصائل.

ويعد تراجع قوة الحزب الليبرالي الديمقراطي في البرلمان اضطر إلى تشكيل ائتلافات مع أحزاب أخرى، ولا سيما حزب كوميه وهذا يشكل دليلا على هذه الحقيقة. كما لجأ الحزب الديمقراطي الياباني أيضا إلى إقامة ائتلاف مع حزب الشعب الجديد والأحزاب الصغيرة الأخرى لتشكيل حكومة بعد أن أطاح بالحزب الليبرالي في عام ٢٠٠٩. وفي الواقع، فانّ كل الحكومات التي تشكلت منذ يناير/ كانون الثاني عام ١٩٩٩ كانت عبارة عن ائتلافات. ولا تزال الحكومات، مقارنة مع حكومات الحزب الليبرالي التي شكلت بموجب نظام عام ١٩٥٥، تعمل كحكومات حزب واحد وعملت على تركيز القوة في يد السلطة التنفيذية وتقويتها.

ونظراً لكون الفوز بالانتخابات بشكل مستقل في نظام الدوائر الانتخابية ذات المقعد الواحد أمراً صعباً أكثر من نظام الدوائر الانتخابية متوسطة الحجم، فإن موافقة الحزب بموجب النظام الانتخابي الجديد تحتل أهمية أكبر. ومع الأخذ بأنّ السلطة النهائية للحزب فيما يتعلق بالموافقة على المرشحين هي بيد زعيمه، فقد بدأ زعماء الأحزاب بممارسة مزيد من النفوذ داخل أحزابهم. وفي نفس الوقت، عززت الإصلاحات الإدارية من نفوذ رئيس الوزراء ولا سيما فيما يتعلق بصناعة السياسات. حيث منحت القوانين الجديدة رئيس الوزراء الحق في طرح سياسات جديدة في اجتماعات مجلس الوزراء كما خَوَّلت رسميا أمانة سر رئاسة (بمثابة وزارة) مجلس الوزراء الصلاحية َ في صياغة مسودة السياسات.

قصور الإصلاحات الدستورية

وقد جعلت الإصلاحات الدستورية التي أجريت في العقدين الماضيين النظام الديمقراطي البرلماني في اليابان أقرب ما يكون إلى نموذج ديمقراطية ويستمنستر(*٥). إلا أن النظام الياباني مازال بعيدا عنه من ناحيتين جوهريتين تؤثران على التوازن في توزيع القوة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. الناحية الأولى أن التباين يجب أن يكون في سلطة الحكومة على المؤسسة التشريعية بالإضافة لأعمال البرلمان والتشريع أي بعبارة اخرى  سير وتقدم مشاريع القوانين والقرارات في مجلسي البرلمان. بينما تهتم الناحية الثانية بتركيب البرلمان بوصفه نظاما ثنائي السلطة التشريعية وكذلك بالصلاحيات النسبية لكلا المجلسين. ومن كلا الناحيتين، لا يزال النظام الياباني يحتفظ بصفة الديمقراطية التوافقية.

وحتى نفهم بصورة أفضل كيف تحدد هذه الميزات صفة النظام البرلماني الياباني، دعونا نقارن بين النظام البرلماني الياباني والنظام البرلماني البريطاني، والذي استمد نموذج ديمقراطية ويستمنستر حيث ان تلك التسمية مُشتقٌ منها.

ففيما يتعلق بالتحكم بجدول أعمال المجلس التشريعي وتوجيه مشاريع القوانين من خلال البرلمان، فإن رئاسة الوزراء البريطانية تملك سلطة أقوى بكثير من سلطة مجلس الوزراء الياباني. وبادئ ذي بدء، تقع مهمة تحديد أولويات جدول أعمال المجلس التشريعي في بداية الجلسة على عاتق الحكومة. بحيث يمكن للحكومة أن تحدد الجدول الزمني للمجلس التشريعي عن طريق تقديم ’’اقتراح برنامج‘‘ بعد قراءة مشروع قانون للمرة الثانية. وهناك طريقة أخرى يمكن للحكومة أن تؤثر بها على نتائج المجلس التشريعي عبر استخدام مراقبين. يتم تعيين المراقبين من قبل كل حزب لمراقبة أصوات أعضاء البرلمان وفرض الانضباط الحزبي. ويملك كبير المراقبين عن الحزب الحاكم منصبا وزاريا أيضا في بريطانيا. وأكثر من ذلك، يلعب المراقبون بشكل كبير دورا في تعيين اللجان العامة لمراجعة مشاريع القوانين، وهكذا، فمن غير المرجح بشكل كبير أن يحصل عضو في الحزب الحاكم يعارض مشروع قانون حكومي معين على مقعد في اللجنة المكلفة بدراسة مشروع القانون. وربما تقلل هذه الآليات الفرص لأن يتم عرقلة مشاريع قوانين الحكومة من قبل اللجنة مما يساعد في ضمان تمريرها بسلاسة.

أما في اليابان فعلى النقيض من ذلك، حيث أن مجلس الوزراء لا يملك أي سلطة في إعداد جدول أعمال المجلس التشريعي للبرلمان ويملك تأثيراً محدودا جدا على الطريقة التي يدير بها البرلمان أعماله. فبموجب النظام الياباني فإن تلك السلطات تتركز بشكل أساسي في يد لجان المتابعة لمجلسي البرلمان وفي يد اللجان الدائمة في البرلمان. ولجان المتابعة في مجلسي النواب والشيوخ والتي تملك سلطة فعالة في تقرير ما إذا كانت ستعقد جلسة عامة في أي يوم معين وفي إعداد أعمال ذلك اليوم عند تحديده.

كما انّ تلك اللجان تَبّتُ في طلبات أعضاء البرلمان في استدعاء وزراء قبل عقد جلسة عامة لشرح مشروع قانون الحكومة. وعلى اعتبار أن مثل تلك الطلبات أصبحت روتينا متبعا للمعارضة وأن مشروع قانون ما لا يمكن تحويله إلى لجنة قبل أن تتخذ لجنة المتابعة قراراها بذلك، فإن تلك السلطة المطبقة تسمح للجنة بالتحكم بوقت عرض مشروع قانون للتداول. وضمن أًطر لجان المتابعة القوية تلك، يمارس رؤساء اللجان والمدراء سلطة هائلة. من الناحية العملية، تلعب المفاوضات بين الحزب الحاكم والمعارضة والتي تجري في الكواليس دورا كبيرا في تحديد أولويات أعمال البرلمان. يتولى رئيس لجنة شؤون البرلمان من الحزب الحاكم ونظرائه في المعارضة مهمة التفاوض على ترتيب عرض مشاريع القوانين والوقت المخصص لكل منها.

ثُمَّ تحول مشاريع القوانين في البرلمان الياباني إلى لجان دائمة مختصة في مختلف المجالات السياسية، بدلا من اللجان العامة لمراجعة مشاريع القوانين التي تضع الأسس لمداولة كل مشروع قانون على أساس الاختصاص، كما هو الحال في بريطانيا. وضمن كل لجنة برلمانية، يتم تحديد ترتيب عرض مشاريع القوانين والفترة المخصصة لكل منها في مفاوضات غير رسمية بين رئيس اللجنة والمديرين.

وعبر الاستفادة من تلك الميزات الدستورية، يمكن لكبار واضعي السياسات في الحزب الحاكم أن يلعبوا دورا محوريا في إعداد جدول أعمال البرلمان، بينما يملك مجلس الوزراء سلطة محدودة في تقدم التشريع بعد عرضه على البرلمان.

وعلى الرغم من ذلك، فقد كان من النادر أن يدخل البرلمان والحكومة في صراع حول مشاريع قوانين حكومية قبل عام ٢٠٠٩. والسبب في ذلك هو أن الحزب الليبرالي عبر’’نظام المراجعة المسبقة‘‘ الذي اتبعه لفترة طويلة يقوم بفحص كافة التشريعات قبل أن تقدمها الحكومة إلى البرلمان. و نتيجة ذلك ومن حيث المبدأ، فإن جميع مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة التابعة للحزب الليبرالي هي تلك التي تتمتع بموافقة سياسيي الحزب في البرلمان(*٦). ولا شك من أن هذا النظام يهدف إلى تجنب الفوضى التشريعية الناجمة عن مكائد عدد قليل من أعضاء متنفذين في البرلمان(*٧). وهذا يعني أيضا، أنه من المرجح أن  تلقى مشاريع القوانين معارضة قوية من أعضاء في الحزب الحاكم  في أثناء عملية المراجعة المسبقة داخل الحزب الديمقراطي الليبرالي. وقد ساعدت هذه الممارسة على إخفاء المشاكل المحتملة لنظام يكون فيه تدخل الحكومة في شؤون البرلمان محدودا جدا. 

وقد ظهرت هذه المشاكل مع ظهور مشاعر الامتعاض والنقمة وذلك بعد وصول الحزب الديمقراطي الياباني إلى السلطة في عام ٢٠٠٩، وبدء الحكومة بتقديم مشاريع قوانين إلى البرلمان دون عرضها على الحزب الحاكم لمراجعة مسبقة. حيث كانت العواقب مدعاة للصدمة بشكل خاص أثناء إدارة الحزب الديمقراطي الياباني الناشئة من قبل رئيس الوزراء يوكيو هاتوياما. فأثناء فترة ولاية هاتوياما، قام مجلس الوزراء بعرض تشريعات أساسية مرارا على البرلمان ولكن لم يتم تمريرها هناك بسبب عدم وجود تعاون من نواب الحزب الديمقراطي الياباني نفسه. وإدراكا للمشكلة، قامت حكومة رئيس الوزراء يوشيهيكو نودا بعكس الترتيب حيث بدأت بتقديم مشاريع القوانين للحزب الديمقراطي الياباني للموافقة عليها أو عدم الموافقة.

ولعل قوة البرلمان في التحكم بجدول أعماله دون تدخل السلطة التنفيذية عمليا هي واحدة من السمات المميزة للنظام الديمقراطي البرلماني في اليابان. وعلى نحوٍ يمنح هذا النظام فيه كبار أعضاء البرلمان سلطة كبيرة في التأثير على الأجندة التشريعية والجدول الزمني، و يعطيهم القدرة  بالتالي على التأثير على عملية صنع السياسات بأكملها. وبدلا من دمج الحكومة بحزب الأغلبية، كان من المفيد نشوء عمليتي صنع سياسات منفصلتين. ونتيجة لذلك، واصل البرلمان الحفاظ على درجة عالية من الاستقلالية، وفشلت السلطة التنفيذية في إنشاء هذا النوع من الهيمنة على السلطة التشريعية النموذجية لديمقراطية ويستمنستر حقيقية.

العقبات التي تعترض سلطات مجلس الشيوخ

لعل الاختلاف الرئيسي الآخر بين النظام الياباني ونموذج ويستمنيستر يتمثل في وجود برلمان ثنائي السلطة التشريعية وفي العلاقة بين مجلسي البرلمان. وعلى الرغم من أن بريطانيا تمتلك نظاما تشريعيا ثنائيا أيضا، إلا أن سلطات مجلس العموم تضعف سلطات مجلس اللوردات. فبإمكان مجلس العموم أن يقوم بالتصويت على ’’مشاريع قوانين المال‘‘، وهي التشريعات المتعلقة بالنظام الضريبي وإنفاق الحكومة، لتصبح قانونا من جانب واحد دون موافقة مجلس اللوردات. أما فيما يتعلق بالتشريعات الأخرى، فيمكن لمجلس اللوردات أن يؤخر مشروع قانون وافق عليه مجلس العموم عبر التصويت ضده، ولكن لسنة واحدة فقط، وبعد ذلك يمكن لمجلس العموم أن يفرض القانون.  

إن سلطات مجلسي البرلمان في اليابان متطابقة بشكل متساوٍ كثيرا، وذلك على الرغم من أن مجلس النواب يتمتع بسلطة أكبر. أمّا فيما يخص الموافقة على الميزانيات والاتفاقيات، فإن قرار مجلس النواب هو المهيمن. وبالنسبة للتشريعات الأخرى، فسلطات مجلس النواب محدودة بشكل كبير في قدرته على تجاوز قرار مضاد من مجلس الشيوخ. فإذا ما رفض مجلس الشيوخ مشروع قانون كان مجلس النواب قد قام بتمريره أو مرر بصيغة معدلة، فإن قرار مجلس النواب يمكن فقط أن يسود من خلال تمرير مشروع القانون الأصلي في المرة الثانية مع الموافقة عليه من قبل ثلثي أعضائه الحاليين. وهذه هي العقبة الكبرى التي يجب على أي حزب أكثرية تجاوزها. وبالإضافة لذلك، فإن مجلس الشيوخ يمكن أن يؤخر القيام بعمل حيال مشروع قانون تحويله من مجلس النواب لمدة ٦٠ يوما كحد أقصى.

وبعد ذلك يستطيع مجلس النواب أن يعتبر أن مجلس الشيوخ قد رفض مشروع القانون ويستطيع التصويت عليه ثانية. وعند اعتبار أن مجلس الشيوخ تخلى لمجلس النواب عن تعيين رئيس الوزراء وبانّه غير مفوض بتقديم قرارات الثقة أو سحبها من الحكومة، فانه لا توجد ضمانة بأنَّ الحكومة ستحظى بدعم الأغلبية في مجلس الشيوخ. وفوق ذلك، لا تملك الحكومة سلطة حل مجلس الشيوخ أو الدعوة إلى انتخابات. ومن وجهة نظر دستورية، يشكل مجلس الشيوخ عقبة أكبر من مجلس النواب أمام التشريعات الحكومية.

التأثير على تغيير الحكومة

إن هذه التباينات بين نظام اليابان البرلماني ونظام ويسمنيستر تساعد في شرح حجم الاضطرابات التي عانت ومازالت تعاني منها السياسات اليابانية في السنوات الأخيرة. منذ سبتمبر/أيلول ٢٠٠٦ وحتى الآن، حيث بدلت اليابان رئيس وزرائها بمعدل مرة كل سنة. ولحيّزٍ كبير من ذلك الوقت، وصلت عملية صناعة السياسة والعملية التشريعية إلى طريق مسدود عمليا. ولعل تلك الظروف هي بشكل كبير نتيجة للصفات الدستورية التي ناقشناها في الفقرة السابقة، لاسيما قوة مجلس الشيوخ.

والتي تُشكِل برُمَتها أحد العوامل الرئيسية وراء الاستقالات المبكرة لرؤساء الوزراء ياسوؤ فوكودا وناوتو كان ويوشيهيكو نودا وانعكست بتمثلهم في عدم القدرة على فرض تشريعات في البرلمان فبعد أن فقد الحزب الحاكم السيطرة على مجلس الشيوخ. استحوذ الائتلاف بين الحزب الليبرالي وحزب كوميه على أكثر من ثلثي المقاعد في مجلس النواب خلال ولاية فوكودا في عام ٢٠٠٧، ولكنه فقد الأغلبية في مجلس الشيوخ في الصيف الذي سبقه. وفي مثل هذه الحالة التي تكون فيها الحكومة منقسمة، يتوقف سير تقدم مبادرات سياسية جديدة. وهذا ماأجبر مجلس النواب على تجاوز مجلس الشيوخ بأغلبية تعادل ثلثي المقاعد لدفع مشاريع قوانين مهمة تسمح مرة أخرى بإعادة تمويل عمليات في المحيط الهندي لدعم حرب الولايات المتحدة على الإرهاب. وأكثر من ذلك، ونظراً لأن الاستحواذ على الأغلبية في مجلس النواب لا يطبق على التعيينات التي تتطلب موافقة البرلمان، فقد كافح فوكودا لإيجاد بديل عن محافظ بنك اليابان المركزي فوكوي توشيهيكو عند انتهاء فترته في مارس/آذار عام ٢٠٠٨، وقد بقي المنصب شاغرا لعدة أسابيع. ومن ثم قدم فوكودا استقالته في سبتمبر/أيلول من نفس العام مشيرا إلى جمود سياسي يسود الموقف.

وقد واجه رئيس الوزراء ’’كان‘‘ عقبات مماثلة عندما خسر الائتلاف الذي يتزعمه الحزب الديمقراطي اليابان أغلبيته في مجلس الشيوخ عقب انتخابات مجلس الشيوخ في يوليو/تموز ٢٠١٠. وبسبب ذلك، كان ’’كان‘‘ غير قادر على ضمان موافقة البرلمان لمواصلة سياسة دفع بدل الأطفال والتي هي إحدى سياسات الحزب الديمقراطي الياباني الرئيسية. ومن ثُمَّ انحنى في النهاية أمام ضغوط المعارضة وقدم استقالته من أجل ضمان دعم الحزب الليبرالي الديمقراطي في مشروع قانون حاسم يسمح للحكومة بإصدار سندات تمويل العجز. لكنّهُ لا يوجد أدنى شك في أن الجمود التشريعي الناجم عن انقسام الحكومة بشكل خطير، أضعف سلطة مجلس الوزراء ضمن الحزب.

كما كانت فترة ولاية رئيس الوزراء نودا ضعيفة بشكل كبير بسبب انقسام الحكومة. مما دفع به للوصول إلى اتفاقية مع رئيس الحزب الليبرالي تانيغاكي ساداكازو لحل مجلس النواب مقابل تعاون حزبه في الدفع خلال كبرى الأولويات التشريعية لحكومته ودعم مشروع قانوني الضمان المالي والاجتماعي المرتكزين على زيادة ضريبة الاستهلاك. وقد احترم نودا الاتفاقية وقام بحل البرلمان في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠١٢ ودعا إلى انتخابات عامة في ظل ظروف جعلت الحزب الديمقراطي في وضع لا يحسد عليه.

وبشكل لا يدع مجالا للشك، كان العامل الأكثر أهمية وراء استقالة هاتوياما هو في طريقة تعامله مع نقل قاعدة فوتينما الجوية التابعة لفيلق البحرية الأمريكية بأوكيناوا والتي جعلت ظهر الحكومة إلى الحائط. إلا أن عدم وجود آلية لجعل البرلمان وسياسات الحكومة على توافق ساهم في سقوطه. وبسبب ذلك، كانت الحكومة غير قادرة على سن تشريع حاسم لبرنامج عملها، بما فيا تعهدات انتخابية رئيسية للحزب الديمقراطي الياباني. وهذا ساهم في تآكل الزخم السياسي القيم والدعم الشعبي.

آفاق ولاية آبي الثانية

ماهي ملامح حكومة رئيس الوزراء شينزو آبي في ظل إصلاح النظام السياسي في اليابان بشكل جزئي؟

جرت انتخابات مجلس الشيوخ في الحادي والعشرين من يوليو/تموز وقد حقق الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم انتصارا ساحقا حيث فاز بـ٦٥ مقعدا من أصل ١٢١ مقعد. وبهذا استحوذ الائتلاف بين الحزب الليبرالي وحزب كوميه على ١٣٥ مقعد من أصل ٢٤٢ مقعد في مجلس الشيوخ، كما أصبح أيضاً كلا المجلسين في البرلمان تحت هيمنة الحزب الحاكم.

وفي حالة الحكومة المنقسمة، يتمثل الهدف الرئيسي للمعارضة في عرقلة الحكومة وتنفير الشعب من الحزب الحاكم. ولتحقيق هذه الغاية، لا توافق المعارضة على مشاريع قوانين بشكل متكرر وتوقف أو تعرقل المداولات بفروقات صغيرة نسبية. ولكن انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة وضعت نهاية  لهذا الجمود الحزبي، ومن المفترض أن يجد رئيس الوزراء آبي سهولة في سن تشريعات ومتابعة جدول أعمال سياسته.

إلا أن السمتين المميزتين للنظام البرلماني في اليابان ستواصلان التأثير على العملية السياسية. حيث أن استقلال البرلمان مقارنة مع مجلس الوزراء، مازال يسمح لكبار واضعي السياسات في الحزب الحاكم بالحفاظ على تأثير مهم حول مصير تشريعات الحكومة المهمة. كما يسمح الموقع المميز لمجلس الشيوخ لسياسيّه في ممارسة نفوذهم دون المخاطرة بحل البرلمان.

وكما أشرت أعلاه، يتّبع الحزب الليبرالي الديمقراطي بالفعل نظاما يتطلب الحصول على موافقة أعضاء الحزب على مشروعات قوانين جديدة بصورة مسبقة. وهذا ما يجعل من غير المحتمل أن تتعرض مشاريع قوانين الحكومة للمماطلة بعد تقديمها للبرلمان، كما كان يحدث في فترة حكم الحزب الديمقراطي. وفي الوقت نفسه، يؤدي هذا النظام إلى إبطاء وتيرة وضع السياسات لأنها تستلزم مشورة وموافقة عدد كبير من سياسيّ الحزب الليبرالي الديمقراطي. وهكذا يجب على حكومة آبيه الحالية، وبشكل مشابه لحكومات الحزب الليبرالي السابقة، أن تقدم جدول أعمالها من خلال عملية صنع قرار مرهقة. وبالنسبة للعديد من مبادرات آبي السياسية، سيكون ضمان الحصول على تعاون سياسيي من أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ أساسيا.

وبهذا يرمي تبني إصلاحات منذ تسعينيات القرن العشرين إلى جعل النظام الديمقراطي البرلماني في اليابان أقرب ما يكون إلى نموذج ويستمنيستر، وإلى حد ما نجحت الإصلاحات في ذلك. أما فيما يتعلق بتوازن السلطة بين الحكومة والبرلمان والعلاقة بين الهيئتين التشريعيتين، فلا تزال اليابان تتبع نموذج الديمقراطية التوافقية. وهذا ليس مستغربا، فبقدر ما استهدفت الإصلاحات النظام الانتخابي في المقام الأول وتنظيم السلطة التنفيذية وليس السلطة التشريعية بحد ذاتها. كما هي عليه الحال، فانَّ استقلال البرلمان وصيغته المميزة كنظام ثنائي السلطة التشريعية يشكل عوائقاً صلبة تعيق جهود اليابان في هذا المنحى. وسيكون من الواجب إجراء إصلاح دستوري للبرلمان بشكل عام ونظام ثنائية السلطة التشريعية بشكل خاص وذلك في أي تقدم ومسعى نحو نموذج ويستمنستر.

(النص الأصلي باللغة اليابانية)

(*١) ^ كما ناقشها ساتو كوجي في كينبو (الدستور)، طوكيو: سيرين شوين، ١٩٨٠ الصفحة ١٩٠.

(*٢) ^ آرند ليبهارت، أنماط الديمقراطية (الجنة الجديدة: طباعة جامعة يل، ١٩٩٩

(*٣) ^ انظر على سبيل المثال، أوياما رئييكو، هيكاكو غيكاي رون (الحكومة البرلمانية المقارنة) طوكيو: إيوانامي شوتين، ٢٠٠٣. ريو كيوكو، نيهون كانريوسيه- نيون-غاتا كارا ويستومينسوتا-غاتا إيه (البيروقراطية اليابانية: من الأسلوب الياباني إلى أسلوب ويستمينستر) في موراماتسو ميتشيؤو وكوميه كونيو، نيهون سيجي هيندو نو ٣٠-نين (ثلاثون عاما من التغيير السياسي في اليابان) طوكيو: طوكيو كئيزاي شينبون شا، ٢٠٠٦ الصفحة ٢٢٣-٢٥٥. و ياماغوتشي جيرو، كايكاكو سئيدو (نظام الحكومة) طوكيو: طباعة جامعة طوكيو، ٢٠٠٧.

(*٤) ^ انظر إسرائيل هيروفومي، هاباتسو سايهينسيه ( إعادة اصطفاف فصائل الحزب) طوكيو: تشوكورون شا، ١٩٨٨، الصفحة ٨٢.

(*٥) ^ كما ناقش على سبيل المثال، ريو في أوب سيت صفحة ٢٢٣ وصفحة ٢٣٥، ياماغوتشي أوب سيت صفحة ٢٠٣، وماتشيدوري ساتوشي، شوشو سيجي نو سئيدو بونسيكي (تحليل الأنظمة لحكومة رئاسة الوزراء) طوكيو: تشيكورا شوبو، ٢٠١٢ صفحة ١٣٩.

(*٦) ^ كما أشار إييو جون في نيهون نو توتشي كوزو (هياكل الحكم اليابانية) طوكيو: تشوؤكورون شينشا، ٢٠٠٧ الصفحة ١٢٣-١٢٥.

(*٧) ^ تغطية لأوياما رئييكو في نيهون نو كوكّاي (البرلمان الياباني) طوكيو: إيوانامي شوتين، ٢٠٠١.

مجلس النواب انتخابات