دراسة أوكيناوا اليوم

الهوية الأوكيناوية والنضال من أجل حق تقرير المصير

سياسة اقتصاد مجتمع

منذ الحملة الانتخابية الناجحة لأوناغا تاكيشي على منصب محافظ أوكيناوا في الخريف الماضي، ظهر مصطلح ”هوية أوكيناوا“ كتعبيرٍ عن صرخة ألم بغية جمع الشمل من أجل التكاتف لمواجهة خطط نقل موقع قاعدة فوتينما الجوية التابعة لمشاة البحرية الأمريكية ضمن محافظة أوكيناوا. وفي هذه المقالة، يستعرض شيمابوكورو جون، الخبير في العلوم السياسية والناشط من أوكيناوا، معنى الهوية الأوكيناوية في سياق تاريخي مركزا على المعاناة جراء ”التمييز الهيكلي“ في فترة ما بعد الحرب.

خلال انتخابات شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠١٤ الرامية لاختيار محافظ أوكيناوا ظهرت عبارة طنانة وهي ”هوية أوكيناوا“ واكتسبت شعبية كبيرة، ولم تكن تلك الانتخابات سوى تنافساً حول خطط حيال نقل قاعدة فوتينما الجوية التابعة لمشاة البحرية الأمريكية ضمن محافظة أوكيناوا أي من مدينة غينووان إلى منطقة هينوكو في مدينة ناغو ذات الكثافة السكانية الأقل. وقد فاز عمدة مدينة ناها سابقا أوناغا تاكيشي في الانتخابات على أساس معارضة بناء منشأة بديلة في هينوكو لنقل القاعدة إليها أو إلى أي مكان آخر في أوكيناوا. وقد سعى أوناغا في دعوته للـ”الهوية على حساب الأيديولوجيا“ إلى بناء جبهة موحدة ضد خطة نقل القاعدة، وهو تحالف يهدف ليشمل جميع سكان أوكيناوا ويضم جميع الأطياف السياسية من الليبراليين الديمقراطيين اليمينيين إلى الشيوعيين اليساريين.

وهذه أول مرة على الإطلاق يقوم فيها سياسي أوكيناوي بالتوضيح لشعب أوكيناوا لماذا يجب عليهم أن يقرروا مصيرهم، وبشكل خاص فيما يتعلق بالقواعد العسكرية الأمريكية في اليابان التي تتركز غالبيتها في محافظة أوكيناوا. وفي الحقيقة أتخذ كثير من السياسيين المحليين ممن ترشح لعضوية مجلس النواب أو مجلس الاستشاريين (الشيوخ) في السنوات الأخيرة هذا الموقف. ولكن حتى الآن لم يحاول أي سياسي بارز الفوز بتأييد جميع الأطياف السياسية من خلال رفع شعار ”الهوية الأوكيناوية“ باعتبارها مبدأ لوحدة الصف ومتجاوزا بذلك الولاءات الحزبية والمصالح التنافسية للدوائر الانتخابية المحلية.

الهوية السياسية تصنع تحالفات غريبة

وبالكاد مع حلول عودة أوكيناوا إلى السيادة اليابانية في شهر مايو/أيار ١٩٧٢، قامت القوى السياسية في أوكيناوا بتنظيم صفوفها إما مع الحزب الليبرالي الديمقراطي المحافظ أو مع الحزب الاشتراكي الياباني التقدمي، وهذا ما يعكس الانقسام الذي كان يهيمن على السياسة القومية في فترة الحرب الباردة. وكأنت تلك الأسس التي استمد السياسيون منها تأييدهم. حيث كان انقسام القوى السياسية إلى يمينية ويسارية آنذاك ذا معنى في أوكيناوا فقد غطت المعركة الأيديولوجية على قضية القواعد الأمريكية وتزامنت إلى حد كبير مع وجود تصدعات في العلاقة بين الشركات والنقابات العمالية.

وقد بدأت هذه البنية بالانهيار عندما أُثير الخلاف مجددا بشأن قاعدة فوتينما الجوية عام ٢٠٠٩. وفي عام ٢٠١٠، انضم سياسيو أوكيناوا من الحزب الليبرالي الديمقراطي إلى تقدميي المحافظة في الدعوة إلى نقل قاعدة فوتينما خارج المحافظة. مما أدى إلى قيام معظم المنشقين عن الحزب الليبرالي الديمقراطي بالتخلي عن ذلك التحالف تحت ضغوط كبيرة من القيادة المركزية للحزب. أما الفئات المتبقية فكانت جماعات متباينة أيديولوجياً وتبنت في نهاية المطاف فكرة الهوية الأوكيناوية كسبب يدعو للاتحاد فيما بينها.

ولكن إلى ماذا تشير الدعوة التي يطلقها هذا التجمع؟

وفقا للاستخدام الحالي لذلك المصطلح الرنان من سياسيين وناشطين محليين أصبحت ”الهوية الأوكيناوية“ مرادفاً لحق سكان أوكيناوا في تقرير مصيرهم، وهي فكرة أن يكون لأوتشينانتشو (كما يدعو سكان أوكيناوا أنفسهم) القول النهائي لهم بشأن استخدام أرضهم ومياههم ومواردهم الأخرى. وقد أصبحت هذه القضية ذريعة رئيسية في معارضتهم للخطة الحالية لنقل القاعدة الأمريكية.

إن تقرير المصير هو مسألة سيادة، وهذا يتجاوز قضية الحكم الذاتي المحدود المكفولة لهذه المحافظة اليابانية. وإذا تمكن شعب أوكيناوا من نيل حقه في تقرير المصير، فهذا يعني أنه لن يكون بمقدور الحكومتين الأمريكية واليابانية بعد الآن التوصل لوحدهما فقط اتخاذ القرار بشأن القاعدة. حيث يجب علىيهما أن تحترما رغبة شعب أوكيناوا، وعلى الحكومة اليابانية الحصول على موافقة أوكيناوا في مثل هذه القضايا حتى يصبح قرارها شرعيا.

الخلفيات التاريخية لحق تقرير المصير

تعود الجذور التاريخية لقضية حق تقرير المصير إلى مملكة ريوكيو والحقبة التاريخية التي تلت ذلك في أوكيناوا. وتتمثل النقطة الرئيسية الأولى في قيام حكومة ميجي بضم مملكة ريوكيو بالقوة. أما النقطة الثانية فتتعلق باستسلام اليابان بموجب بنود إعلان بوتسدام واستيلاء الجيش الأمريكي على تلك الجزر فيما بعد.

كانت ريوكيو مملكة مستقلة قبل ضمها بالقوة عام ١٨٧٩ ولكنها ارتبطت بالصين بعلاقة تبعية قائمة على كسب مباركة الإمبراطورية الصينية في شؤون تولي الحكم. وكانت الإمبراطورية الصينية قد اعتادت على مطالبة الدول الآسيوية الأخرى التي تحافظ معها على علاقات تجارية ودبلوماسية أن تكسب مباركتها أيضا وبالرغم من تمتع تلك الدول باستقلال سياسي كامل. (في ظل حكم أشيكاغا يوشيميتسو (١٣٥٨-١٤٠٨)، فإنّ اليابان بدورها كانت تتواصل مع سلالة مينغ الإمبراطوية في الصين للحصول على مباركتها). وقد استمرت علاقة التبعية التي تربط مملكة ريوكيو بالصين زهاء ٥ قرون. وفي عام ١٨٠٩، قامت إقطاعية ساتسوما القوية في جزيرة كيوشو بغزو ريوكيو، وسمحت لتلك المملكة أن تستمر بعلاقاتها مع الصين القائمة على التبعية ولأنّ علاقات ريوكيو والصين آنذاك كانت تعود أيضا بفوائد اقتصادية على إقطاعية ساتسوما كما لم يكن هناك أي تدخل في الشؤون السياسية الداخلية لمملكة ريوكيو. وفي منتصف القرن التاسع عشر، تم اعتبار ريوكيو كدولة ذات سيادة بموجب القواعد العرفية للقانون الدولي العام، ويدلل على ذلك حقيقة أن الولايات المتحدة وقّعت مع هذه المملكة معاهدة منفصلة.

ولكن في عام ١٨٧٩، أرسلت حكومة ميجي اليابانية - التي تأسست قبل عقد من ذلك التاريخ - قواتها لمحاصرة قلعة شوري وأعلنت ضم مملكة ريوكيو. وقد قاوم سكان ريوكيو عملية الضم والاندماج بسبل متعددة، منها القيام بحركة تحرر وطني شامل، وقيام نبلاء مملكة ريوكيو بمناشدة حكومة إمبراطورية تشينغ الصينية بمساعدتهم، وكذلك العديد من السفارات الأجنبية بنفس الشأن. ولكن حكومة ميجي قضت على جميع أشكال المقاومة بلا هوادة. وفي نهاية المطاف، فرّ الكثير من طبقة النبلاء إلى الصين، أما المتبقون وعددهم كبير فقد هاجروا فيما بعد إلى هاواي. ومع انهيار منظومة الحكم التقليدية في ريوكيو، لم يكن أمام سكان تلك الجزر - أصبح اسمها محافظة أوكيناوا فيما بعد - إلا فرص ضئيلة للاستسلام لسياسة الاندماج التي اتبعتها الحكومة اليابانية.

يقول دعاة الحصول على حق تقرير المصير في وقتنا الحالي إن ضم اليابان بالقوة لبلد كان معترفا به كدولة ذات سيادة أمرٌ لا يمكن تبريره بموجب القانون الدولي، وبأن شعب ريوكيو لم يُسَّلم أبدا سيادته لليابان بمحض إرادته الحرة. وهذا هو الموقف الجوهري لـ”جمعية الدراسات الشاملة من أجل استقلال شعب ليو تشيو (ريوكيو)“ التي تم تأسيسها حديثا والتي سوف نناقش ما يتعلق بها فيما بعد.

إن تهجئة كلمة ريوكيو تعكس اللفظ الياباني لاسم الجزر والمملكة التي كانت تحكمها. وقد تبنى بعض مؤيدي الاستقلال التهجئة ”ليو تشيو“.

النموذج الإسكتلندي في انتقال السلطة

إن المثال الإسكتلندي - الذي عكفت على دراسته على مدى سنوات طويلة - يقدم نموذجا مفيدا في الحصول على حق تقرير المصير. كما أنه يؤسس لسابقة مهمة في أن إسكتلندا أكدت مجددا وضمنت بطريقة سلمية حقها في تقرير المصير بالرغم من دخولها في اتحاد سياسي مع إنكلترا في الماضي. ومما لا جدال فيه أن إسكتلندا لها تاريخ كانت فيه بلدا مستقلا، وينبثق حق الإسكتلنديين في تقرير المصير من اعتقاد راسخ في ذلك البلد.

خلال عام ١٦٨٩، وبعد أن أطاحت الثورة المجيدة في إنكلترا بالملك جيمس الثاني وجلبت الملك ويليم الثالث إلى العرش، وافق البرلمان الإسكتلندي على قانون المطالبة بالحقوق والذي حدد حقوق الأمة، وانحل البرلمان لتشكيل حكومة لحماية تلك القوانين. وبعد ٣ قرون - في عام ١٩٨٩- أسس نحو ٨٠٪ من أعضاء البرلمان الاسكتلندي ونواب يُمثلون نحو جميع بلديات إسكتلندا هيئةَ تداولاتٍ أصدرت قانوناً جديدا حول المطالبة بالحقوق تم فيه التأكيد على الحق السيادي لشعب إسكتلندا في تشكيل حكومته، وبعبارة أخرى حق تقرير المصير.

وصدر عنَ تلك الهيئة ميثاقا دستوريا لإسكتلندا تضمن تطوير أُطر العمل والتشريعات الأساسية الهادفة لتشكيل لحكومة جديدة مستقلة. وفي عام ١٩٩٧، تبنى حزب العمال البريطاني بقيادة طوني بلير حرفيا وبصورة فعلية هذه المسودة كإحدى تعهداته الانتخابية خلال الانتخابات العامة. وبعد فوز حزب العمال بالانتخابات، قدم رئيس الوزراء طوني بلير مشروع القانون إلى البرلمان. وتم سن قانون إسكتلندا عام ١٩٩٨ تقريبا بنفس الصياغة التي وضعها الميثاق الدستوري الإسكتلندي.

وبموجب قانون إسكتلندا لعام ١٩٩٨، يضمن الشعب الإسكتلندي الحق في تقرير المصير الداخلي، ما يعني القدرة على سن قوانين تحكم شؤونهم المحلية. ولا تزال إسكتلندا جزءا من المملكة المتحدة، ولا تزال السلطة فيما يتعلق بقضايا مثل الدبلوماسية والدفاع وسياسة الاقتصاد الكلي بيد الحكومة البريطانية. ولكن الإسكتلنديين فازوا بالإقرار بحقهم في تقرير المصير وحققوا مستوىً عالٍ من الاستقلالية السياسية، وسواء إن أقدموا على الخطوة التالية وأصبحوا مستقلين أم لا فهذا أمر ليس في غاية الأهمية.

وهناك تحركات مماثلة جارية على قدم وساق في أوكيناوا. ففي يناير/كانون الثاني ٢٠١٣، قدم رؤساء جميع بلديات الجزيرة البالغة ٤١ وغيرهم من المشرعين من حزبي الأغلبية والأقلية وممثلين عن شركات ومنظمات عمالية، عريضة لرئيس الوزراء يطالبون فيها بالقيام فورا بإزالة جميع طائرات أوسبري MV-22 المنشورة في قاعدة فوتينما، وإغلاق القاعدة، وإيقاف جميع خطط نقل القاعدة إلى مكان آخر ضمن محافظة أوكيناوا. ويأمل الناشطون تتويج جهودهم البناءَّة تلك بالنجاح، تماماً مثل حققه دعاة نقل السلطة في إسكتلندا على قانون المطالبة بالحقوق عام ١٩٨٩.

الهوية المزدوجة لشعب أوكيناوا

وبينما اكتسب الحراك من أجل حق الأوكيناويين في تقرير مصيرهم زخما في الجزر، لا يزال مؤيدو الاستقلال الكامل أقلية منعزلة. فالمحافظ أوناغا، كما هو الحال بالنسبة لمعظم سكان المحافظة، يعتبر نفسه أنه ياباني وأوكيناوي في آن واحد، وهو يبني مواقفه - بما فيها معارضة خطة نقل القاعدة الأمريكية إلى منطقة هينوكو - استنادا إلى وضعه الراهن كعضو مساهم في المجتمع الياباني ولديه آمال يتمنى أن تحققها حكومته باعتباره أحد مواطنيها. ودعونا نستعرض معاً وعلى عَجَل هذه الهوية المزدوجة.

ادعى إيها فويو (١٨٧٦-١٩٤٧) والذي كان رائدا في مجال الدراسات الأوكيناوية، أن الشعبين الأوكيناوي والياباني يتشاركون نفس الجذور العرقية والثقافية، مشيرا إلى أن أوكيناوا حافظت على بقايا الثقافة واللغة القديمتين لليابان، وكان يأمل في نقش مكانة لأوكيناوا بوصفها جزءا لا يتجزأ من اليابان وأن يتم تشريع الصفات الفريدة التي كان الناس في أرض اليابان الرئيسية يميلون لازدرائها. وكان يسعى إلى تكوين والحفاظ على شعور بهوية أوتشينانتشو بين الأوكيناويين بدون رفض الاندماج، لتمكين أوكيناوا من أن تصبح جزءا لا يتجزأ من اليابان بدون فقدان الصفة الفريدة للغة وثقافة أوكيناوا. وكان لأعمال إيها فويو تأثير هائل على دراسات أوكيناوا وعلى طريقة تفكير المثقفين الأوكيناويين بشكل عام، ولا تزال أفكاره تسيطر إلى حد كبير.

ولكن أوكيناوا لم تُعامل على أنها جزء لا يتجزأ من اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، وكان للوعي بشأن هذا ”التمييز الهيكلي“ تأثير متنامي على شعور الأوكيناويين بالولاء والهوية. ومنذ معركة أوكيناوا ١٩٤٥، تعامل قادة اليابان مع الجزر على أنها أراض زائدة يمكن الاستغناء عنها والتضحية بها من أجل مصالح الأرض الرئيسية. وبالتالي فهوية ”أوتشينانتشو“ والدافع نحو حق تقرير المصير هما محصلة طبيعية لنضال الأوكيناويين خلال فترة طويلة بعد الحرب بهدف استعادة الحقوق والحكم الذاتي التي ضاعت نتيجة لتلك الخيانة.

جزيرة تم اقتطاعها وخيانتها

وقد أخبرت البحرية الأمريكية - لدى رسو إحدى سفنها على أحد شواطئ جزيرة أوكيناوا في أواخر مارس/آذار ١٩٤٥ بأوامر من شيستر نيمتز آمر الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ - السكان المحليين أنهم لم يعودوا جزءا من اليابان، وأن الحكومة اليابانية لم تعد لها أي سلطة قضائية عليهم. وفي الخامس من أبريل/نيسان، عينت القوات الأمريكية حكومة عسكرية في حي هيجا بقرية يوميتان. واستمرت معركة أوكيناوا لأكثر من ثلاث أشهر، كانت نتيجتها مدمرة على السكان المحليين.

وفي السنوات التي تلت مباشرة استسلام اليابان، نشأت عدة أحزاب سياسية في أوكيناوا، ودعت جميعها إلى استقلال أوكيناوا. وإذا كانت أوكيناوا حقيقة كيانا مستقلا ومنفصلا عن اليابان، كان يتعين على الأوكيناويين الحصول على حق تقرير المصير ويجب أن يكونوا قادرين على استعادة سيادتهم بصورة منفصلة عن اليابان. لكن بالنسبة للولايات المتحدة التي كانت تنظر إلى أوكيناوا على أنها قاعدة دائمة لعملياتها العسكرية في المنطقة، فقد كان ذلك الأمر تطورا غير مرحب به على الإطلاق.

وفي شهر سبتمبر/أيلول ١٩٤٧، ساعد ”هيروهيتو“ إمبراطور حقبة شووا في حل تلك المعضلة. فطبقا لمذكرة مُقدّمَة إلى الجنرال دوغلاس ماك-آرثر من مستشاره للشؤون السياسية ويليم سيبالد، فإن مساعد الإمبراطور تيراساكي هيديناري نقل إلى سيبالد رأي الإمبراطور المتمثل في أن استمرار الاحتلال العسكري الأمريكي لأوكيناوا ”سيخدم مصالح الولايات المتحدة ويؤمن حماية لليابان“ وأن ”مثل هذا التحرك سيقابل بموافقة واسعة من اليابانيين“ بسبب مخاوفهم من التهديد الذي يشكله الاتحاد السوفيتي. وورد في المذكرة نفسها أن الإمبراطور أشار إلى أن الاحتلال الأمريكي العسكري لأوكيناوا ”يجب أن يكون مبنيا على أساس حيلة قانونية تتمثل في عقد إيجار طويل لمدة ٢٥ إلى ٥٠ عاما أو أكثر، مع احتفاظ اليابان بالسيادة“.

لقد كان هذا العرض بمثابة نعمة غير مرتقبة من السماء إلى الولايات المتحدة. وعند انتهاء الاحتلال عام ١٩٥٢، احتفظت اليابان بسيادة رمزية على أوكيناوا ولكنها وافقت - بموجب المادة ٣ من معاهدة سان فرانسيسكو للسلام مع اليابان - على تسليم الجزر إلى إدارة منفصلة من قبل الولايات المتحدة. وعادت أوكيناوا إلى السيطرة اليابانية عام ١٩٧٢، ولكن التعامل معها بقي عرضة لاتفاقات بين الحكومتين اليابانية والأمريكية.

نهجي الإقصاء والاحتواء

تعتقد ”جمعية الدراسات الشاملة من أجل استقلال شعب ليو تشيو“ ومؤيدون آخرون لاستقلال أوكيناوا أن جذور هذا النظام - والذي ينكر بشكل أساسي على شعب أوكيناوا حقهم في تقرير المصير - تعود بشكل رئيسي وهيكلي إلى العلاقة ”الاستعمارية“ بين أوكيناوا وأرض اليابان الرئيسية والتي تمتد إلى حقبة ما قبل الحرب، وأن السبيل الوحيد للتحرر من تلك العلاقة يكمن في الاستقلال.

تتمثل إحدى الملامح المهمة لموقف تلك الجمعية في إصرارها على أن تقرير المصير هو من حق السكان الأصليين وبالتالي فإن حق تقرير المصير في حالة أوكيناوا يقتصر على الشعب الذي تعود أصوله إلى مملكة ريوكيو. بينما يتجلى مظهر آخر في شعور المنظمة بإلحاح بما يتعلق بالحاجة إلى حماية الأوكيناويين من سياسات الاندماج والتي تقول إنها تنتهك حريتهم في التعليم وحقهم في الحفاظ على لغتهم وثقافتهم وتطويرهما وتوارثهما عبر الأجيال. فحقيقة أنه يجب على المدارس الأوكيناوية تدريس نفس المنهاج المتبعة في مدارس طوكيو بالضبط بموجب إرشادات وزارة التعليم - ما يعني عدم وجود وسيلة لدمج حصص دراسية عن لغة أو تاريخ ريوكيو في المناهج الرسمية - سينظر إليها بالتأكيد على أنها انتهاك لحقوقهم الإنسانية.

لقد تبنى ”مجلس كامل أوكيناوا“ - والذي أنا منخرط فيه حاليا - نهجا مختلفا نوعا ما، وهو يستند إلى الأنظمة الدستورية الدولية. وإننا لنناشد الجميع بالحصول على دعم وانخراط الناس من جميع أنحاء العالم على أساس قيم عالمية ومبادئ أخلاقية. ومن أهمها حقوق الإنسان، كما عرفتها المواثيق الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والتي صادقت اليابان عليها جميعا.

وقد خلصت لجنة الأمم المتحدة بشأن القضاء على التمييز العنصري عام ٢٠١٠ إلى أن التركيز غير المتناسب للقواعد الأمريكية في أوكيناوا يشكل ”نوعا معاصرا من العنصرية“. كما أكد تقرير خاص لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ورأي صادر عن لجنة الأمم المتحدة المّعنيّة بحقوق الإنسان على وجهة النظر المتمثلة في أن الحقوق الإنسانية لسكان أوكيناوا تُنتهك. كما أوصت في الآونة الأخيرة، لجنة القضاء على التمييز العنصري في ”ملاحظاتها الختامية“ وفي العبارة المتعلقة باليابان والصادرة في أغسطس/آب ٢٠١٤ بأن تقوم الحكومة اليابانية ”بدراسة الاعتراف بشعب ريوكيو على أنهم السكان الأصليون واتخاذ خطوات ملموسة لحماية حقوقهم“. ويسعى ”مجلس كامل أوكيناوا“ الاستفادة من تلك الآراء لحشد التعاطف والدعم من جميع أنحاء العالم لموقف شعب أوكيناوا.

ويكمن صلب الموضوع - كما نراه - في حرية شعب أوكيناوا حول تقرير وضعهم السياسي، سواء كدولة مستقلة أو ككيان يتمتع بالحكم الذاتي ضمن اليابان أو يبقى محافظةً كما هو الوضع الحالي. وهكذا فإنّ الشيء المهم هو أن يكون للأوكيناويين الحق في تقرير مصيرهم السياسي بإرادتهم الحرة.

تحدي الدعم القائم على المحسوبيات

تنص المادة ١ من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن ”جميع الشعوب لديها الحق في تقرير مصيرها. وبفضل ذلك الحق فالشعوب هي التي تُقرر حرية اختيار أوضاعها السياسية وتطبق بِحُرِّية تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية“.

وتتمثل إحدى القضايا الرئيسية الحالية المتصلة بحق الأوكيناويين في تقرير مصيرهم بانتقاص حريتهم بما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. فالحكومة اليابانية تمتلك سلطة إعداد مسار تلك التنمية من خلال ”خطتها لتطوير أوكيناوا“، وعلى الرغم من أنها تدعي أنها تعمل من أجل مصلحة المحافظة، إلاّ أنَّ برنامج التنمية يجب أن يصمم بناء على الاحتياجات اللغوية والثقافية والبيئية والإنسانية للمنطقة، لا أن يتم تقريره من قبل البيروقراطيين في طوكيو.

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، تعرضت الحكومة المركزية لانتقادات متزايدة جاء الكثير منها من مجتمع الأعمال في أوكيناوا وذلك بسبب اتباع أسلوب المحسوبية في توزيع الميزانية لتعويض المجتمعات عن وجود القواعد الأمريكية وكسب الدعم المحلي. وقد خلص الكثير من رجال الأعمال إلى أنه من خلال الحيلولة دون وقوف أوكيناوا على قدميها، فإن سياسة التنمية الحكومية لا تدمر المصالح الاقتصادية للمحافظة فحسب بل وتنتهك حريتها الاقتصادية. وهذا هو السبب وراء الكسب الذي حققه أوناغا في الحملة الانتخابية عام ٢٠١٤ والذي تمثل في دعم الكثير من الشركات المحلية، منها شركات إنشاءات كانت قد سبق واستفادت من معظم منح التنمية المقدمة من الحكومة المركزية.

وكما يشير هذا المثال، فإن سكان أوكيناوا كجماعة هم أكثر وعيا اليوم من أي وقت مضى بأُمورٍ تتعلق بالتمييز الهيكلي الذي طالما عانوا منه، وبشكل خاص فيما يتعلق بعبء وجود القواعد الأمريكية.

أسس ”هوية أوكيناوا“

لعل أكثر الأمثلة وضوحا على التمييز في حقبة ما بعد الحرب كان قانون الاستخدام المؤقت للأراضي في أوكيناوا الذي دخل حيز التنفيذ عند إعادة أوكيناوا إلى الحكم الياباني في مايو/أيار عام ١٩٧٢. ويخول هذا القانون قيام الحكومة - لغرض الاستخدام العام - بمصادرة جميع الأراضي في أوكيناوا التي كانت سابقا تحت سيطرة الجيش الأمريكي دون تقديم أي عُذرٍ أو تبرير. وقد شَكّل تطبيق القانون آنف الذكر انتهاكا صارخا للمادة ٩٥ من الدستور التي تنص على وجوب حصول البرلمان على موافقة أغلبية المصوتين من كيان عام محلي من أجل تمرير قانون خاص يتعلق بتلك المنطقة. حيث أنّ قانونٍ كهذا يجب ألاّ يُسَّن دون عرضه على الناس لكي يحصل على موافقة محلية عبر استفتاء شعبي

منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، أدت مصادرة الجيش الأمريكي لأراض زراعية إلى تشكيل حركة ”النضال في كامل الجزيرة“، وكان سكان أوكيناوا يأملون - عبثا - في أن تشاركهم الأمة اليابانية آلامهم وأن تقف إلى جانبهم للدفاع عنهم، وتصاعدت تلك الآمال بشكل خاص مع اقتراب موعد إعادة أوكيناوا إلى السيادة اليابانية عام ١٩٧٢. ولكن وبدلا من أن تقوم الحكومة اليابانية بتخفيف العبء، مررت قانونا يُشَرِّع انتهاك حقوقهم. ومنذ ذلك الوقت، توالت حوادث ونزاعات وبلغت ذروتها بحادثة اختطاف واغتصاب طفلة أوكيناوية تبلغ من العمر ١٢ عاما من قبل جنود أمريكيين عام ١٩٩٥ حيث جعلت من قضية الوضع التمييزي أكثر وضوحا من أي وقت مضى وسلطت الضوء على وعي سكان أوكيناوا كونهم هم الضحايا.

تواصل الحكومة اليابانية حاليا مطالبة الأوكيناويين بتحمل التمييز الهيكلي باسم القواعد الأمريكية والمنافع التي تقدمها، كما لا تقوم وسائل الإعلام القومية والشعب الياباني إلا بالقليل في مخالفة موقف الحكومة. وفي الوقت الحالي، فإن صبر حتى القوى المحافظة في أوكيناوا والمصالح التجارية آخذ في النفاد.

ولمواجهة هذا التمييز الهيكلي، يجب الإقرار بأن تاريخ أوكيناوا منذ نشوء ما يٌعرف بحركة ”نضال كامل الجزيرة“ كان سعيا وراء أهدافٍ تتعلق بالحكم الذاتي وحقوق الإنسان والمضي قُدُما في هذه التوجهات وفي النهاية، كانت تلك - كما تقول الحركة -: أفضل طريقة للتأكيد على هويتنا ”أوتشينانتشو“. وبعد كل ذلك، فإن الهوية المشتركة التي يشدد عليها زعماء أوكيناوا هي أمر لا ينحدر من مملكة ريوكيو مباشرة. بل هي متجذرة في النضال المشترك خلال فترة ما بعد الحرب. وهي متأصلة في التضامن الاجتماعي الذي بناه سكان أوكيناوا خلال عملية مقاومة القمع الوحشي والانتهاك الصارخ لحقوقهم. فقد بدأت العملية في خمسينيات القرن العشرين، عندما وضعت حركة ”النضال في كامل الجزيرة“ الأساس من أجل الوحدة بعد أن اقتطع الجيش الأمريكي أوكيناوا من اليابان وعزز من سيطرته عليها، واكتسبت قوة في ستينيات القرن العشرين من خلال النضال المستمر مع المفوض السامي باول كاراوي الذي رفض الحكم الذاتي في أوكيناوا باعتباره ”خرافة“. كما يسود السكان شعورٌ كبير وعميق بالظلم والقمع التاريخي جعله في صميم الجدل الدائر حيال قاعدة فوتينما وقواعد أمريكية أخرى، ويكمن النضال من أجل التحرر من ذلك الظلم والقمع في صميم الهوية الأوكيناوية.

ينظر معظم السياسيين والنقاد الإعلاميين اليابانيين للقضية بشكل مختلف. فهم يعتقدون أنه من الطبيعي أن يتحمل الأوكيناويون القواعد الأمريكية، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لتلك المنشآت، كذلك لا يوجد هناك أي احتمال لكي تخوض قوات مشاة البحرية المتمركزة في أوكيناوا معركة وشيكة مع قوات صينية، إضافة إلى اسهامها في أوجهٍ مختلفة من الاقتصاد المحلي وفي المنافع المضافة من نفقات الميزانية الخاصة المقدمة من الحكومة المركزية. ولذا لا بد من التنويه بإنّ رفض الاعتراف بالظلم والقمع الكامن في صميم معاناة الأوكيناويين بعد الحرب يسلط الضوء مجددا على الرفض واللامبالاة الذين شكلا مواقف اليابان تجاه أوكيناوا على مدى السنوات الـ٧٠ الماضية.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية بتاريخ ٣٠ يونيو/حزيران ٢٠١٥، ونُشرت في ١٠ يوليو/تموز ٢٠١٥. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية كارولين كيندي تزور قلعة شوري بأوكيناوا في فبراير/شباط ٢٠١٤.- جيجي برس)

أوكيناوا فوتينما الحزب الليبرالي الديمقراطي حقوق الإنسان أوسبري