الحلول التي تقدمها اليابان للعيش في بيئة نظيفة

الطبخ أسلوب حياة: افعل ذلك بنفسك

ثقافة لايف ستايل

أوتسوكا جينوسوكى خبير في الثقافة الغذائية تبنى لسنوات عديدة فكرة عيش حياة خالية من النفايات من خلال كتبه ومحاضراته. منهجه في الحياة اليومية هو أشبه بإعلان احتجاجه على الزيادة في الاستهلاك والتي تعد إحدى سمات الحياة اليابانية المعاصرة مثيراً التساؤلات عن ماهية الثراء الحقيقي.

الحصول على المزيد من القليل

أوتسوكا جينوسوكى UOTSUKA Jinnosuke
ولد عام ١٩٥٦ بعد إتمام دراسته في اختصاص الزراعة في الجامعة، قضى ١٨ شهراً وهو يدير متجراً للدراجات النارية ثم أتبعها بعشر سنوات كمالك متجر للسلع المستعملة، ثم أتبع هذه التجربة بأنه قام بتحويل اهتماماته إلى الثقافة الغذائية واقترح طرقا فريدة لاستخدام الغذاء كجزء من نمط حياة خالية من النفايات. وله العديد من الأعمال المنشورة تتضمن (الشعب الياباني يفسد الطعام في الثلاجة) وكذلك (استمع إلى ما يقوله طعامك!).

على مدى العقدين الماضيين أو نحو ذلك لابد وأن أوتسوكا جينوسوكى كان يبدو بائساً ومتأخراً عن الزمن المعاصر في نظر الكثير من أصدقائه اليابانيين. فبينما كانوا مفتونين بالاستهلاك والراحة، فقد ظلت المحافظة والابداع نموذجه الخاص. حيث كان اهتمامه بسلوكيات الحصول على المزيد من القليل سيما فيما يتعلق بالطعام والذي اتسم بكونه غير متناغم مع شعار المجتمع الاستهلاكي (أنت عبارة عما تشتريه) أو (ما تشتريه يتحدث عنك) خاصة خلال فترة الفقاعة الاقتصادية.

ولابد وأن البعض قد يتساءل لماذا يكلف نفسه عناء تخزين الخضروات المجففة في حين أنه من السهل جداً أن يخرج إلى المتجر ويشترى كل ما يحتاجه، أو لماذا لا يقتنى مكيفا للهواء بدلاً من أن يقضى صيفاً حاراً وهو يتصبب عرقاً مع مروحة كهربائية، هل هو نوع من أنواع عقاب الذات أم ماذا ؟

وفي هذه الأيام ولو أن الكثير من الناس يدركون الحكمة الكامنة وراء هذه النوعية البسيطة والحساسة من الحياة التي انتهجها أوتوسوكا، ولعل ما حدث بعد زلزال الحادي عشر من شهر مارس/آذار على وجه الخصوص كان بمثابة دق لناقوس الخطر لنكشف إلى أي مدى أصبح اعتماد اليابانيين على وسائل الراحة الحديثة الخاصة بهم، وأيضاً لتوضيح إلى أي مدى يمكن أن يصبحوا عاجزين عندما تكون رفوف المتاجر فارغة أو ينقطع عنهم التيار الكهربائي على نحو مفاجئ فإن فكرة العيش بموارد قليلة والتخزين ليوم ماطرٍ ممطر أو أسوأ أصبحت تبدو اقرب إلى المنطق السليم أكثر مما كانت عليه فكرة ما عُرِفَ بالعادة الكهربائية.

ولعل الفكرة التي كانت تطرأ على ذهن أوتسوكا هي (أن تحدث متأخراً، أفضل من ألا تحدث أبداً) وهو يرى أن الناس في اليابان وقد بدأوا أخيراً في اتباع نمط حياة الاستباقي خلاّق وهو الذي يدعوا إليه في كتب ومحاضرات لعدة عقوداً وذلك بوصفه باحث في الثقافة الغذائية.

بزيارة منزل اوتسوكا فى منطقة ميجورو بطوكيو سرعان ما يتضح لنا بالفعل أنه رجل يمارس ويعيش الحياة البسيطة التي يعظ بها وصولا إلى القميص الأبيض البسيط الذي كان يرتديه يوم التقيناه وكذلك شعره الأشعث الطويل والذى يبدو أنه يحتاج إلى حد أدنى من العناية اليومية.

وما أن تدخل إلى المنزل الذى يتقاسمه مع زوجته والذي هو بمثابة وُلوُج مساحة دافئة ومريحة من الألواح الخشبية تبدو وكأنما أتت مباشرة من حقبة اليابان ما قبل الحرب، فبدلاً من جهاز التلفاز بشاشة مسطحة ومكيف الهواء ووسائل الراحة الاخرى، يجد المرء موقداً مفتوحاً في المنتصف يستخدم للتدفئة في فصل الشتاء وطاولة شاي خشبية صغيرة وتحفاً تشمل ساعة معلقة على الحائط. ولعل الجو العام بأكمله يستحضر زمناً قد مضى في اليابان حين استعاض الناس عن نقص الثروة المادية واستخدموا إبداعهم الخاص كبديل لإثراء حياتهم. وبعيداً عن المعاناة من نقص وسائل الراحة الحديثة، يجد أوتسوكا طريقة في الحياة قابلةً للتعديل، فهوَ في الواقع سريعاً ما يؤكد بأنه لم يختار أسلوب الحياة البسيطة بدافع من كبت الغرائز. فها هو يوضح ضاحكاً (أنا لا افعل هذا كنوع من اختبار التحمل) فمن وجهة نظري أن أفضل طريقة لاستخدام الاشياء هي ان تستخدمها لفترة طويلة وهذا هو ايضاً توجهي فيما يخص الطعام، فأنا اشتري العديد من الاشياء عندما تكون الاسعار منخفضة واتوصل إلى طرق للحفاظ على المواد الغذائية لفترات طويلة محدثاً أقل قدر ممكن من النفايات وبالنسبة لي فإن العيش بهذه الطريقة هو أمر غاية فى المتعة.

وجدير بالذكر أنّ استخدام الطعام بطريقة خالية من النفايات وتوفير المال في هذه العملية هي نقطة يؤكد عليها أوتسوكا في الكثير من كتبه وتحديداً يشدد على أنه يتعين على الناس أن يتجنبوا اقتناء الأشياء غير الضرورية وهذا لا يعني أن أوتسوكا يريد أن يملي على الناس كيف يجب أن يعيشوا حياتهم كما يقول موضحاً:

”توجهي هو فقط أن اوضح للناس كيف أعيش حياتي، أود أن يفكر الناس ما إذا كان الثراء الحقيقي يكمن في أن يشترى المرء مواداً غذائية الواحدة تلو الأخرى فى حين أن الكثير منها ينتهى به الحال ان تفسد داخل الثلاجة، كذلك أن يفكر الناس اذا ما كانت التكلفة المنخفضة وسهولة الوجبات السريعة تتفوق على سلبياتها الصحية، سأكون راضياً لو أن كتبي ساهمت في تشجيع القراء على مراجعة العادات الغذائية الخاصة بهم“.

تناول الطعام هو الحياة

يبدو أن أوتسوكا الذي ولد لعائلة كانت تدير مطعماً يابانياً في كيوشو كان مقدراً له أن يكون مولعاً بالطعام، إلا أن حادثاً خطيراً حدث له وهو في الرابعة عشر من عمره والذي كان له الأثر الأكبر في ايقاظ هذا الاهتمام. ذلك الحادث تركه دون بصر في عينه اليسرى وكان من الممكن ان يقتله لو أن حظه أسوأ. هذه التجربة القاسية دفعت أوتسوكا للبدء في التفكير بجدية حول افضل السبل لكي يعيش حياته . وأدرك اوتسوكا آنذاك ان لب القضية بالنسبة له يتمثل فى الطعام لأن تناول الطعام يعنى الحياة بنفسها . كما انّه ايضاً أصبح يدرك تماماً أن كل يوم نعيشه يجعلنا أقرب الى الموت بخطوة واحدة، وذلك الادراك دفعه إلى اعادة التفكير فى عاداته الغذائية لتمكنه من العيش بشكل جيد وبطريقة لا يضيع فيها الوقت.

ولعل هذا المنظور الجديد على الحياة أدى به إلى دراسة الزراعة فى الجامعة وقرر أن يفتتح متجراً اقتصادياً بعد أن تخرج من الجامعة. في البداية ذاع صيته من خلال مؤلفاته عن كيفية تحضير وجبات يومية بطريقة خالية من النفايات. فمنذ سبعة عشر عاما أحدث كتابه بعنوان (نصائح لاعادة الهيكلة على طريقة مطبخ أوتسوكا) ضجة كبيرة وذلك بتقديمه عده نصائح للقراء تمكنهم من تقليل الانفاق الشهرى على الطعام إلى ٩٠٠٠ ين يابانى وكان لهذا الكتاب تأثيراً كبيراً فى ذلك الوقت وعقب نهاية سنوات الانفاق الحر من فترة التضخم فاجأ القراء بكشفه عن إمكانية العيش جيداً وبنفقات قليلة.

كما انّ كتبه مليئة بالنصائح المفيدة حول كيفية توفير المال وجعل الحياة أسهل. على سبيل المثال يوضح لنا أوتسوكا احدى أفكاره تحديداً قائلا:

”إذا كان لديك بقايا لخضروات جذرية مثل الجزر، القرع، أو الفجل يمكنك ان تقطعها إلى شرائح رفيعة وتجففها في الشمس، بعد حوالى أسبوع ستكون قد جفت تماماً ويمكن حفظها في الجرار، اذا قمت بنقع تلك الشرائح في الماء لليلة واحدة فستكون جاهزة للاستخدام في صنع أطباق مثل حساء ميسو. بوجود هذا النوع من المخزون في متناول يدي يعنى انه ليس على أن اقلق من نفاذ المواد الغذائية، حتى ولو بقيت في منزلي لمدة شهر وقد اصبحت منكباً على العمل. فبعد زلزال الحادي عشر من مارس/آذار أصبح التركيز منصباً على الاغذية المحفوظة وعلى امدادات الطوارئ ولكن، اذا كنت معتاداً بالأساس على تخزين الطعام فلن يكون هناك داع للذعر في الحالات الطارئة“.

وأيضاً هنالك عادة أخرى حافظ عليها اوتسوكا لمدة عشرين عاماً وهى أنه كان دائماً ما يحتفظ بدفتر خاص بالطعام ليدون فيه باختصار معلومات عن الأطعمة التي يشتريها والوجبات التي يحضرها كل يوم. (ولعل النظر إلى مدوناتي السابقة يعطيني تصوراً إلى أي مدى قد تغير المجتمع، واستطيع أيضاً ان أرى كيف تطور ذوقي الخاص في الطهي). حيث إنّ مذكرات الطعام تعتبر أيضاً سجلاً مفصلًا لكيفية تغير الأسعار مع مرور الوقت لأن أوتسوكا يرفق معها إيصالات الشراء.

كما إنّ طريقته الاقتصادية في تحضير الوجبات لا تعنى بالضرورة انه يصنع أطباقاً بسيطة على العكس، فانه في الواقع عادة ما يتناول أكثر من عشرة أطباق صغيرة على وجبة الإفطار والتي كثيراً ما تشتمل على (الساشيمى) والقليل من مشروب الساكى. إن ما يمتنع عنه أوتسوكا بالفعل هو عادة تناول الوجبات في المطاعم، وهو أمر نادر الحدوث بالنسبة له. ومن الواضح أن أوتسوكا هو شخص يشعر بالراحة أكثر في منزله حيث كل شبر فيه يعكس أسلوبه المميز فى الحياة.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية، ساكوراى شين، الصور كاواموتوسيا)