”تقاليد مذهلة“ مواكبة للحياة العصرية

البونساي... شجرة بين كفيك !

اقتصاد مجتمع ثقافة لايف ستايل سياحة وسفر

تشهد زراعة البونساي والتقدير الذي تحظى به زيادةً ملحوظة سواءً في اليابان أو في دول العالم المختلفة. نقدم فيما يلي العناصر الجمالية لهذا الفن الرائع الذي يجّسم الطبيعة بشكل مصّغر في اصيص دون التضحية بجلالتها وجمالها.

البونساي هو فن زراعة أشجار مصغرة أو نباتات في وعاء من السيراميك أو في أصيص. يتفاوت طول هذه النباتات فمنها ما يفوق الـ ٦٠ سنتيمتراً وأخرى صغيرة يمكن أن تستوي على راحة يدك. في البداية كان ينظر للبونساي على أنه هواية للمتقاعدين فقط، ولكن خلال السنوات الأخيرة أخذ عدد هواة هذا الفن بالتزايد. نشاهد هذه النباتات المصغرة عادة في الأماكن التي يرتادها الشباب في اليابان، مثل المطاعم أو محلات الأثاث، كما يضع بعضهم البونساي على مكاتبهم بقصد إراحة أعينهم التي تعبت وأُرهقت من التحديق في شاشة الكمبيوتر.

مبادىء فن البونساي

لعل استيعاب بعض المبادئ الأساسية يعزز من تقديرك الخاص للبونساي. أولا يجدر بك الأخذ في عين الاعتبار أهمية الوعاء الذي يوضع فيه النبات. ففي الواقع كلمة ”بونساي“ هي مزيج لكلمة ”حوض“ أو ”أصيص“ أي (بون) وكلمة نبات أي (ساي). فبالإضافة إلى التأمل بالشجرة نفسها، يجب عليك أن تنظر جيداً إلى كيفية تناسب الوعاء والنبتة. ويسمى التوازن بين النبات والوعاء هاشي-أوتسوري (Hachi-utsuri)، والذي يعني الانطباع الذي يتركه الأصيص في النفس. حيث يشيد الخبراء بأنّ البونساي يتميز بانسجام تام بين نباته ووعائه. ولعل هذا هو أحد أوجه إختلاف البونساي وفن البستنة.

هنالك اقتراحت مقبولة على العموم فيما يخص نوع الوعاء الذي يناسب أنواعاً معينة من النباتات. فمن المستحسن مثلاً، استعمال وعاءٍ غير مطلي لأشجار دائمة الخضرة مثل أشجار الصنوبر أو السرو المصغرة. في المقابل يستحسن استعمال أصيصات مصقولة عندما يتعلق الأمر بالأشجار النفطية التي تغير لونها مع تغير الفصول، مثل القيقب الياباني، أشجار الزيلكوفا، والشجيرات ذات الأزهار الجميلة، مثل البرقوق والكاميليا، والنباتات التي يكمن جمالها في ثمارها، مثل البيراكنتا (Pyracantha). سيما وإنّ لون وعاء هذه النباتات مهمٌ أيضاً. فعلى سبيل المثال، يُعتقد أن الوعاء ذو اللون الأزرق يتناسب مع نبتة ذات فاكهة حمراء اللون حيث يساعد على إظهار جمالها وتعزيز مظهرها.

والنقطة الرئيسية الثانية هي أن لكل بونساي وجه أمامي، أو ما يسمى بالشومن (Shomen). وهي أفضل زاوية تبرز جمال النبتة. فيما يخص البونساي، وعلى غرار النباتات العادية، حيث يمثل ذلك الجانب الأمثل ذي الأهمية الكبرى. وتحسم زاوية الشومن بناء على معايير شتى، حسب طريقة انتشار الجذور المرئية مثلا، وشكل الجذع، صيغة الفروع، وهيئة أو موضع الشجرة. وربما يجب تغيير الشومن إلى جانب مختلف في حالة تغير مظهر النبتة.

تؤكد فكرة وجود زاوية أولية للنظر إلى النبتة أن البونساي فن ثنائي الأبعاد، مماثلٌ لفن رسم المناظر الطبيعية. ولكن بدلا من الفرشاة والطلاء، يتم استعمال المقصات لتقليم النبات والأسلاك لضبط فروعه.

المبدأ الرئيسي الثالث يكمن في أن الغرض من البونساي هو العرض الداخلي. فقد يوضع النبات في زاوية غرفة يابانية تقليدية أو على حامل يوضع على حصيرة التتامي. يمكنك أن تجد أيضا البونساي في منازل ذات نمط غربي أو في المكاتب الحديثة. ومثلما يجب على الناس خلع أحذيتهم قبل الدخول إلى منزل في اليابان حفاظاً على نظافته، فيجب على تربة البونساي ألا تكون ظاهرة. لهذا السبب، غالبا ما تُغطى التربة بالطحالب. على الرغم من تواجد البونساي في الداخل، إلا أنه يحتاج إلى التعرض لأشعة الشمس كما يجب سقيه عدة مرات في اليوم.

سحر البونساي الهادئ

يقدم لنا ياماموتو جونزو (Junzo Yamamoto)، صاحب العديد من الأعمال على البونساي، نظريته حول جاذبية البونساي: ”إن جوهر المتعة المكتسبة من زراعة البونساي تكمن في إعادة تأليف المناظر الطبيعية. فالتأمل في البونساي يعطيك الانطباع الرائع بأنها شجرة كاملة الحجم تقف أمامك. بشكل يمكّنك من الشعور بتغير الفصول وبصوت النسيم، وبكل جمال للطبيعة الملهمة“.

يقول الكاتب الكوري لي أو يونج (Lee O-young) في كتابه النافذ عن الثقافة اليابانية Smaller is Better: Japan’s Mastery of the Miniature أن البونساي ليست مجرد شجرة مصغرة، بل إنها منحوتة فنية لشجرة لديها القدرة على محاكاة البحر أو نسماته المالحة فنتقل عقل الناظر إلى عالم آخر.

ونجد في نفس الكتاب، أن (لي) يصف السمة الرئيسية لشعر الهايكو على أنه ليس مجرد إيجاز في الكلام بل هو محاولة لضغط العالم الواسع بكل غموضه بحيث يتم تحويله إلى شيء أصغر، وبالتالي يصف هذا الإنجاز بنوع من ”العملقة المصغرة“ وهذا شبيه بفن البونساي.

فن بعيد عن الإساءة ومليء بجنون الحب

يمكن وصف البونساي بأنه ”فنٌ أخضر“ مؤسَّسٌ على مبادئ جمالية فريدة من نوعها. وإذا لم يتم تقدير هذه الجماليات الكامنة فإن ذلك قد يؤدي إلى اعتباره كفن للتعبير عن الذات البشرية. وفي الواقع يصف (لي) البونساي في كتابه عن اليابان، بمثابة تعذيب للطبيعة، عملية شبيهة بربط أقدام الطبيعة. ولكن بالنسبة لخبراء البونساي إن هذا الرأي غير صائب. لأنهم على علم ودراية بطريقة ممارسي هذا الفن في تقليم نباتاتهم والعناية بها، كما يوضح ياماموتو:

”انها مثل رعاية الموهوبين رياضياً. عندما تزرع البونساي الخاص بك من البداية فإن شتلة واحدة أو اثنتين فقط من بين ألف شتلة ستتحول إلى شجرة جميلة. فالمزارع الماهر الذي يعثر على شتلته ”الموهوبة“ غالباً ما يصب جل اهتمامه عليها لمحاولة الإيتاء بالشكل المثالي. وتستخدم المقصات والأسلاك لجعل النبتة أقرب إلى الصورة التي يريدها الشخص المتذوق لهذا الفن بشكل تدريجي دون إلحاق الضرر بالقوة الحيوية للنبتة. يتم تخصيص هذا الجهد للشتلة التي تتوافر فيها نوعية خاصة فقط، فالشتلة الموهوبة تستجيب لتوقعات مدربها وتطلباته. قد تبدو العملية لغير المعتادين على هذا الفن، كشكل من أشكال الاعتداء، ولكن الهواة في الواقع يكرسون جل وقتهم بالتفكير في البونساي وبالكاد يفكرون بشيء آخر“.

تزايد شعبية بونساي

إن عدد المهتمين بالبونساي في تزايد مطرد كل عام. ووفقا لمنظمة التجارة الخارجية اليابانية، فإن تصدير البونساي وأشجار البساتين العادية قد سجل رقما قياسيا وصل ٦.٧ مليار ين ياباني في عام ٢٠١١. وقد تضاعفت تلك الصادرات بما يقارب العشر مرات خلال العقد الماضي، لاسيما مع الصين، إيطاليا، هولندا، فيتنام، والولايات المتحدة كوجهات تصدير رئيسية. وأصبحت أشجار البونساي رمزاً للمكانة الاجتماعية بين الآسيويين الأثرياء، بينما تستخدم النبتة في أوروبا والولايات المتحدة على نحو متزايد لتعزيز التصميم والديكور الداخلي. ونتطلع بشوقٍ الآن لمعرفة أي نوع من الأفكار الإبداعية الجديدة قد تظهر في السنوات المقبلة إزاء ”عولمة“ البونساي.

(المقال الأصلي باللغة اليابانية، تصوير وتحرير ياماموتو جونزو)

 

التقاليد الطبيعة النباتات