صانعو التاريخ الياباني

ناتسومي سوسيكي... رائد الرواية في اليابان الحديثة

ثقافة

 نبذة عن حياة ناتسومي سوسيكي والذي يعد أكثر الكتاب شهرة في اليابان الحديثة في الذكرى الـ١٥٠ لمولده. وكان سوسيكي قد أحدث طفرة في الأدب الياباني في أوائل القرن العشرين بفضل إجادته لكل من التعلم التقليدي للصينية الكلاسيكية واللغة الإنكليزية العصرية في ذلك الوقت. وفي أعماله الكلاسيكية مثل ’’كوكورو‘‘ تتصارع الشخصيات مع الآلام المتولدة عن الأنانية والعزلة.

ولد الروائي ناتسومي سوسيكي رائد الرواية في اليابان الحديثة قبل ١٥٠ عاما وذلك في ٩ فبراير/شباط ١٨٦٧. وتوفي قبل فترة قصيرة من حلول عيد ميلاده الخمسين في ٩ ديسمبر/كانون الأول عام ١٩١٦، وقد أحيت اليابان العام الماضي الذكرى المئوية لوفاته. وعلى الرغم من مرور وقت طويل على أعماله إلا أنها لا تزال متجددة ومفعمة بالحياة بالنسبة للقراء المعاصرين، وقد تمت ترجمتها إلى الكثير من اللغات. وباعتبار أنه عاش في فترة خطت فيها البلاد خطوة نحو العالمية، يمكن وصف سوسيكي بأنه أول كاتب ياباني يدخل الأدب العالمي.

النشأة والتعليم

نصب تذكاري في كيكويتشو بحي شينجوكو تخليدا لذكرى ميلاد ناتسومي سوسيكي.

ولد ناتسومي كيننوسوكي في مدينة إيدو عام ١٨٦٧، أي قبل عام من تغيير اسمها إلى طوكيو. ومع نهاية عصر إيدو (١٦٠٣ـ ١٨٦٨)، كانت اليابان تتطور بسرعة في ظل حكومة مييجي الجديدة. وكان ترتيب الطفل الذي سيصبح في المستقبل كاتبا هو الثامن لناتسومي ناؤكاتسو والسادس من زوجته تشيي. وعوضا عن أن يقوم الأبوان بتربية الطفل كيننوسوكي بنفسيهما، أرسلاه بعيدا للعيش مع زوجين آخرين كانا صديقين للعائلة. ومن الممكن أن تكون مشاعر الوحدة التي اختبرها خلال أيام طفولته القاسية قد ساهمت في إكسابه روحا استقلالية فيما بعد.

وبجانب التعليم الأساسي النموذجي الذي تلقاه، قام بدراسة الصينية الكلاسيكية واللغة الإنكليزية في مدارس مكثفة. وعندما أصبح بعمر ١٧ عاما، التحق بمدرسة تحضيرية تؤهله للدراسة الجامعية. وقد التقى هناك بماساؤكا شيكي الذي سيصبح فيما بعد شخصية أدبية رئيسية هو الآخر من خلال قيامه بتحديث شعر الهايكو. واعتبارا من عام ١٨٩٠، أمضى كيننوسوكي ٣ سنوات في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة طوكيو.

كان سوسيكي يكره اللغة الإنكليزية في البداية. وكان يفضل الصينية الكلاسيكية بشكل كبير، وكان يشعر بعشق تجاه الأدب التقليدي الصيني لازمه طوال حياته. وقد اشتق اسمه الأدبي المستعار من عبارة ’’سوسيكي تشينريو‘‘ وهي ترجمة يابانية لمثل صيني يعني ’’غير مستعد بِعِناد لتقبل الهزيمة‘‘. وفي عصر كان فيه الكثير من اليابانيين يهجرون النصوص القديمة من أجل دراسة اللغات الأوروبية، تعلم سوسيكي الصينية الكلاسيكية لأنها كانت تذكره بالموروث الفكري خلال عصر إيدو.

وعلى الرغم من ذلك، فقد غدت الإنكليزية وترا آخر عزف عليه سوسيكي، وقد تعلم قدرا كافيا من هذه اللغة للبدء بتدريسها للآخرين بينما كان لا يزال طالبا. وبدءا من عام ١٨٩٣، أوجد سوسيكي توازنا بين أنشطة الدراسات العليا والتدريس في كلية للمعلمين في طوكيو. وقد أعجب مؤسس الجودو كانو جيغورو والذي كان يترأس الكلية، بسوسيكي وطلب منه قبول المنصب. في غضون ذلك الوقت، درس سوسيكي أيضا التأمل وفق طريقة ’’الزازين‘‘ في كاماكورا.

صورة لناتسومي سوسيكي تظهر شاربه المميز. (الصورة مقدمة من مكتبة البرلمان القومية).

السفر داخل اليابان وخارجها

في عام ١٨٩٥، غادر سوسيكي طوكيو للعمل في مدرسة بمدينة ماتسوياما عاصمة محافظة إيهيمي. وقد كانت هذه المدينة الصغيرة الواقعة في جزيرة شيكوكو جنوبي اليابان مسقط رأس صديقه شيكي، والذي كان يعاني من الإصابة بمرض السل وعاد إليها بهدف التماثل للشفاء. وقد كرس الاثنان أوقات فراغهما لشعر الهايكو، حيث قاما بتأليف أبيات من الشعر في تجمعات شعرية. كما شكلت تجارب سوسيكي التدريسية في مدينة ماتسوياما الأساس لأحد نجاحاته المبكرة وهي الرواية الهزلية التي تحمل عنوان ’’بوتشان‘‘. وفي عام ١٨٩٦، انتقل للعيش في محافظة كوماموتو حيث تزوج من ناكاني كيوكو.

وفي عام ١٩٠٠ وضعت حكومة مييجي حدا لحياة سوسيكي في الأقاليم اليابانية، فقد أوفدته وزارة التعليم إلى بريطانيا لدراسة اللغة الإنكليزية. وأثناء وجوده هناك، عاش شهرين بصحبة إيكيدا كيكوناي الكيميائي الذي صاغ اسم المذاق الخامس ’’أومامي‘‘ ولديه براءة اختراع لمركب غلوتامات أحادية الصوديوم. وكان لدى إيكيدا معرفة عميقة بالفلسفة وهو ما أثار مناقشات فكرية بينهما.

وفي عامه الأخير ببريطانيا، استغل سوسيكي كل دقيقة من وقته في الدراسة. وفيما بعد أثمر بحثه المكثف في طبيعة الأدب عن عمله الأدبي النقدي ’’بونغاكورون (نظرية الأدب)‘‘. ولكن الضغط النفسي الذي كابده جراء حياته في الخارج كان كبيرا، لدرجة أن وزارة التعليم شكت في سلامته العقلية لبعض الوقت.

تمثال برونزي للكاتب في متنزه سوسيكي بمنطقة واسيدا ميناميتشو بحي شينجوكو حيث قضى هناك أيامه الأخيرة.

الأولوية للإبداع

بعد عودة سوسيكي إلى اليابان في عام ١٩٠٣، انتقل إلى طوكيو وقام بالتدريس في كلية ’’فيرست هاير‘‘ والجامعة الإمبراطورية بطوكيو (حاليا جامعة طوكيو). وبعد عامين، حقق إنجازا أدبيا ضخما بنشره الجزء الأول من أحد أكثر أعماله الخالدة شهرة وهو ’’واغاهاي وانيكو دي أرو (أنا قطة)‘‘. حيث نُشر في ’’هوتوتوغيسو‘‘ وهي مجلة أطلقها صديقه شيكي وأشرف على تحريرها شاعر الهايكو تاكاهاما كيوشي. وقد تسبب القبول الكبير الذي حظيت به روايته هذه التي نُشرت على مراحل، بالإضافة إلى أعمال أخرى مثل ’’روندون تو (برج لندن)‘‘ و’’بوتشان‘‘ في صنع اسم لسوسيكي باعتباره كاتب أعمال خيالية.

في السابق كانت صورة سوسيكي تطبع على العملة الورقية من فئة ١٠٠٠ ين. (الصورة جيجي بريس).

وبدأ سوسيكي بعقد اجتماعات يوم الخميس كان يحضرها أدباء تتلمذوا على يديه من بينهم الشاب أكوتاغاوا ريونوسوكي. وفي عام ١٩٠٧، ترك التدريس للانضمام إلى صحيفة أساهي شيمبون باعتباره كاتبا لسلاسل روائية بدوام كامل. وأصبحت تلك الخطوة حديث الناس في طوكيو في ذلك الوقت، فقد كان يُنظر إلى خطوة ترك العمل في أكثر مؤسسة أكاديمية يابانية مرموقة ليصبح كاتبا محترفا بأنها قرار غير عادي. ومن بين الأعمال التي نشرها على شكل سلاسل في صحيفة أساهي شيمبون: ’’سانشيرو‘‘ و’’سوريكارا (ومن ثم)‘‘ و’’مون (البوابة)‘‘ والتي تعرف معا بأنها أول سلسلة روائية ثلاثية لسوسيكي.

أُدخل سوسيكي المستشفى بسبب إصابته بقرحة معدية عندما كان في ٤٣ من العمر. وقد دخلت حالته الصحية مرحلة حرجة بينما كان يستجم في منتجع لينابيع المياه الحارة في محافظة شيزوؤكا. وهو ما دفع أصدقاءه ومريديه الأدباء لزيارته في فراش مرضه اعتقادا منهم أنه كان يشارف على الموت.

ولكنه تعافى من مرضه، ولم تضيع وزارة التعليم أي وقت لمنحه شهادة دكتوراه فخرية بينما كان لا يزال في وضع صحي جيد وذلك في عام ١٩١١. ولكنه رفض قبولها في ازدراء للروح التي سادت ذلك العصر والمتمثلة بالدراسة لمجرد الحصول على مثل هذه الأشكال من الاعتراف.

واعتبارا من عام ١٩١٢، نُشرت ثاني سلسلة روائية لسوسيكي مكونة من ثلاثة روايات هي ’’هيغانسوغي مادي (نحو الاعتدال الربيعي وما بعده)‘‘ و’’كوجين (عابر السبيل)‘‘ و’’كوكورو (القلب)‘‘ والتي نشرت تباعا على أجزاء في صحيفة أساهي شيمبون. وفي غضون ذلك، عاودته مشاكل القرحة المعدية وتدهورت حالته العقلية. وفي عام ١٩١٦ شرع في عمل أدبي جديد بعنوان ’’مييأن (الضوء والظلام)‘‘ ولكنه توفي في ٩ ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، تاركا وراءه آخر أعماله الأدبية غير مكتمل.

قبر ناتسومي سوسيكي في مقبرة زوشيغايا بطوكيو.

الآلام المصاحبة للتقوقع الذاتي

تنتقل روايات سوسيكي من دراسة الأنانية والعزلة والمعاناة جراء هذه الأسباب إلى محاولات التخلي عن الذات.

في الرواية الهزلية التي تحمل عنوان ’’أنا قطة‘‘، تراقب القطة عادات مجموعة من المفكرين الفضوليين الذين يتجمعون في منزل مربيها. وتستحوذ الفكرة الإبداعية في الرواية والمتمثلة في جعل الراوي قطة وفي الطرائف المفعمة بالحياة التي ترويها المتأثرة بقصص ’’راكوغو‘‘ على انتباه القارئ ما يجعل من سوسيكي كاتبا روائيا بشكل راسخ. كما تدور أحداث رواية مبكرة أخرى له وتدعى ’’كوساماكورا‘‘ لعام ١٩٠٦ حول فنان لا يستطيع تحمل الجو المتحضر بشكل مبالغ فيه في طوكيو. ليتوجه إلى منتجع للمياه الحارة بحثا عن خلاص لنفسه من انغماسها في العالم الآخذ في التطور بصورة سريعة لينخرط في فن مستقل من الناحية العاطفية.

أما رواية ’’سانشيرو‘‘ فتحكي قصة حب شاب ساذج يكافح الحيرة التي تتخلل مرحلة الشباب. ويصور الكتابان الآخران في أول سلسلة روائية ثلاثية لسوسيكي مثلثي حب (علاقة بين رجلين وامرأة). ففي رواية ’’ومن ثم‘‘، يقع مفكر مرفّه هو ابن لرجل ثري في غرام زوجة صديقه، ويقرر عيش حياة مستقلة. بينما بطل رواية ’’البوابة‘‘ فهو موظف حكومي يعيش بهدوء مع زوجته التي كانت متزوجة في السابق من صديقه المقرب، ويخوض صراعا مع مشاعر الإحساس بالذنب التي تنتابه.

بينما تسبر ثلاثيته الروائية الثانية بصورة أعمق موضوعي الأنانية والعزلة. وتصل ذروتها في رواية ’’كوكورو‘‘ وهي أكثر أعمال سوسيكي قراءة من قبل الناس. وتُدرّس مقتطفات من هذه الرواية في الكتب المدرسية الثانوية. ويتم سرد جوهر القصة في رسالة موجهة إلى الراوي المجهول، والرسالة مكتوبة من قبل شخصية ’’سينسيي‘‘ التي يشار إليها في الرواية بكلمة الاحترام هذه فقط. عندما كان ’’سينسيي‘‘ طالبا قام بخيانة صديقه ’’كيه‘‘ للفوز بقلب زوجته الحالية. وقد أقدم ’’كيه‘‘ على الانتحار مدفوعا بمشاعر اليأس. بينما عاش ’’سينسيي‘‘ بحالة من الألم جراء هذا التصرف لسنوات طويلة، وقد قادت وفاة الإمبراطور مييجي إلى قراره بالإقدام هو أيضا على الانتحار.

وفي آخر أيام حياته سعى سوسيكي لإيجاد طريقة للذهاب ما وراء حب الذات وعاش وفقا لقوانين الطبيعة في أعقاب فكرة سمّاها ’’شوكوتين كيوشي‘‘. ومن المعتقد أنه خطط في آخر رواياته ’’الضوء والظلام‘‘ – التي لم تكتمل – لأن يمتحن أولا الأنانية من خلال شخصين متزوجين يشعران بالسخط قبل أن يقوم بتصوير التخلي عن الذات. ويُعتقد أن تجاربه مع تأمل الزازين شكلت الأساس لمفهوم ’’شوكوتين كيوشي‘‘.

ناتسومي سوسيكي في عمر ٤٥ عاما يضع شارة سوداء على يده حدادا على وفاة الإمبراطور مييجي عام ١٩١٢. (الصورة من مكتبة البرلمان القومية).

عالمية سوسيكي

بالرغم من الموقع المركزي الذي شغله سوسيكي في الأدب الياباني، استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يُعرف في الغرب حيث لا يزال غير معروف جيدا مقارنة بكتّاب مثل كاواباتا ياسوناري وميشيما يوكيو. ولكن ذاع صيته في السنوات الأخيرة مع صدور عدة ترجمات جديدة لأعماله إلى اللغة الإنكليزية وزيادة عدد الأبحاث.

ويقارن المترجم والناقد البريطاني داميان فلاناغان الذي نشر ترجمة لـ’’برج لندن‘‘ في عام ٢٠٠٥ بين سوسيكي وشكسبير. وقد صنف البروفيسور الأمريكي مايكل بورداغز أستاذ الأدب الياباني سوسيكي–جنبا إلى جنب مع لو شون وفرانتس كافكا وجيمس جويس باعتباره رائد الأدب في القرن العشرين. كما ينظر إلى ’’نظرية الأدب‘‘ باعتباره واحدا من أولى أعمال سوسيكي التي تنتهج مقاربة نفسية واجتماعية للإجابة على سؤال عن ماهية الأدب.

وعلى النقيض، فلطالما عُرف سوسيكي في الصين بأنه الكاتب الياباني الأكثر شهرة. وقد ترجم لو شون عملين له في أوائل القرن العشرين، كما قام أخاه الأصغر شو شورين بتقديم أدب سوسيكي. وتقريبا جميع أعماله مترجمة حاليا إلى الصينية، بما فيها نحو ٢٠ نسخة عن رواية ’’أنا قطة‘‘.

وقد ساهمت معرفة سوسيكي العميقة بالأدب الصيني وأكثر من ٢٠٠ قصيدة له وأعمال أخرى كتبت بالصينية الكلاسيكية في انتشار شعبيته داخل الصين. ويبدو أن اهتمامه الموضوعي بالدولة والمجتمع قد عزز من وجود شعور بالتقارب مع القراء الصينيين. كما أن كونه مفكرا يابانيا يعيش في فترة مضطربة اتسمت بالتوجه نحو الحداثة ومواكبة الغرب أكسبه تعاطفا.

بينما واجه الأدب الياباني طريقاً شاقاً لنيل القبول في كوريا الجنوبية بسبب الخلفية التاريخية الاستعمارية. فلم تحظَ أعمال سوسيكي بقراءة واسعة قبل تسعينيات القرن العشرين، ولكن كامل أعماله منشورة حاليا باللغة الكورية في ١٤ مجلدا.

ومع مرور ١٥٠ عاما على ولادته، عاد الكاتب إلى الأضواء مجددا. وهو ما شكل فرصة لإعادة تقييمه باعتباره كاتبا يابانيا وعالميا.

متحف جديد مكرس للكاتب يتم بناؤه بالقرب من متنزه سوسيكي في شينجوكو. ومن المقرر أن يُفتتح في شهر سبتمبر/أيلول من عام ٢٠١٧.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية بقلم إينوي يوسوكي. الترجمة من الإنكليزية).

ثقافة أدب