”الصمت“ للمخرج سكورسيزي يصطدم بأسئلة عن الإيمان في القرن ١٧ باليابان

ثقافة

عَلِم المخرج مارتن سكورسيزي بشأن رواية الصمت أول مرة عام ١٩٨٨. وقد عزم على تصوير الفيلم بعد أن تأثر بعمق بقصة استكشاف الإيمان بين ”المسيحيين المستترين“ في القرن ١٧ في اليابان. وقد اكتمل المشروع الذي استحوذ على قلبه بعد أكثر من ربع قرن من الزمن.

تدور أحداث فيلم ”الصمت“ الجديد للمخرج مارتن سكورسيزي حول بعثات تبشيرية مسيحية برتغالية بين مسيحيين محليين أجبروا على ممارسة طقوسهم الدينية سراً بسبب القمع الذي كان سائداً في أوائل القرن السابع عشر. والفيلم مستوحى من رواية تعود لعام ١٩٦٦ للكاتب الياباني إيندو شوساكو (١٩٢٣-١٩٩٦)، والتي حاذت على استحسان دولي داخل الدوائر الأدبية بالإضافة إلى الاستنكار من قبل الكنيسة الكاثوليكية. وبالرغم من أن إيندو نفسه كان مسيحياً كاثوليكياً إلا أن الرواية غالباً ما تبدو إشكالية إذا أخذنا بعين الاعتبار مساحة الانتقادات الواسعة لما ينظر إليه من قبل الخصوم على أنه دين آخذ في الانتشار.

عَلِم سكورسيزي بأمر رواية ”الصمت“ أول مرة عام ١٩٨٨ بينما كان يواجه انتقادات شديدة بسبب تجسيده المسيح باعتباره بشرا ذا عيوب في فيلمه (الإغراء الأخير للمسيح). وبسبب تأثره البالغ بتلك الرواية عزم على تحويلها إلى فيلم. ولكن مضى ٢٨ عاما قبل اكتمال العمل أخيرا.

القس البرتغالي سيباستياو رودريغز (يسار: أندرو غارفيلد) مع ”المسيحي المستتر“ موكيتشي (يمين: تسوكاموتو شينيا). جاء رودريغز إلى اليابان للبحث عن معلمه الأب فيريرا الذي قيل إنه ارتد عن دينه. (جميع الحقوق محفوظة لـFM Films).

الطبيعة الحقيقية للإيمان

قبيل طرح فيلم ”الصمت“ في ٢١ يناير/كانون الثاني في اليابان تحدث سكورسيزي في مؤتمر صحفي عن علمه بأمر الرواية لأول مرة وهو ما كان مقدرا.

”قوبل فيلم ”الإغراء الأخير للمسيح“ باستهجان، ولكن في الليلة التي عرضت فيها الفيلم لمتفرجين يتبعون جماعات دينية تحدث إلينا رئيس أساقفة اسمه بول مور بعد ذلك. فقد أحب الفيلم أو أحب فكرة المناقشة. وقال لي ”لدي كتاب لك بعنوان ”الصمت“. سأعطيك إياه فهو عن الإيمان“.“

وبالنسبة لسكورسيزي الذي ترعرع في كنف أسرة كاثوليكية ملتزمة وفي أحد الأوقات كان يُعتبر أنه سيصبح قسا، فإن الطبيعة الحقيقية للإيمان كانت على الدوام هاجسا كبيرا. ”بعد إخراج فيلم الإغراء الأخير للمسيح والدخول في دوامة من الجدل، فقدت بصيرتي بشأن الوجهة التي أريد أن أذهب إليها بديني. عندما قرأت رواية ”الصمت“ شعرت أنه بإمكاني المضي قدما. كان يتعين عليَّ الغوص أكثر عمقا لأجده في داخلي بنفس الطريقة التي كان إيندو قادرا على إيجاده“.

ولكن مسار إكمال العمل كان بعيدا عن كونه مباشرا. ”شعرت أنني أرغب بإخراج الفيلم ولكن لم أكن أعرف كيف. لم أكن أعلم ما إذا كنت قد استوعبت طريقة تفسيره. وكان لميولاتي ولأسئلتي الدينية دورا كبيرا في ذلك بالإضافة أيضا للثقافة اليابانية....لقد كانت عملية طويلة جدا من المحاولة والخطأ“.

”نحن نرتاب بكل شيء“

ضمن سكورسيزي حقوق تحويل الكتاب إلى فيلم بعد قراءته بفترة وجيزة. ولكن استغرق الأمر عدة سنوات بالنسبة له للعمل على السيناريو والذي شارك في كتابته في نهاية المطاف جاي كوكس. ”أعتقد أنه في حوالي عام ٢٠٠٣ عندما أخرجت فيلم (عصابات نيويورك) بدأ الأمر بالتغير فعلا، وبدأت بالاعتقاد أنه باستطاعتي المحاولة على سيناريو منظم لفيلم ”الصمت“. كما شرح كيف أن زواجه مجددا وخبرته كأب في سن متأخر قد جعلا من المشروع نقطة تحول في حياته الشخصية أيضا.

لقد طبق المخرج خبرات حياتية مكتسبة على مدى سنوات طويلة في إبداع فيلم ”الصمت“. وبالرغم من أن الفيلم قد اكتمل إلا أنه قال إنه لا يزال يعيش مع الفيلم. وبينما كان يعمل على الفيلم تطرق لما يعتبر بالنسبة له أسئلة جوهرية عن الإيمان والشك ما جعل من الفيلم مشروعا شخصيا على نحو خاص.

بالنسبة لسكورسيزي فإن الرواية التي كتبها إيندو كانت شاملة من ناحية أنها لم تكن عن عقيدة دينية وإنما عن الصراع بين الإيمان والشك. ”نحن نرتاب بكل شيء في حياتنا. حتى أننا لا نعرف لماذا نحن هنا. وهذا ما جذبني وحافظ على تقدمي“.

ويوضح سكورسيزي أنه في عالم فيلم ”الصمت“، فإن ”المسيحيين المستترين“ في اليابان منجذبون للشغف والجانب الأنثوي للمسيحية، والتي يكون فيها كل بشر ذو قيمة بدلا من الجانب الرسمي للدين.

الممثلون اليابانيون يتركون انطباعا قويا

أحد الشخصيات الرئيسية في رواية ”الصمت“ هو كيتشيجيرو وهو قروي يدين بالمسيحية. وسط الكثير من المشاهد التي تظهر إيمانا راسخا يواجه كيتشيجيرو تردده. وقد داس مرارا على صورة على شكل المسيح مطبوعة على لوح في اختبار ”فوميئه (اللوح المداس)“ الذي كانت تجريه السلطات لاجتثاث المؤمنين الصادقين، ومع ذلك يواصل العودة إلى المسيحية. من وجهة نظر معاصرة حول عالم المسيحيين المستترين، فإن كيتشيجيرو الذي يُنظر إليه على أنه شخص ضعيف وغير محبوب ضمن القصة هو الشخصية الأسهل للتعريف بها.

يترك الممثلون اليابانيون انطباعا قويا في الفيلم. وقد أقيم مؤتمر صحفي قبل عرض الفيلم في نادي المراسلين الأجانب في اليابان جمع كلا من كوبوزوكا يوسوكي (كيتشيجيرو) وإيسّي أوغاتا (المحقق، إينويه ماساشيغي) وأسانو تادانوبو (المترجم).

من اليسار إلى اليمين، أسانو تادانوبو، كوبوزوكا يوسوكي، إيسّي أوغاتا في نادي المراسلين الأجانب في اليابان خلال مؤتمر صحفي أقيم في طوكيو في ١٢ يناير/كانون الثاني ٢٠١٧.

وقد تحدث كوبوزوكا عن شخصية كيتشيجيرو التي أداها في الفيلم. ”في الرواية الأصلية، وُصف كيتشيجيرو بالضعف ولكنه داس على لوحات فوميئه مرات كثيرة، لا أعرف ما إذا كان ضعيفا أم قويا. فالأمر بمثابة وجهين لعملة نقدية واحدة“. وقال إن تلك الشخصية ”سقطت“ ولكن هذا أمر مختلف عن الردة. ”لقد سقطت ونهضت وآمنت مجددا. على ما يبدو أن إيندو قال عنه (هذا هو أنا). إن كيتشيجيرو مخلص للمشاعر التي تولدت في قلبه وهو يؤمن بالإله حتى وإن داس على لوحات فوميئه. هو شخصية أنانية وذو صفات بشرية للغاية“.

لم يقدم سكورسيزي أي إيضاح أو توجيه بشأن كيفية لعب شخصية كيتشيجيرو تاركا المهمة لكوبوزوكا. والأمر نفسه بالنسبة لشخصية المحقق إينويه التي لعبها إيسّي أوغاتا. ”في البداية رغب (سكورسيزي) بمشاهدة أدائنا. وكان يقول ”هذا مثير للاهتمام، تابعوا“. ولم يدلِ أبدا بأي تعليق سلبي. وهذا الوضع سمح لنا بصقل أفكارنا ومشاعرنا كممثلين. كنت قادرا على الإحساس بمزاج رودريغز“. وأوضح أوغاتا كيف أن هذا الأمر سمح له بالتمثيل بصورة طبيعية في مشهد لاحق مع رودريغز المنهار (لعب دور القس أندرو غارفيلد)، حيث اقترب منه لا شعوريا للتخفيف عنه.

يقوم المحقق إينويه بتعذيب وقتل مسيحيين يابانيين وممارسة ضغوط على رودريغز للتخلي عن إيمانه. وقد حصل أوغاتا عن أدائه البارز الذي تراوح بين التهديد والدعابة على المركز الثاني في جائزة أفضل ممثل مساعد من قبل جمعية نقاد السينما في لوس أنجلوس.

كما أن أسانو تادانوبو معروف بين محبي الأفلام العالمية بسبب أدواره في فيلم ”القاتل إيتشي (كوروشييا إيتشي)“ وأفلام هوليود مثل فيلم ”ثور“. وقد لعب دور المترجم في فيلم ”الصمت“ بعد أن قدم تجربة أداء لدور كيتشيجيرو. ويقول أسانو ”إن (المترجم) الذي كان عالقا بين إينويه ورودريغز ليس مجرد شخص سيء. أعتقدت أنه في السابق قد كان مسيحيا ولكنه قبِل ذلك العمل بالرغم من إيمانه“.

مارتن سكورسيزي خلال إخراجه فيلم ”الصمت“ في تايوان. (جميع الحقوق محفوظة لـFM Films).

جرى تصوير فيلم ”الصمت“ في مناطق ساحلية بالقرب من مدينة ناغاساكي. لقد كان تصوير البحر الهائج والمناظر الطبيعية مذهلا، ولكنها مصورة في حقيقة الأمر في تايوان. وقال كوبوزوكا إن الكثير من المخضرمين في تصوير الأعمال الدرامية التاريخية عملوا على المشروع وقد أخذ سكورسيزي بآرائهم بالحسبان، آخذا بعين الاعتبار العوامل التاريخية في كل يوم من التصوير. ”إذا وجد أي شيء غير صحيح، فإنه كان يغيره على الفور. ولهذا السبب لم يكن هناك إحساس بالتناقض حيال التصوير في تايوان“.

وعلى خلاف الرواية التي تعود لعام ١٩٦٦، فإن فيلم ”الصمت“ لسكورسيزي قد حظى بإعجاب الكنيسة الكاثوليكية. وقد دعي المخرج لمقابلة البابا فرانسيس، على الرغم من أنه علّق بالقول ”لست متأكدا ما إذا كان (البابا) قد شاهد الفيلم. يبدو أنه مشغول جدا“.

إن رؤية كيفية ردة فعل مرتادي السينما اليابانيين حيال المشروع الذي شغف به سكورسيزي سيكون أمرا مثيرا للاهتمام. وسواء ما إذا كان الممثلون اليابانيون الرئيسيون في الفيلم قادرين على حصد مزيد من الجوائز أم لا، فإنه يجب أن يشكل إضافة لسيرهم المهنية.

(صورة العنوان: مارتن سكورسيزي وهو يتحدث في مؤتمر صحفي عن فيلم ”الصمت“ أقيم في طوكيو في ١٦ يناير/كانون الثاني ٢٠١٧ وذلك قبيل طرح الفيلم في اليابان).

المسيحية ناغاساكي فيلم