تلقى الحضارة الآسيوية والخصوصية الثقافية

ثقافة

يتميز التاريخ الثقافي والروحي لليابان بما فيه من اختيار اليابانيين ما يطمئنون إليه من الفكر العالمي، ويقتنعون به بعد الحكم بصلاحيته للارتقاء بالإنسان الياباني، ومجتمعه، وبالدولة ككل. عندئذ يعتنق الياباني ذلك الفكر ويستطيع فى ظله أن يمتلك حريته في أن يعيش حياته.

 كانت أولى المراحل التي تلقى فيها اليابانيون لفكر وحضارة من الخارج، كانت من آسيا، القارة الأم لكل الأفكار والمعتقدات القديمة. ولعلها كانت أهم المراحل، حيث يبدو اليابانيون وكأنهم وضعوا فيها الخطوات الأساسية لتلقي الثقافات الواردة، منذ اختيار الفكر الذي يقتنعون بأهميته، مرورا بمراحل استزراعه في بيئتهم الثقافية، حتى نجاحهم فى تطبيقه والإفادة منه في نواحي الحياة.

البشر ناقلوا الحضارة

اكتشف اليابنيون أن الانتقال السريع للحضارة يتم عن طريق أصحابها، فنتيجة للتواصل مع القارة فى القرون الميلادية الأولى، هاجر كوريون وصينيون إلى الجزر اليابانية وأقاموا فيها. جاءوا بما لديهم من مهارات وحرف حضارية كالنسيج والتعدين وصناعة المعادن، وبناء المنازل بالأخشاب والأحجار، فأخذها عنهم اليابانيون. كما ساهم هؤلاء القادمون بما نقلوه من العلوم الكنفوشية مثل علوم الطبيعة والفلك والتقويم، بجانب المهارات الطبية في تأسيس تلك العلوم في يابان القرن السادس الميلادي حيث قام اليابانيون باستيعابها ثم تطبيقها بما يناسبهم من طرق وأساليب.

لم يأت القادمون من القارة بحرفهم وعلومهم فقط، بل جاءوا يحملون أيضا ثقافتهم الكنفوشية ومعتقداتهم البوذية، يعيشون بها بين اليابانيين الذين أخذوا يتعرفون عليها، لكن تلك المعتقدات لم تأخذ طابعا علنيا أورسميا، إلا بعد أن أرسل ملك ”كودارا“ ( وهى إحدى الممالك الصغيرة فى شبه الجزيرة الكورية، استمرت فى الفترة من ٣٧١-٦٦٠م)، رسله إلى البلاط اليابانى يحملون إليه الكتب المقدسة، وتماثيل بوذا، فأصبحت تعيش على الأرض اليابانية برعاية البلاط.

التلقى والمقاومة

لو لم يكن في البوذية مايميزها، لما قام البلاط الياباني بنشرها، فقد كانت التعاليم الرصينة المرتبة، ذات العمق الفلسفي، والفنون المتميزة النابعة منها والمعبرة عنها، مثار الدهشة والاحترام من قبل اليابانيين الذين لم يعرفوا غير معتقداتهم البسيطة فى تأليه مظاهر الطبيعة وظواهرها.

لكن كان فيهم من يرى فى تلك المعتقدات وثقافتها الجديدة تهديدا لمكانتهم الاجتماعية ولنمط حياة اعتادوه، وما فى ذلك من خصوصية ثقافية. فالصراع الذى قام بين ”مونونوبيه“ قائد الجيش والمسئول عن الأمن والقضاء فى بلاط ”ياماتو“، الذى قاوم تلك المعتقدات الوافدة، وتبنى الدولة لثقافة القادمين، حتى وصل الأمر إلى حد القتال بينه وبين الوزير ”سوجا“ والمتحالفين معه من رجال البلاط، والذي انتهى بهزيمته وقتله.

المساهمة فى إعادة صياغة الهوية الثقافية

لكن المقاومة مالبثت أن اتخذت شكلا آخر أكثر إيجابية، خاصة وأن الدولة كانت قد قامت بخطوات عملية للإفادة من مميزات الثقافة الوافدة، فقد جاء دستور الأمير ”شوتوكو“ ذو السبعة عشرة مادة تطبيقا للعلوم الكنفوشية وروح، وكذلك جعل من الامبراطور محورا تتمركز حوله السلطات ليكون بذلك أول دولة مركزية قديمة.

فلم يكن أمام الآخرين إلا أن يفيدوا هم أيضا من مزايا تلك الثقافة، فينظموا البنية الهيكلية لمعتقداتهم الأصلية، ويجعلوا لها مرجعية عقائدية منظمة، ذات خلفية تاريخية، إذ قاموا فى بدايات القرن السادس الميلادي بجمع كل الأساطير عن الآلهة فى الأقاليم المختلفة، لتنتهى إلى الإجماع على تقديس البيت الامبراطورى، وصنفوا كتبا عن ”تاريخ الأباطرة“ و ”تاريخ البلاد“، كما جعلوا من معبد ”إيسيه“ مزارا للاحتفال بإلهة الشمس الجد الأكبر للأباطرة.

ذلك ليحافظوا على هويتهم الثقافية ويمنحوها القدرة على الاستمرار، بأن خلصوها من بدائيتها الأولى التى لم تقاوم الأفكار الوافدة.

وكأننا نرى فيما مرت به التجربة اليابانية فى تلك الفترة، النموذج الأول والأساسى لتلقى الثقافات الواردة، ودمجها حتى تصير عنصرا هاما من مكونات الهوية الثقافية. فتبدأ بالانفتاح على الآخر، ثم الاستعانة بنقل المهارات والخبرات الحضارية الجديدة، باستقدام العناصر البشرية واستخدامها لتطوير العلوم والفنون والزراعة والاقتصاد، ثم إعادة صياغة المكون الفكرى والروحى للخصوصية الثقافية ومنحها الهيكل والمرجعيات اللازمة وإدخال مايلزم من تلك الثقافة الوافدة ليكون عاملا مكملا للهوية الثقافية. ولعل فى ذلك تشابهاً كبيراً مع تجربة اليابان فى العصر الحديث، بل يمكننى القول بأنها كانت المرجع الأول لتجارب اليابان المختلفة في الانفتاح على العالم في عصور مختلفة.

البوذية اليابان