هيروشيما: ذكرى الكابوس النووي وجرح لن يمحوه الزمن

سياسة مجتمع

مرَّ أكثر من نصف قرن على إسقاط القنبلة الذرية لأول مرة في تاريخ البشرية على كل من ”هيروشيما“ و”ناغاساكي“، إلا أن هذا الجرح التاريخي العميق لم يلتئم بعد، ولا يزال يأن ويصرخ حتى الآن. وعلى الرغم من ذلك فقد تعرضت اليابان لتلوث إشعاعي خطير جديد بعد الحادث النووي الشهير في محطة ”فوكوشيما داي- ئيتشي“ للطاقة النووية، والذي وقع في شهر مارس/آذار ٢٠١١ في أعقاب الزلزال والتسونامي. وأصبح السؤال الآن :كيف يمكن للناس ليس فقط في اليابان بل جميع أنحاء العالم التفكير والتعامل مع تلك الحقيقة؟

الذكري ٦٩ لإسقاط القنبلة الذرية

في ذلك اليوم من صباح يوم الاثنين كان الجو صافياً مشمساً بمدينة ”هيروشيما“ الواقعة غرب اليابان. وجرى إسقاط القنبلة الذرية فوق مدينة هيروشيما في تمام الساعة الثامنة والربع من صباح يوم ٦ أغسطس/آب ١٩٤٥، فانفجرت على ارتفاع ٦٠٠ متر فوق سطح الأرض، وانتشر لظاها على محيط ١.٦ كيلومتراً مربعاً، وأدت النيران التي أشعلتها على محيط ١١.٤ كيلو متر مربع، إلى مقتل ٦٦ ألف شخص على الفور وإصابة ٦٩ ألف بجروح وحروق مميتة لينتظروا الموت القريب. كما دمر الانفجار غالبية مباني المدينة وبنيتها التحتية بشكل شبه كامل.

وقد احتشد الآلاف من الناس في هيروشيما ٦ أغسطس/آب ٢٠١٤ لإحياء الذكرى ٦٩ لأول قنبلة نووية في التاريخ دمرت هذه المدينة. وجاء هذا اليوم على عكس يوم الانفجار الفعلي حيث هطلت الأمطار فوق رؤوس المشاركين. وحضر احتفالية السلام التذكارية لفيف من رجال الدولة والسياسيين من اليابان ودول العالم المختلفة، يتقدمهم رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي وسفيرة الولايات المتحدة لدى اليابان كارولين كينيدي.

وقد كتب على النصب التذكاري الحجري ”لضحايا القنبلة الذرية“ الذي صممه المهندس والفنان المعماري الياباني العالمي الراحل ”تانغه كنزو“ : ”ارقدوا في سلام، لن نكرر الخطأ مرة ثانية“.

وقد تغنى كثير من الناس بأنه ”لن نسمح بالقنبلة الذرية“، كما كرروا ”لا مزيد من هيروشيما“ في ”قداس هيروشيما“. وحاولت شخصياً أن أعيد تصوير ما حدث من مراسم يوم ٦ أغسطس/آب من تدفق الفوانيس (يقوم اليابانيون بوضع الفوانيس المضيئة بالشموع في الأنهار والبحار لتأبين أرواح الموتى بشكل عام) وقيام المشاركين في تلك المراسم من الناجين وأسر الضحايا بالصلاة والدعاء، وكذلك مشاهد الناس الذين يأملون ويحلمون بالسلام.

سماء زرقاء صافية فوق قبة القنبلة الذرية

لقد قمنا بالتعاون والتنسيق مع مدينة ”هيروشيما“ ولجنة هيروشيما للأفلام منذ أوائل سبتمبر/أيلول عام ٢٠١٣ وسمح لنا بالدخول إلى ”قبة القنبلة الذرية“ وقمنا بتصويرها من الداخل بطريقة التصوير البانورامي. وقد بدت القبة تحت السماء الزرقاء الصافية كما هي مُحافظةً على ملامح القصف والتدمير الذي تعرضت له إبان قصفها بالقنبلة الذرية، لكن عندما تنظر إلى أعلى من داخل القبة التي تناثرت فسوف تَرى أنقاض الحجارة والطوب بها والمتناثرة هنا وهناك، كما تجد قوساً حديدياً في السقف كأنه يرمز إلى دعوات التخلي عن السلاح النووي.

”متحف هيروشيما التذكاري للسلام“ الوجهة رقم واحد للسياح الأجانب

أصبح متحف هيروشيما التذكاري للسلام وقبة القنبلة الذرية ”قبة جينباكو“ الوجهتين الأكثر شعبية بالنسبة للسياح الأجانب القادمين لليابان وليس طوكيو أو كيوتو أو غيرهما من المدن السياحية الشهيرة. سيما وأن الناس في كل أنحاء العالم يولون غالبا الاهتمام لرؤية المناظر الطبيعية الخلابة، والظواهر الطبيعية الاستثنائية، والتراث الرائع الذي تركه أجدادنا من البشر، ويقوموا بالتجول وزيارة مثل تلك. وقد تم أدراج قبة القنبلة الذرية في قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو في ديسمبر/كانون الأول ١٩٩٦ أيضا.

لكن شعوب العالم لا تسافر من أجل رؤية المناظر الجميلة الخلابة والتراث العظيم فقط. فمدينة هيروشيما مثل معسكر ”آوس شفيتز بيركينو“ للاعتقال والإبادة الذي أقامه النازيون ببولندا هي من ”الإرث السلبي“ الذي لا يمكن أن يُمحى من تاريخ وذاكرة البشرية لتبقى كنداء ومناشدة لقلوب وعقول الجنس البشري كله بأنه لا ينبغي تكرار نفس الخطأ مرة أخرى.

وهنا أسترجع أحداث الماضي الخاصة بتلك المدينة من خلال ”السجلات التصويرية لهيروشيما من أجل العالم“ التي قام متحف هيروشيما التذكاري للسلام بإصدارها عام ١٩٩٩ كما هو مبين أدناه.

تحديد أهداف القصف النووي

وفيما يتعلق بتطوير القنبلة الذرية فقد اتفق آنذاك كل من رئيس الوزراء البريطاني ”تشرشل“ والرئيس الأمريكي ”روزفلت“ عام ١٩٤٣ على اتخاذ الترتيبات اللازمة لاحتكار المعلومات حول القنبلة الذرية، كما أقر الزعيمان في سبتمبر/أيلول ١٩٤٤ استخدام القنبلة الذرية حال اكتمالها ضد اليابان.

ومنذ شهر أبريل/نيسان عام ١٩٤٥، عقدت لجنة لاستعراض أهداف القصف اجتماعات لعدة مرات، وقد وقع الاختيار في نهاية المطاف على ٤ مدن وهي ”كيوتو“، و”هيروشيما“، و”يوكوهاما“، و”كوكورا“ كي تكون الهدف، ولكن تم استثناء كيوتو من الاختيارات لوجود البلاط الإمبراطوري بها وقتها.

وقد صدرت الأوامر بإسقاط القنبلة يوم ٢٥ يوليو/تموز من نفس العام بعد نجاح التجارب عليها بتسعة أيام فقط، وفي يوم ٢٦ يوليو/تموز صدر إعلان ”بوتسدام“ الذي طلب من اليابان الاستسلام التام وبدون شروط، ولكن لأن اليابان لم تقبله فقد أصبح قصف اليابان بالقنبلة أمراً لا مفر منه.

يوم إسقاط القنبلة... لَحَظَاتٍ لا تنسى

تم إعداد القوات الخاصة من أجل عملية إسقاط القنبلة في سبتمبر/أيلول ١٩٤٤. وعين الطيار العقيد ”بول تيبيتس“ قائداً للقوات الخاصة للقيام بعملية إسقاط القنبلة لبراعته الفائقة في قيادة الطائرة بي ٢٩. وقامت القوات بالتدريب بالولايات المتحدة الأمريكية على تلك المهمة. وفي يوليو/تموز ١٩٤٥ انطلقت القوات الخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى قاعدة الإطلاق بجزيرة ”تينيان“ قرب جزيرة ”غوام“.

وفي ٦ أغسطس/آب من نفس العام انطلق ”تيبتيس“ بطائرته بي ٢٩ التي أطلق عليها اسم والدته ”إينولا غاي“ (العضو الأخير من طاقم الطائرة ”إينولا غاي“، وهو ”تيودور فان كيرك“، الذي توفى لتوه عن ٩٣ عاما ودُفن في ٥ أغسطس/آب ٢٠١٤) وهي تحمل القنبلة من قاعدة ”نورث فيلد" في جزيرة ”تنيان“، وكان مصحوباً بطائرتين لتصوير وتسجيل لحظة الانفجار. وفي تمام الساعة ٨:١٥ بتوقيت هيروشيما تم إسقاط القنبلة فوق جسر أيوي. وبعد مرور ٤٣ ثانية فقط من إسقاطها انفجرت القنبلة على ارتفاع ٦٠٠ متر فوق مستشفى الجزيرة التي تبعد ٣٠٠ متراً جنوب شرق جسر أيوي.

إبادة ١٤٠ ألف ياباني بضربة واحدة

وجدير بالذكر أنه كان يعيش في هيروشيما ما يقرب من ٣٥٠ ألف نسمة عند إسقاط القنبلة، من بينهم العسكريون أو من لهم علاقة بالجيش أيضاً وعند انفجار لقنبلة اندلعت ألسنة اللهب وتكونت كرة مخيفة من النار ثم صعدت سحابة ذرية للسماء على شكل نبات الفطر/المشروم. وقُدِّرَت درجات الحرارة بأنها قد وصلت داخل تلك الكرة الهائلة من النار إلى مليون درجة مئوية، ودرجة حرارة سطح الأرض حول المكان الذي أسقطت فيه القنبلة تراوحت بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ درجة مئوية.

وفي الوقت نفسه، فإن الانفجار الشديد ولد موجات من الرياح ناتجة عن الضغط العالي وانتشرت الأشعة الحارة الشديدة وتطاير الإشعاع في كل الاتجاهات، ودمرت مدينة هيروشيما عن بكرة أبيها دون أن تترك أثرا، وصارت مدينة الأشباح. وحتى الآن لا يوجد هناك أي حصر دقيق لعدد الضحايا الشامل الناتج عن هذا الانفجار. لكن وفقا لتقديرات مدينة هيروشيما فقد قدر عدد الضحايا بحوالي ١٤٠ ألف شخص ممن لقوا حتفهم حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول من نفس العام وبعد أن هدأت الأضرار الناتجة عن إصابات متلازمة الإشعاع الحادة. والآن وبعد ٦٩ عاماً على تلك الأهوال، يشعر كثيرون - من الذين نجوا من نيران الجحيم - ويُسَّمون في اليابان ”هيباكوشا“ - بأنهم مذنبون لأنهم ما زالوا على قيد الحياة، فيما اختفى كثيرون آخرون ولم تتح لهم فرصة الإدلاء بشهادتهم على وحشية الحرب.

النصب التذكاري لضحايا القنبلة النووية (الاسم الرسمي نصب ”هيروشيما“ التذكاري لمدينة السلام)

الحفل التذكاري للسلام الذي بدأ بعد عامين من القصف

يقام في يوم ٦ أغسطس/آب من كل عام بمدينة ”هيروشيما“ الحفل التذكاري للسلام للصلاة والدعاء لأرواح الضحايا، والدعوة للقضاء والتخلي عن الأسلحة النووية، وكذلك الدعوة لتحقيق السلام العالمي. ويشارك في الحفل ما يقرب من ٥٠ ألف شخص كل عام يأتون من داخل وخارج اليابان وكان أول احتفال بهذه المناسبة قد أقيم في أغسطس/آب ١٩٤٧ حيث شارك فيه عندئذِ ما يقرب من ٢٠٠٠ شخص. وقام محافظ هيروشيما آنذاك بقراءة ”بيان السلام“، واستمرت تلك العادة من بعدها حتى الآن.

وبالإضافة إلى ذلك، افُتتح متحف السلام التذكاري في أغسطس/آب ١٩٥٥، حيث تستمر عملية جمع الوثائق والمعلومات التي تعكس الواقع الحقيقي وتأثير القصف على الضحايا لنقل الصورة الكاملة دون رتوش للأجيال القادمة.

مجموعة من الأطفال يشاهدون مجسمات للناجين من القصف النووي بالمتحف التذكاري للسلام

”قبة القنبلة الذرية“ على قائمة التراث الثقافي العالمي

ومن المعلوم أن قبة القنبلة الذرية التي يقوم العديد من السياح في الداخل والخارج بزيارتها كان قد تم افتتاحها عام ١٩١٥ كقاعة معارض للمنتجات الصناعية الخاصة بهيروشيما، حيث كانت تتم به عمليات مختلفة من عرض المنتجات وبيعها. لكن في يوم ٦ أغسطس/آب ١٩٤٥ تم تدمير المبنى نتيجة للقصف النووي، ونظرا لانفجار القنبلة فوقه تماما فقد ظل جزء منه قائماً، وهما واجهته المحطمة والهيكل المعدني للقبة الذي كان يُزَّينه من أعلى. و قد بقيا ليشهدا على الحادث الرهيب الذي لن تنساه البشرية أبدا، ومع مرور الوقت أصبح يطلق على المبنى ”قبة القنبلة الذرية“.

وقد تمت عمليات ترميم مختلفة عدة مرات من أجل المحافظة على بقايا المبنى التاريخي من خلال أنشطة عدة كجمع التبرعات، ثم تم تركت كما كانت وقتها في ركن من أركان الحديقة التذكارية للسلام. وتوجد داخل هذا الموقع المحاط بسياج حديدي بقايا من الطوب متناثرة تحت الأنقاض، حيث ظلت الأضرار الناجمة عن القصف النووي شاهدا على بشاعة ما حدث.

(النص الأصلي باللغة اليابانية بتاريخ ٦ أغسطس/آب ٢٠١٤. صورة العنوان: قبة القنبلة الذرية)

هيروشيما كينيدي قبة القنبلة الذرية