سوسيكي وشكسبير: مقارنة بين اثنين من عمالقة الأدب العالمي!

ثقافة

ولد ناتسومي سوسيكي قبل 150 عاماً وهو يعد أول كاتب في اليابان المعاصرة، وعلى الرغم من انشغاله بالكتابة طوال مشوار حياته، إلا أنه كان يضع نصب عينيه عملاق الأدب الآخر وليام شكسبير. ويبحث الناقد داميان فلاناغان في كيفية منافسة المتحدي الياباني للبطل البريطاني.

المنافسة الشعرية

قارن الكاتب الأمريكي الشهير إرنست همنغواي ذات مرة الكتاب بالملاكمين، متخيلاً بشكل فكاهي من سيهزم الآخر على حلبة الملاكمة. هيمنغواي، ملك القصة القصيرة، يعتقد أنه يمكنه أن يتغلب على تولستوي في ثلاث جولات، ولكن الروسي سوف ينتصر بالتأكيد في أكثر من خمسة عشر جولة. ولكن المعيار الذهبي الحقيقي لهيمينغواي كان شكسبير ”البطل“، القيمة المطلقة التي تقيس من خلالها قيمتك ككاتب.

في الأيام التي كانت تطغى عليها الصبغة الأوروبية، كان من الشائع الإشارة إلى أفضل كاتب مسرحي أو كاتب روائي في البلاد باسم ”شكسبير“. وبالنسبة لليابان، كان الكاتب الأكثر شهرة الذي حصل على هذه الصفة هو الكاتب الدرامي تشيكاماتسو مونزايمون (1653-1725). وغني عن القول أن مصطلح ”شكسبير اليابان“ لا يخبرك شيئا عن شيكاماتسو - الذي لم يسمع أبداً عن شكسبير.

هناك كاتب ياباني آخر هو الخصم الأكثر جدارة للمنافسة على اللقب الشكسبيري، رجل على دراية عميقة وواسعة بالشاعر الإنكليزي لدرجة أنه يمتلك أعمال شكسبير كاملة في اصدارات متعددة. منافسنا هو عالم ياباني خبير في الأدب الإنكليزي لدرجة أنه أصبح أول محاضر ياباني في هذا الموضوع بجامعة طوكيو الإمبراطورية المرموقة. إنه يستخلص بعناية كل ما يمكن جمعه في جعبته من البطل، وتحليل أعماله بتفصيل كبير وتكريس فترات دراسية كاملة لكل مسرحية شكسبيرية.

منافسنا طموح، يزفر بتطلعات أدبية مكبوتة وأفكار إبداعية. وهو يشعر بالظلم من عالم المنح الأدبية بأسره وسطوة الأدب الإنكليزي بما في ذلك وخاصة الهيمنة العالمية لشكسبير. كان يبدع بتحف روائية في المساء، بينما يجتهد في ثلاث وظائف تدريسية ويقبع في منزل مستأجر مزدحم بزوجته وأطفال الأربعة الصغار. يتطلب منه الأمر أسبوعين فقط لكتابة الروايات التي سيتم اعتبارها فيما بعد من أعظم روائع الأدب الياباني الحديث.

يتطلب الأمر جرعة كبيرة من الإيمان لهذا المنافس الهاوي للتحول إلى عالم الاحتراف، وترك منصبه الأكاديمي والمنح الدراسية والمخاطرة بكل شيء في مهمة محفوفة بالمخاطر سعيا وراء الإبداع. تقف أمامه واضحة جلية رؤية شكسبير، وهو كاتب يبرز في العالم أجمع كنصب هائل، مؤثرا في الخيال الإبداعي العالمي. هذا هو نوع الكاتب الذي يرغب في أن يصبح عليه. سيأخذ هذا المقاتل كل حبة من تأملاته في مسرحيات شكسبير الرائعة والغنية ويمزجها مع تأملاته المستنبطة بعناية حول طبيعة الأدب نفسه، ويوجهها إلى ابداع روايات من شأنها أن يتردد صداها جنب إلى جنب مع أعمال خصمه القوي. والآن المنافس على استعداد للدخول للحلبة.

مراحل تدريب المنافس

يدق الجرس معلناً بداية المباراة. دعونا الآن نضعها في سياقها التاريخي والثقافي. نحن الآن في عصر ميجي باليابان (1868-1912)، وهي الحقبة التي قررت فيها اليابان اللحاق بل وتخطي ركب الإنجازات العلمية والهندسية والفنية التي وصل إليها الغرب. ملاكمنا هو ناتسومي كيننوسوكي (1867-1916)، الذي أعاد اكتشاف نفسه ككاتب أصبح يعرف فيما بعد بإسم سوسيكي. وقد تم اكتشاف موهبته في وقت مبكر، وتم تمويل تدريبه المبكر من قبل الحكومة اليابانية، والتي أرسلته إلى لندن ما بين عامي 1900-1902 للحاق بالمعايير اللغوية لعلماء الأدب الإنجليزي. وكانت هذه الرحلة هي نشأة طموحه ليصبح (dai-bungakusha) ”الأديب العظيم“. ولكن كان هناك شخص مازال يتفوق على كل الآخرين، وكان ينوي اللحاق به بل وتخطيه. هذا الشخص هو وليم شكسبير.

هذا الوجه من حياة سوسيكي من المستبعد أن تقرأ عنه في أيا من كتب التاريخ الاعتيادية التي تتحدث عن الأدب الياباني. فعلماء الأدب الغربيون يحصرون دوره بشكل روتيني ليس أكثر من مجرد مقاتل عادي في نوادي القتال الأدبية، ووضعه في سرد زمني ممل للكتَّاب اليابانيبن متصلا كل منهم بالآخر. ولكن اسناد مثل ذلك الدور المهمش لسوسيكي كمجرد تسلسل لكتَّاب يابانيين أقل قيمة منه سيأتون من بعده لهو أمر يعد بمثابة صفعة تحط من قدر موهبته.

شارك سوسيكي بنفسه بشكل متعمق في معركة شخصية مع البطل، الأمر الذي سيترك معه مجالا كبيرا لتعليقات المحللين. استلهم جزء منها من معلمه الشخصي في لندن، وهو محرر لـ (Arden Shakespeare) (سلسلة طويلة من الإصدارات العلمية عن أعمال وليام شكسبير) يدعى ويليام كريغ الذي كرس عقودا طوال لتجميع المعجم الكبير لشكسبير (Shakespeare lexicon)، والكاتب الياباني كرس نفسه لمشروعه الضخم الخاص به، Bungakuron (نظرية الأدب). هذا العمل الذي نشر في عام 1907، وكان محاولة علمية لتشمل كل الأدب في نظرية موحدة. لقد كان عملا بحثيا هائلا، محاولا به اللحاق بأعمال شكسبير بل وتخطيها، حيث تغلغل في أعماق الأدب بشكل لم يصل إليه أي كاتب من قبل.

والآن، أطلق العنان لقدراته الإبداعية متسلحا بسنوات من المنح الدراسية، وكان بذلك سوسيكي على استعداد لمقارعة البطل. فمنذ بداية حياته المهنية في الكتابة الخيالية، كان يصارع ظل شكسبير. ففي بكورة أعماله القصصية القصيرة في عام 1905 ”Rondon Tō“ (”برج لندن“)، أعاد صياغة مشهد للأمراء في البرج مشيرا إلى ريتشارد الثالث (ملك انكلترا). أما في رواية Sanshirō (سانشيرو) عام (1908)، ففي المشهد الختامي بين العاشقين المحبطين (نونوميا ومينيكو)، اللذان قاما بأداء أدوار الشخصيات الرئيسية في الرواية، نجد أنه مستوحى من خلفية أحداث مشهد دير الراهبات بمسرحية هاملت.

وفي روايته عام 1907 Gubijinsō (الخشخاش)، كتب لأول مرة كروائي محترف لصحيفة أساهي شيمبون، فنجد الشخصية المحورية (Fujio) (فوجيو)، تقرأ بصوت عال مقاطع من رواية أنطونيو وكليوباترا، في إشارة قوية منها لتشبيه نفسها بملكة مصر في رواية شكسبير. كما أنها تموت أيضا في الرواية كما ماتت الملكة المصرية في مشهد ميلودراماي مؤثر. كانت هذه هي مرحلة سوسيكي الإحمائية، محاولا ًالخروج بمجموعات مختلفة من الأعمال ليسجل بها أولى ضرباته في عال الرواية.

هل هو حقا قتال لا يمكن الانتصار فيه؟

ولكن كيف يمكنك أن تخرج عبقرية أدبية مثل شكسبير؟ سوسيكي علق مرة على عدم جدوى تحليل الأدب من خلال مجرد التفكير في الأعمال الأدبية. فللوصول إلى قلب الأدب - من الحياة نفسها - تحتاج إلى أن تكون ملما بكل المواضيع المتعلقة بالحياة. لذلك ألقى سوسيكي بنفسه في الدراسات الاجتماعية والنفسية والتاريخية والعلمية. واستكشف الفلسفة الأوروبية والشعر الصيني والرسم الغربي، وكل شيء من أنواع مختلفة من الزهور إلى نظرية الألوان المعاصرة (التأثيرات البصرية الناتجة عن دمج ألوان محددة).

وبمجرد أن تحول إلى الكتابة الإبداعية، كان قادراً على إضفاء روحه الأدبية برؤىً وأفكارا ثرية وشاملة، واستعارات ندُر وجودها في تاريخ الأدب العالمي. إن عقدين من المنح الدراسية التي سبقت ظهوره الأدبي المتفجر نقلت لسوسيكي لأول مرة عمقاً واتساعا رؤية واندماجاً فريداً من الأفكار التي حيرت المفكرين في القرن الماضي.

شكسبير كان بالطبع كاتب درامي لا نظير له، فلا يوجد أي كاتب قبله أو منذ نشأة العالم الأدبي يزخر بمثل تلك الشخصيات المعقدة الغنية التي رسمها. سوسيكي لا يمكن أن يضاهي ما قام به شكسبير ”البطل“، ولكن ما استطاع فعله هو تركيز قدراته الأدبية ليس على الشكل الظاهري، بل داخل مكنونات الوعي البشري والمراقبة الدقيقة للظروف المحلية اليومية. كان سوسيكي قادراً على إظهار أنه للوصول إلى أكثر الأعمال الأدبية عمقا لست مضطرا لتروي حكايات الأمراء المسكونين والملوك المجانين، ولكن ببساطة المراقبة، كما هو الحال في روايته عام 1910 (Mon) (البوابة)، التي تصف وضع زوجين بلا أطفال يعيشون أسفل جرف صخري.

وكان سوسيكي يتدريب طوال حياته المهنية في الكتابة استعدادا للمواجهة الكبيرة مع البطل. وأخيرا تقابالا وجها لوجه في رواية (Kokoro) (كوكورو) عام (1914)، وهو العمل الذي لا يحتوي على أي ذكر صريح لأيا من الخصائص الشكسبيرية ولكن من الرائع اعتبارها ذات صلة بشكسبير.

ففي رواية تاجر البندقية وكوكورو، شكسبير وسوسيكي كانا يفكران في كيف يمكن لشخص ما أن يطالب بقلب شخص آخر - أحد المعاني الحرفية لعنوان رواية سوسيكي. في حين أن شكسبير يفعل ذلك من خلال التمثيل الفعلي المادي لمحاولة نزع عضو قلب أحد الأشخاص. أما مع سوسيكي، فكل شيء يتم على المستوى النفسي. جزء من السبب هو أن الرواية في جوهرها هي وسيلة أكثر استيعابية من المسرحية. فعلى المسرح نحن بحاجة إلى أن يظهر التفاعل الدرامي من الشخصيات. أما في الرواية يمكننا التعمق في أفكار الناس الداخلية.

وعندما طُلب من سوسيكي، في لندن، أن يقدم تقريراً عن التقدم الذي أحرزه في دراسته إلى وزارة التعليم اليابانية، أرسل تلك الورقة البيضاء الشهيرة الخالية. وبعد بضع سنوات، رفض جائزة الحكومة بمنحه درجة الدكتوره في الآداب. حيث لم يكن سوسيكي يريد أي شهادة أو صك قبول من الدولة، بل أنه نفى العلاقة بين الدولة والأدب. ولم يكن هذا قراراً تقنياً يمنحه بعض النقاط. ولكنه قرار يجعله على مقربة من النزال مع الأفضل.

لم يكن طموح سوسيكي يقتصر على مثل هذا الفكر الضيق كأن يصبح مثلا ”مؤلفا وطنيا“ لليابان. وقد أشار مرة مازحا في رسالة إلى الروائي والمترجم موريتا سوهي إلى كتابة أعمال من شأنها أن ”تفوق هاملت وتسطع في سماء هذا العالم“. كانت الرغبة الحقيقية لدى سوسيكي تكمن في اعتلاء قمة منصة الأدب العالمي مع شكسبير نفسه.

الأدب العظيم تواق دائما للكمال. والكتَّاب العظماء يتخطوا دائما حدود امكانياتهم. فمن أجل الوصول إلى قلب الأشياء والحصول على الأفضل يدفعوا بأنفسهم إلى حافة الهاوية، يخوضوا فيها معركة داخلية، مهتمين بأدق التفاصيل التي لا تجول بخاطر من هم خارج هذا المعترك الفكري. وهكذا هو ناتسومي سوسيكي تنهال ضرباته واحدة تلو الأخرى، كما يجب أن يفعل كل الكتَّاب العظام لاقتناص بطولة العالم.

(النص الأصلي باللغة الإنكليزية. صورة الموضوع: تمثال لناتسومي سوسيكي في منطقة واسيدا مينامي تشو بحي شينجوكو في طوكيو)

ثقافة أدب