العقيدة الإيمانية ودور الإمبراطور كرمز لليابان

ثقافة

يعتبر الإمبراطور أكيهيتو أول من اعتلى العرش الإمبراطوري بمقتضى دستور ما بعد الحرب. وما زال خلال فترة اعتلائه العرش حريصا على القيام بمهام محددة تتلاءم وطبيعة دوره كرمز للدولة والوحدة الوطنية. وقد برز ذلك جليا خلال الزيارات التي كان الإمبراطور والإمبراطورة كلاهما يقومان بها للمناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية، كذلك زيارة العديد من ساحات معارك حرب المحيط الهادي. والسؤال الآن ما هي العقيدة التي دعمت الإمبراطور طوال فترة جلوسه وساعدته على فهم ماهية دوره كرمز للدولة؟

 هل الإمبراطور مؤمناً بعقيدة الشنتو؟

هل يتمتع الإمبراطور بحرية اختيار الدين بموجب الدستور الحالي؟ هذا السؤال أصعب مما قد يبدو عليه. فأعضاء العائلة الإمبراطورية يُستثنون من قانون التسجيل العائلي (سجل الأسرة الياباني الذي يفرض على اليابانيين القيام بتسجيل أنفسهم ضمن إطار أسري مرجعي)، وبالتالي يعاملون بشكل مختلف عن بقية السكان اليابانيين. وعلى الرغم من أن الدستور يضمن حرية الدين للمواطنين، فإن أحكام الدستور لا تنطبق بطريقة مباشرة على الإمبراطور وعائلته.

منذ حقبة نهضة ميجي (هي فترة انتقالية من تاريخ اليابان عرفت فيها البلاد تحولات واسعة بعد أكثر من قرنين من حكم سلالة التوكوغاوا في عام 1868)، كان الإمبراطور يقوم بالطقوس الشنتوية التي يطلق عليها (سايشي) في المعابد الثلاثة داخل البلاط الإمبراطوري. ولكن عندما تم تعديل الدستور عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، فقدت هذه الاحتفالات طابعها العام واعتُبرت منذ ذلك الحين بمثابة طقوس يقوم بها الإمبراطور وعائلته بصفة خاصة. إذن هل يمكننا من ذلك استنتاج أن ديانة الإمبراطور هي الشنتوية؟

في الواقع، ليس الأمر بهذه البساطة. فمعابد الشنتو تعتبر معظم السكان اليابانيين مؤمنين بالشنتوية. وعلى جميع المنظمات الدينية الإبلاغ عن أعداد أتباعها إلى إدارة الشؤون الدينية الحكومية كل عام. واستنادا إلى هذه البيانات مجتمعة يمكن القول إن المؤمنين بمختلف الطوائف الشنتوية يصل عددهم إلى حوالي 90 مليونًا من تعداد سكان اليابان.

ولكن في استطلاعات للرأي العام، يعتبر حوالي 2٪ فقط من اليابانيين أنفسهم مؤمنين بالشنتوية، أما البقية فلا يعدون أنفسهم مؤمنين بها على الرغم من إدراج أسمائهم كتابعين لأحد المعابد المحلية.

إلى جانب ما سبق، هناك سؤال ينبغي طرحه وهو فيما إذا كانت الشنتو أصلاً ديانة أم لا؟ فهي خلافا للمسيحية أو البوذية لا مؤسس لها، ولا عقيدة، ولا نص مقدساً. لهذه الأسباب، يجب أن نكون حذرين من الاستنتاج بقول إن الإمبراطور يؤمن بالشنتوية كدين لمجرد أنه يؤدي شعائرها وطقوسها بانتظام داخل البلاط الإمبراطوري.

العلاقة الطويلة الأمد بين القصر الإمبراطوري والبوذية

في الواقع، إذا نظرنا عبر التاريخ، نجد أن معظم الأباطرة اليابانيين لم يكونوا مؤمنين بالشنتوية وإنما بالبوذية.

ففي القرن الثامن يذكر لنا كتاب نيهون شوكي (ثاني أقدم الكتب التاريخية عن اليابان) أنه عندما دخلت البوذية إلى اليابان فُتن الإمبراطور كينمي المتوفى عام 571 ميلادية بجمال الصور البوذية التي رآها. كذلك كان الأمر بالنسبة للإمبراطور شومو (701 - 756) الذي كان قراره ببناء معبد تودايجي العظيم في مدينة نارا نابعاً من إيمانه العميق، والذي قاد في نهاية المطاف إلى مشروع كبير حشد به جميع مهارات وموارد الدولة.

وخلال حقبة عصر هييآن (794-1185)، قام بعض الرهبان مثل سايتشو (766/767–822) وكوكاي (774-835) بالتعريف بالتعاليم البوذية الباطنية ونشرها في اليابان وأصبح الأباطرة آنذاك يشاركون بحماس في تأدية طقوس أبيهيشيكا المعروفة بـ (kanjō) والتي يتم فيها تمرير تعاليم المعلم إلى المتعلم. وبحلول حقبة عصر كاماكورا في عام 1185، أصبح التفاني في تأدية الطقوس البوذية الباطنية أمراً متأصلاً لدرجة أن الأباطرة جعلوا مراسم اعتلاء العرش تتم من خلال طقوس بوذية زاهدة تُعرف باسم sokui kanjō.

وبناء عليه يمكن القول إن ديانة الأباطرة اليابانيين حتى حقبة ميجي الإصلاحية كانت بوذية. وبالطبع كانت لديهم علاقة وثيقة بالشنتوية إضافة إلى ذلك، وكانت آلهة الشمس (أماتيراسو) مبجلة في حرم الأبنية الثلاثة المقدسة داخل القصر الإمبراطوري باعتبارها الآلهة التي ينحدر من صلبها السلف الإمبراطوري. إلا أن العلاقة مع البوذية كانت بشكل عام أقوى بكثير.

وثمة عامل آخر هو أنه من خلال العصور الوسطى وفترات الحداثة المبكرة، تم ربط تقاليد الشنتو والبوذية بشكل لا ينفصم نتيجة لسنوات عديدة من الترابط الوثيق والتوافق بين المعتقدين. فقد كانا جزأين لكل متكامل.

نهضة ميجي والتوجه الجديد نحو الشنتوية

لم يستمر ذلك التوافق الذي عرفته البوذية والشنتوية في اليابان لقرون طويلة، حيث انتهى إلى الأبد مع حركة (شينبوتسو بونري) (shinbutsu-bunri) التي كانت تهدف للفصل مابين البوذية والشتنوية في أعقاب حركة ميجي الإصلاحية والحملة المناهضة للبوذية للقضاء عليها التي تلت أحداث (haibutsu-kishaku) (محو آثار البوذية والقضاء على الفكر البوذي). وفي الأيام التي كان فيها البلاط الإمبراطوري لا يزال مقره في كيوتو، كان هناك مذبح بوذي يسمى (O-kurodo) (الباب الأسود) داخل القصر الإمبراطوري. وكجزء من حركة الفصل بين البوذية والشنتوية إلى كيانيين منفصلين، تم نقل المذبح بعد فترة وجيزة من حركة ميجي الإصلاحية إلى معبد (Sennyūji) (سننيوجي) البوذي في مدينة كيوتو، والذي كان بمثابة معبد جنائزي للعائلة الإمبراطورية لعدة قرون.

غيّرت حركة ميجي الإصلاحية بشكل جذري العلاقة بين الإمبراطور والتقاليد الدينية للشنتوية والبوذية. ففي السنوات الأولى التي تلت الإصلاح، كان النظام الجديد يتطلع إلى إقامة نظام حكم يمارس فيه الإمبراطور السيادة الحقيقية بنفسه. واتخذت الحكومة خطوات لإنشاء دولة قومية حديثة تعتبر الشنتوية فيها واحدة من الكيانات الرئيسية لعناصر الدولة. وكجزء من هذه التغييرات، تم الاستغناء عن التقاليد البوذية داخل العائلة الإمبراطورية. حيث حدث أن أعرب الأمير ياماشينا آكيرا كبير بيوت العائلة الإمبراطورية في حقبة ميجي الذي كان يحمل لقب (shinnō) – لقب يمكنه من اعتلاء العرش الإمبراطوري في حالة عدم وجود وريث شرعي للإمبراطور – والذي كان فيما مضى كبير رهبان المعبد البوذي المرتبط تقليديًا بالعائلة الإمبراطورية عن رغبته الشخصية في تشييع جنازته على الطقوس البوذية، لكن حكومة ميجي رفضت السماح بذلك.

وعلى النقيض من ذلك، أصبحت علاقة العائلة الإمبراطورية مع الشنتوية أكثر قربًا من أي وقت مضى، وأصبح الإمبراطور الجديد، الذي كان عمره آنذاك ستة عشر عامًا، أول إمبراطور في التاريخ يزور معبد إيسى، الذي يعتبر أهم المعابد الشنتوية في البلاد. وليس من الواضح لماذا لم يزره أي من الأباطرة السابقين، لكن هذه الزيارة الأولى ساهمت في تعميق العلاقة المتنامية بين العائلة الإمبراطورية والشنتو. وكجزء من الاستعدادات للزيارة، تم تدمير 195 معبد بوذي كانت مقامة على طول الطريق.

وفي الحقيقة لا يمكن معرفه ما الذي جناه الإمبراطور ميجي من كل هذا. فهو كان لا يزال شابا يافعا، وربما لم يكن لديه أية آراء قوية حيال مسألة الدين والعقيدة. لكن هناك شيء واحد مؤكد وهو أن الباحثين والمصلحين الذين أرادوا إعادة توجيه الشنتو كأحد المحاور المركزية لدولة يابانية جديدة نجحوا في تقويض البوذية وإبعادها عن مكانها التقليدي في قلب العائلة الإمبراطورية.

وقد اتخذت حكومة ميجي أيضًا خطوات للتعامل مع الشنتو خارج إطار الدين. فعلى الرغم من تأسيس مكتب للمعابد والمزارات (shajikyoku) في بداية الأمر داخل وزارة الداخلية، إلا أنه تم فصل ذلك في وقت لاحق إلى مكتب لمعابد الشنتو ومكتب آخر للدين. وفي مرحلة مبكرة، تم التعامل مع الشينتو بشكل مختلف عن الأديان الأخرى كالبوذية والمسيحية.

في تلك الأثناء، كان دستور إمبراطورية اليابان لعام 1889 قد اعترف بالفعل بحرية الدين. وكان أحد أسباب فصل الشنتو عن الديانات الأخرى ومعاملتها كشيء خارج الإطار الديني بهذه الطريقة هو السماح للحكومة بجعلها إلزامية على جميع السكان للمشاركة في طقوس الشنتو كجزء من برنامجها الوطني الذي كان يطلق عليه (kokumin dōtoku) (أخلاقيات الأمة).

حيث كان الإمبراطور يقوم بدور يشبه دور رئيس الكهنة، يؤدي الشعائر والطقوس في المعابد الثلاثة بالبلاط الإمبراطوري تمجيدا وتكريما للآلهة الأجداد، ولأرواح الأباطرة السابقين، وآلهة السماء والأرض. وكان الناس في نفس الوقت الذي يؤدون فيه الصلاة إلى الآلهة، يقدسون أيضًا الإمبراطور الذي كان يمثل رئيس الكهنة وممثلهم الرئيسي. حيث كان ذلك هو النظام الذي أُنشئ في عهد ميجي.

رمزية الإمبراطور

يبدو أن الإمبراطور الحالي متحمّس تمامًا لأداء احتفالات وطقوس البلاط. وقد ظهر ذلك خلال النقاش الأخير حول رغبته في التنازل عن العرش، عندما قال بعض الخبراء الذين قدموا المشورة بأن الإمبراطور طالما أنه يقوم بهذه الطقوس، فلا حاجة له لأداء أية مهام أخرى.

لكن حقيقة الأمر أنه منذ بداية العصر الحديث كان يتوقع من الأباطرة القيام بأكثر من مجرد أداء دور احتفالي وشبه ديني من هذا النوع. وباستثناء الإمبراطور تايشو الذي لم يتمكن من القيام بواجباته الكاملة بسبب مرضه، فقد قام أباطرة العصر الحديث الآخرون بالقيام بالعديد من الجولات الرسمية على نطاق واسع. وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أصبح الإمبراطور شووا (هيروهيتو) أول إمبراطور يتفاعل مع المواطنين العاديين. وقام كذلك الإمبراطور أكيهيتو بعدة رحلات إلى المناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية وساحات معارك الحرب العالمية الثانية.

وبموجب دستور ميجي، كان على الأباطرة أيضًا أن يمارسوا السلطة السيادية الإمبراطورية (tennō taiken). على الرغم من أنه لم يعد مطلوبًا (أو مسموحًا) القيام بهذا الدور، إلا أن الأباطرة في فترة ما بعد الحرب استمروا في تأدية هذا الدور في مناسبات رسمية مختلفة. وهو دور يتطلب من الإمبراطور القيام بمهام شاقة، حيث يتضمن أكثر من مجرد طقوس دينية تتم تأديتها في حرم القصر.

وينص الدستور الحالي على اعتبار الإمبراطور رمزا للدولة ووحدة الشعب. لكن الدستور لا يحدد بدقة المقصود بكلمة ”الرمز“.

وفي رسالته إلى الشعب بشأن رغبته في التنازل عن العرش، قال الإمبراطور”لقد قضيت أيامي في البحث والتفكير في ماهية الدور المنوط بالإمبراطور، والذي اختير ليكون رمزًا للدولة بموجب دستور اليابان.“

وبما أن الدستور لا يحتوي على توجيهات واضحة بشأن ما يعنيه أن يكون الإمبراطور ”رمزًا للدولة“، أو بعبارة أخرى، فقد تُرك الأمر للإمبراطور شخصيا ليعرفه بنفسه. وفي رسالته المتلفزة قال ”لقد شعرت أن رحلاتي إلى أماكن مختلفة في جميع أنحاء اليابان، وعلى وجه الخصوص إلى الأماكن والجزر النائية، هي أعمال هامة للإمبراطور كرمز للدولة“.

وعندما سمعت حديث الإمبراطور، اتضح لي أن المهام التي يعتبرها جوانب مهمة لدوره كرمز للدولة لها الكثير من القواسم المشتركة مع تعاليم بوذية يطلق عليها (بودهيساتفا) (bosatsu-gyō) أو أعمال الإيثار لمصلحة الآخرين في البوذية. الأمر الذي يشير إلى القيام بأفعال لإنقاذ الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب التضحية بالنفس.

فنرى الإمبراطور بصحبة الإمبراطورة من أوائل من يقومون بالزيارات للمناطق المنكوبة، غالبا في ظل عدم استقرار المنطقة، كذلك فقد قاما بزيارة ساحات المعارك السابقة حيث السكان المحليون الذين ليس لديهم دائما مشاعر إيجابية تجاه الإمبراطور الياباني. فعندما كان أكيهيتو وليا للعهد، قام أحد المتظاهرين الغاضبين بإلقاء إحدى الزجاجات الحارقة على الموكب الإمبراطوري، وتشير حقيقة استمرار الإمبراطور والإمبراطورة في القيام بهذه الجولات في مثل هذا السن المتقدم إلى وجود عزيمة وإصرار نابع من إحساس قوي بالإيمان.

ونجد أن فكرة التضحية بالنفس من أجل خلاص الآخرين لا وجود لها في تعاليم الشنتو. وعلى النقيض من ذلك، تبنت البوذية هذه التعاليم منذ المراحل الأولى من تاريخها. فمن المفاهيم التي تحظى بأهمية خاصة في البوذية اليابانية هي (تعاليم لوتس سوترا)، والتي تشير في محتواها إلى ”عدم تحصين حياة الفرد الجسدية“ ففي الكفاح من أجل خلاص الجميع , ينبغي أن يكون المرء مستعداً للتخلي عن جسده وحياته من أجل الآخرين.

وحاليا نجد أن الإمبراطور ليس لديه القدرة على التأثير في سياسة الحكومة الوطنية. لكنه يحتاج إلى شيء آخر يساعده في دعم أفعاله كرمز للدولة. وهذا هو الدور الذي يمكن أن تلعبه العقيدة. ربما كان من الطبيعي أن يبحث عن ذلك في الديانة البوذية التي كانت تجمعها مع الأباطرة السابقين علاقات متأصلة استمرت لعدة أجيال.

(النص الأصلي نشر باللغة اليابانية في 28 فبراير/ شباط 2018، الترجمة من الإنكليزية. صورة الموضوع: الإمبرطور أكيهيتو والإمبراطورة ميتشيكو في مدينة جوسو بمحافظة إيباراكي في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2015، بالقرب من موقع فيضان نهر كينوغاوا، والذي تسبب في فيضانات خطيرة في كل من إقليم كانتو وتوهوكو. جيجي برس)

العائلة الإمبراطورية الدين