هل تنجح فرنسا في إصلاح ما أفسدته السياسات الأمريكية في شرق آسيا؟

سياسة

هل نشهد انطلاق عهد جديد للشراكة الفرنسية اليابانية؟

يصادف هذا العام مرور 160 سنة على بدء العلاقات الدبلوماسية بين اليابان وفرنسا. يعود تاريخ العلاقات الفرنسية - اليابانية إلى عام 1858 حين تم التوقيع على معاهدة الصداقة والتجارة حيث قررت اليابان نبذ سياسة العزلة والانضمام من جديد إلى المجتمع الدولي. في ذلك الوقت، كانت اليابان تنظر إلى فرنسا باعتبارها نموذجًا إيجابيًا يمكنها الاحتذاء به في سعيها للحداثة. استمر نمو العلاقات بين البلدين بشكل مطرد منذ ذلك الحين، واليوم يتمتع البلدان بشراكة مستقرة. حيث أن كلا البلدين يتطلعان إلى مواجهة التحديات الجديدة في ظل الوضع العالمي المتغير، فما هو المنتظر تحقيقه من العلاقات الثنائية بين البلدين في السنوات القادمة؟

في كل مرة أزور فيها فرنسا، أشعر بانبهار كبير ليس فقط بتاريخها الطويل الملئ بالروائع على نحو يدعو إلى الفخر، بل أيضاً بانفتاح البلاد على الإبداع والتجديد. وبشكل خاص فقد أبهرتني مدينة مارسيليا كثيراً في السنوات الأخيرة. على الرغم من شعوري الدائم بالتعلق بالمكان، إلا أنه اكتسب سمعة مؤسفة باعتباره مدينة مزقتها الهجرة والبطالة والجريمة. لكن في السنوات القليلة الماضية، ساهمت عملية إعادة تطوير رئيسية لمنطقة الميناء التي شملت مباني شاهقة من تصميم مهندسين معماريين مشاهير وعمليات الترميم التي أجريت لمرافق الميناء الحالية، في تحويل المدينة سريعاً إلى وجهة شعبية للسفن السياحية الكبيرة. تسعى مارسيليا إلى تأسيس هوية جديدة لنفسها وتأمل أن تصبح مركزًا رئيسيًا على خريطة ممرات النقل البحري العالمي. بشكل أساسي، هي تطمح إلى أن تكون شنغهاي البحر الأبيض المتوسط.

في هذه الأثناء تحدث أيضًا تغيرات دراماتيكية في منطقة شرق آسيا. لعل الاقتصاد الياباني قد تباطأ قليلاً بالمقارنة بفترة السبعينيات والثمانينيات، ولكن من منظور أوسع تبدو منطقة شرق آسيا كما لو كانت جاهزة لإثبات نفسها كمركز مهيمن على الاقتصاد العالمي، تأتي الصين في مقدمته. في منطقة تعد موطناً لإيديولوجيات متنوعة ومتنافسة في كثير من الأحيان، تعد اليابان واحدة من مجموعة قليلة من الدول الآسيوية التي تشترك في نفس منظومة القيم والمعايير الأوروببة الغربية. ولهذا السبب يساورني شعور بأن العلاقة الإستراتيجية بين اليابان وفرنسا سوف تتعاظم أهميتها في السنوات القادمة.

الوضع المتناقض في منطقة شرق آسيا

تواجه منطقة شرق آسيا معضلة إصلاح العلاقات المعقدة بين الكيانات الأمنية الموجودة في المنطقة وبين اقتصاداتها المتنامية بشكل متزايد..

من منظور أمني، هناك عدد من التطورات التي تؤدي إلى توتر العلاقات في المنطقة. كوريا الشمالية منهمكة في ممارسة الألعاب مع الولايات المتحدة فيما يتعلق ببرنامجها للأسلحة النووية، وبحسب التوقعات فإن هذا الوضع من المرجح أن يستمر في المستقبل، بالإضافة إلى التحسن المطرد في علاقاتها مع كوريا الجنوبية. كما قد حولت روسيا تركيزها الإستراتيجي بشكل متزايد باتجاه المحيط الهادئ، وفي سبتمبر/ أيلول أكدت على مكانتها كلاعب عسكري رئيسي في المنطقة من خلال دعوتها الرئيس الصيني شي جين بينغ ليشهد أكبر تدريب عسكري أجرته روسيا بالاشتراك مع الصين منذ الحرب الباردة.

العامل الأهم هو موقف الصين الثابت الذي لا يتزعزع بشأن القضايا الإقليمية، بما في ذلك التوسع في المياه الدولية والذي لا يزال يشكل نقطة خلاف جوهري مع الدول المجاورة. إن مصالح اليابان ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه الدول وبالمناخ الجيوسياسي الذي لا يمكن التنبؤ به في المنطقة.

تتزايد النزعة القومية في العديد من الدول، حيث تميل الدول إلى إعطاء الأولوية لمصالحها وظروفها الداخلية على حساب القواعد والمعايير الدولية، مما يؤدي إلى زيادة الشكوك وانعدام الثقة بين الحلفاء التقليديين. ورغم أن أياً من هذه العوامل لن يؤدي على الأرجح إلى صراع مفتوح في المستقبل القريب، إلا أن المجتمع الدولي عليه أن يعمل لضمان ألا تتحول الاحتكاكات العرضية في منطقة شرق آسيا إلى تهديد عالمي حقيقي.

وفي نفس الوقت فقد أصبحت العلاقات الاقتصادية في المنطقة أقرب وأكثر ديناميكية من أي وقت مضى، وكان تنامي الترابط الاقتصادي بمثابة نعمة لكل دول منطقة شرق آسيا. لكن وكما هو الحال في أوروبا، فإن القطاع الصناعي يكافح بسبب قيام العديد من الشركات بنقل مصانعها إلى مواقع أرخص في الخارج، مما يؤدي إلى تفريغ القطاع الصناعي. كما أن المنطقة مجبرة أيضًا على إجراء إعادة تنظيم واسعة النطاق لبنيتها الصناعية. وعلى الرغم من كل هذه التحديات، إلا أن منطقة شرق آسيا من المنتظر أن تتحول إلى منطقة اقتصادية ضخمة ومتكاملة بشكل متزايد وسوف تأتي الصين في مقدمة دول المنطقة. سوف تشهد المنطقة حركة متزايدة للأشخاص والمعدات والأموال والمعلومات عبر الحدود. وعلى الرغم من تراجع نفوذ اليابان نسبيًا على الصعيد الإقليمي، لكن يمكننا افتراض أنها ستحتل مركزًا محورياً بالتوازي مع تطور كتلة شرق آسيا لتصبح مركزًا عالميًا رئيسياً جديداً. ومع ذلك فإن التحدي الأكبر الذي سيواجه اليابان سوف يتمثل في ضرورة تحديد ماهية دورها ومركزها داخل منطقة شرق آسيا الجديدة المتنامية.

الطرق البحرية المؤدية إلى آسيا

بالنسبة لفرنسا وبلدان أوروبية أخرى، يعتبر ضمان طريق للوصول إلى منطقة شرق آسيا المزدهرة على رأس الأولويات، وتعد حالة مارسيليا مثالاً واحداً فقط على الأهمية المتزايدة لهذه القضية، وفي هذا السياق فإن مبادرة الحزام والطريق التي يقوم على تنفيذها الرئيس الصيني شي تعد ذات أهمية قصوى حيث تقوم الصين بتمويل مشاريع كبرى بغرض توسيع مرافق الموانئ وتحسين البنية التحتية على امتداد طرق الحرير البري والبحري الذي يمتد عبر آسيا إلى أوروبا، وعلى الرغم من الفوائد المتوقعة من هذا الاستثمار الضخم إلا أن الطبيعة المهيمنة للتوسع الصيني أثارت شكوكاً عديدة لدى الغرب وفي المناطق المتأثرة بالبرنامج بشكل مباشر حيث يخشى الكثيرون من عودة شكل أقرب ما يكون إلى الاستعمار.

ولا شك أن الكثيرين يرحبون بمساعدات البنية التحتية التي تمولها الصين، ولكن الأمر ينطوي أيضًا على خطر أن تنجذب الدول المتلقية للمساعدات إلى فلك السيطرة الصينية شبه الإمبريالية. في نفس الوقت يشعر العديد من الخبراء بالقلق أيضاً من مغبّة أن تحوّل الصين اهتماماتها إلى الداخل وتقطع التمويل الاستثماري، إذ أن هذا سيؤدي إلى حالة من الركود سوف تعاني منها الدول المتلقية للمساعدات في ظل ديونها المتراكمة. إلا أنه من المهم عدم التعاطي مع مثل هذه التقييمات باعتبارها أمراً مؤكداً، حيث تتأثر وجهات النظر المتعلقة بالاستثمار الصيني في كثير من الأحيان بالمواقف الشخصية حول التوسع الصيني بشكل عام ولا تستند بالضرورة إلى تحليل عقلاني للحقائق.

وإذا وضعنا جانبا مسألة الهيمنة الصينية، فمن الواضح مع نمو النفوذ الاقتصادي لمنظمة شرق آسيا أن طرق النقل المقترحة في إطار المبادرة الصينية حزام واحد طريق واحد سوف تقدم إمكانات هائلة كموارد دولية مشتركة. كما أن استخدام الطرق البحرية والمجاري المائية الأخرى على نطاق أوسع سيكون أمراً ضرورياً من منظور التغير المناخي، ولعل هذا هو السبب الرئيسي وراء تشجيع الاتحاد الأوروبي لحدوث "تحول نمطي" من هذا النوع. وفي هذا الصدد، ربما تكون عملية تجديد مرافق الميناء في مارسيليا بمثابة نظرة استباقية رائدة لشكل العالم القادم. أما بالحديث عن الوطن، فقد ساهم موقع اليابان الاستراتيجي على أقصر الطرق البحرية بين الصين والولايات المتحدة في ازدياد حجم حركة الملاحة المارة عبر موانئها في السنوات الأخيرة.

إرساء المعايير الدولية في بحار شرق آسيالسنوات عديدة، استمر تصاعد المخاطر الأمنية في منطقة شرق آسيا جنباً إلى جنب مع النمو الاقتصادي. ولذلك فإلى جانب تطوير البنية التحتية الذي تعتبر المنطقة في أمس الحاجة إليه، فإن المنطقة أيضاً تحتاج بشكل عاجل إلى إرساء معايير دولية يتم احترامها على نطاق واسع. من المرجح أن تحدث مواجهات وتسويات بين الصين والدول المجاورة بينما تعمل المنطقة على حل القضايا العالقة مثل كوريا الشمالية والنزاعات الإقليمية والهيمنة البحرية. إن الفوائد الحقيقية طويلة المدى بالنسبة للدول الأصغر في آسيا وفرنسا والصين نفسها، لن تتحقق من خلال نظام تهيمن عليه قوة أحادية، ولكن من خلال إقامة علاقات عادلة ومتساوية واستخدام القواعد المتفق عليها لحل النزاعات وحرية الوصول إلى البنية التحتية الجديدة. لذا فإن الهدف ينبغي أن يكون تحقيق الازدهار المشترك وبناء علاقات الثقة والتعاون.

اليوم، ومع تبني الولايات المتحدة لعقيدة "أمريكا أولاً" والدخول في حرب تجارية مع الصين، فإن النظام الليبرالي الدولي يواجه أزمة خطيرة.

لا تزال اليابان واحدة من الدول القليلة في شرق آسيا التي يمكن القول بأنها تشترك في نفس منظومة القيم مع الغرب. مع السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة حالياً تحت حكم دونالد ترامب وما تسببه من خلافات بين أعضاء المجتمع الدولي، فلا شك أن الوقت قد حان لتعاون وثيق بين الدول الديمقراطية في غرب أوروبا وشرق آسيا من أجل حماية المعايير والحريات الدولية.

ستكون المشاركة الفرنسية مهمة بشكل خاص في هذا الصدد، وبغض النظر عن النتيجة فلا شك أن فرنسا تحتفظ بأرضية في المحيط الهادئ وترغب في لعب دور رائد في الحفاظ على القانون العالمي. وفي هذا الصدد ينبغي على فرنسا أن تسعى إلى بذل كل ما في وسعها للمساعدة في إيجاد قواعد ومعايير جديدة لنظام دولي أكثر استقراراً، واليابان في وضع مثالي يؤهلها للعمل كشريك أساسي في هذا الجهد.

(نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية في 16 أكتوبر/ تشرين الأول، 2018. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: الرئيس ماكرون يستقبل ولي عهد اليابان الأمير ناروهيتو في قصر فرساي في 12 سبتمبر/ أيلول 2018 خلال زيارته لفرنسا لإحياء ذكرى مرور 160 عاماً على بدء علاقات الصداقة بين البلدين. الصورة من جيجي برس)

الصين فرنسا