مؤسس هوندا.. كيف صنع إمبراطوريته من الصفر؟
مجتمع اقتصاد- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
الاندفاع نحو السباق التنافسي
امتلاك شخصية قيادية تجمع بين الحزم واللين
كان جوهر الشخصية القيادية لهوندا سوئيتشيرو يتمثل في قدرته الفريدة على الجمع بين نوعين من القيادة: قيادة تتطلع إلى المستقبل برؤية طموحة لا تعرف حدودًا، وقيادة تهتم بمن خلفها، تغرس فيهم روح الإبداع والاستقلالية. هذا المزيج الاستثنائي هو ما جعله ليس فقط رائدًا في صناعة المركبات، بل أيضًا ملهمًا للأجيال القادمة من المهندسين والقادة.
الشخصية القيادية التي تتطلع إلى المستقبل عند هوندا لم تكن مجرد طموح فارغ، بل كانت وسيلة حقيقية لمواصلة استكشاف الأحلام والإمكانيات غير المحدودة. لم يكن ينظر إلى التحديات كعوائق، بل كفرص للنمو والاكتشاف. حيث رأى في كل قيد حافزًا للابتكار، وفي كل عائق نقطة انطلاق لفكرة جديدة. لم يخشَ الفشل، بل اعتبره جزءًا ضروريًا من رحلة النجاح. لهذا السبب، تبنّى موقفًا حازمًا وحاسمًا في قراراته، لا يتردد في اتخاذ خطوات جريئة حتى لو بدت محفوفة بالمخاطر.
هذا النهج سمح له بخوض تحديات متعددة ومتنوعة. بدأ من إصلاح السيارات، وهو المجال الذي تعلم فيه أساسيات الميكانيكا وفهم تفاصيل الأداء. ثم انتقل إلى إنتاج حلقات الكباسات، وهي خطوة أظهرت شغفه بتحسين كفاءة المحركات. لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل رحلته إلى إنتاج الدراجات النارية، حيث ابتكر تصاميم جديدة جمعت بين الأداء العالي والكفاءة الاقتصادية. وبعد أن رسّخ مكانته في هذا القطاع، دخل عالم سباقات الدراجات النارية، ليختبر منتجاته في أصعب الظروف ويثبت جدارتها.
لكن روحه التواقة للتحدي لم تكتفِ بذلك. قرر دخول قطاع إنتاج السيارات، وهو مجال يتطلب استثمارات ضخمة ومنافسة شرسة، خاصة في اليابان التي كانت تضم شركات راسخة. ومع ذلك، نجح في التميز بفضل رؤيته المختلفة وإصراره على الابتكار. وبعد أن أثبت قدرته في صناعة السيارات، اتخذ خطوة أكثر جرأة بدخول سباقات الفورمولا واحد، وهو أعلى مستوى من سباقات السيارات في العالم. هذه المغامرة لم تكن مجرد محاولة لإثبات الذات، بل كانت تعبيرًا عن فلسفته في تحدي الحدود واستكشاف آفاق جديدة دائمًا.
القيام بالشرح للعمال واضعا أفكاره على الأرض أثناء تطوير سيارة السباق صغيرة الحجم من ”طراز S“. عام 1962، في مركز الأبحاث التقنية في مدينة واكو.
والشخصية القيادية التي تهتم بمن خلفها ليست مجرد شخصية تعطي الأوامر وتنتظر التنفيذ، بل هي شخصية تنظر بعين ”الانتباه، واليقظة، والاهتمام“ إلى أولئك الذين يسيرون خلفها، معتبرةً نجاحهم جزءًا لا يتجزأ من نجاحها. هذا الجانب من القيادة لم يكن مجرد نظرية بالنسبة لهوندا سوإيتشيرو، بل كان جزءًا أصيلًا من سلوكياته اليومية وتصرفاته في العمل.
كان هوندا يعبّر عن هذا الاهتمام العميق من خلال تصرفاته أكثر من كلماته. فعلى الرغم من حِزمه الشديد وصراحته التي قد تصل أحيانًا إلى حد القسوة في التعامل، إلا أن العاملين معه كانوا يشعرون بانجذاب طبيعي نحوه، ويرغبون في السير خلفه بإرادتهم. فقد كان يمتلك القدرة على خلق بيئة عمل مليئة بالتحديات، لكنها في الوقت ذاته مليئة بالدعم والتحفيز، مما جعل العاملين يشعرون أن نجاحهم الشخصي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنجاح الفريق ككل.
لم يكن هوندا شخصًا يقدم التنازلات عندما يتعلق الأمر بالجودة أو الابتكار. كان صارمًا إلى حد أنه لم يتردد في توبيخ العاملين أو حتى استخدام العنف الجسدي في بعض الحالات، وهو أمر قد يبدو متطرفًا في معايير اليوم، لكنه كان يعكس في ذلك الوقت شغفه الشديد والتزامه المطلق بالتميز. ومع ذلك، لم يكن هذا الحزم نابعًا من قسوة القلب، بل من إيمان راسخ بأن النجاح يتطلب انضباطًا شديدًا وروحًا قتالية لا تعرف الاستسلام.
ورغم هذه الصرامة الظاهرة، كان قلب هوندا مليئًا بالدفء والاهتمام بالآخرين. فقد كان يهتم برفاهية موظفيه، ليس فقط على المستوى المهني، بل أيضًا على المستوى الشخصي. كان يستمع لمشاكلهم، يقدم لهم النصائح، ويدعمهم في الأوقات الصعبة. هذا التوازن بين الحزم والاهتمام هو ما جعله قائدًا فريدًا؛ قائدًا استطاع أن يكسب احترام وإخلاص من حوله، حتى في أكثر اللحظات صعوبة.
روح التحدي التي تجعل المستحيل ممكنا
الاهتمام دائما بالأشخاص الذين يقفون في الخلف
لقد كانت فلسفة هوندا القيادية تنبع من فهم عميق للعلاقات بين الأفراد، سواء في بيئة العمل أو في الحياة اليومية. حين قال جملته الشهيرة ”لندخل إلى عقول الناس“، لم يكن يقصد فقط فهم الزبائن من منظور تسويقي تقليدي، بل كان يدعو إلى تبني طريقة تفكير تتجاوز السطحية، وتغوص في أعماق احتياجاتهم الحقيقية. لقد أراد من الباحثين في مركز الأبحاث أن يضعوا أنفسهم مكان الزبائن، لا ليقوموا بمجرد تلبية الطلبات الظاهرة، بل ليستشعروا تلك الرغبات التي لم تُعبّر عنها الكلمات بعد، تلك التي تتشكل في تفاصيل الحياة اليومية والاحتياجات غير المعلنة.
ورغم رفضه لفكرة إجراء أبحاث السوق التقليدية، لم يكن ذلك استهانة بآراء الزبائن، بل كان إيماناً عميقاً بأن الابتكار الحقيقي لا يأتي من تتبع ما هو موجود بالفعل، بل من استباق تطلعات الناس وتقديم ما لم يعرفوا أنهم يحتاجونه بعد. كان يرى أن ”الخبراء في التكنولوجيا“ هم من يصنعون المستقبل، بينما ”الهواة“ يرون الحاضر فقط. ولذلك، اعتقد أن القيادة الحقيقية هي القدرة على خلق منتجات تثري حياة الناس قبل أن يطلبوها.
لكن هذا المفهوم لم يقتصر على علاقته بالزبائن فحسب، بل امتد ليشمل علاقاته بالموظفين والزملاء. ربما أراد من خلال عبارته تلك أن يقول للمدراء: ”ادخلوا إلى عقول مرؤوسيكم“، أي تفهموا احتياجاتهم، آمالهم، وحتى مخاوفهم. فعندما يكون القائد قادراً على استيعاب دوافع فريقه، يصبح قادراً على تحفيزهم بطرق تتجاوز التعليمات والأوامر. وبهذا الشكل، تتولد الشخصية القيادية التي تهتم بمن خلفها بشكل طبيعي، شخصية تبني جسوراً من الثقة والدعم بين القائد وفريقه.
أما قوله ”من الجيد أن تقوم اليد اليمنى بمدح اليد اليسرى أكثر من اللازم“، فهو تجسيد فلسفي عميق لفكرة تقدير الجهود غير المرئية. لقد جسد هوندا هذه الفكرة في حياته اليومية، إذ كان يصنع قطع الغيار ويركبها بنفسه، يعمل بيديه، ويشعر بقيمة كل جزء صغير في منظومة العمل. عند استخدام يده اليمنى، بدا وكأنها هي التي تقوم بكل العمل، لكنها لم تكن لتنجز شيئاً دون دعم اليد اليسرى التي تثبت القطعة وتمنح الاستقرار. هذه اليد اليسرى، التي تعمل في الخفاء وتتحمل الصدمات، ترمز إلى الأشخاص الذين يقفون خلف النجاحات دون أن يراهم أحد.
لقد كان له 48 جرحاً في يده اليسرى، وفقد حوالي خمسة ميليمترات من أطراف اثنين من أصابعه نتيجة خطأ أثناء العمل. كانت تلك الجروح شهادة حية على الجهود الصامتة التي تبذل بعيداً عن الأضواء. لم تكن تلك الإصابات مجرد ندوب جسدية، بل كانت تذكيراً دائماً له بأهمية كل يد خفية، كل موظف يعمل في الظل، وكل جهد غير مرئي يدعم نجاح المؤسسة.
مع العمال في مطعم الشركة في حوالي عام 1960.
رحيل دون تردد تتناقله الأجيال المتعاقبة
قام هوندا سوئيتشيرو بجعل شركة هوندا شركة كبيرة، ولكن كان وراء ذلك مساهمة كبيرة من فوجيساوا تاكيو الذي يجب أن نقول عنه إنه الشريك المؤسس. حيث واجهت هوندا أزمة الإفلاس مرتين تقريبا، وفي كلتا المرتين، تحرك فوجيساوا لمعالجة الأزمة وإنقاذ الشركة. مثل هذا الشريك المقتدر إلى درجة كبيرة أحاط بالشخصية العظيمة لهوندا سوإيتشيرو، واستمر دعم فوجيساوا من الخلف من دون أن تتصدع هذه الشراكة الثنائية حتى النهاية. لإن فوجيساوا كان يعتقد من أعماق قلبه أنه يريد أن يقوم بدعم ذلك العبقري هوندا صوإتشرو في المجالات التي يعمل فيها.
ولكن في سنواته الأخيرة لم يستطع هوندا من امتصاص التقدم التقني في مجال السيارات بشكل كامل، وبالإضافة إلى ذلك، بدأت تظهر شخصية الرجل الواحد كمهندس عبقري، وأخذ يصبح وجوده عائقا بالنسبة لجيل الشباب في الشركة. فقال فوجيساوا الذي لاحظ ذلك إنه سيستقيل. وسرعان ما أخذ هوندا سوإيتشيرو النية الحقيقية لفوجيساوا على محمل الجد وقال ”عندما نستقيل سنستقيل معا“، ليستقيلا معا في عام 1973. وكان المدير الذي خلفه في المنصب هو كاواشيما كيوشي وكان في سن الخامسة والأربعين وهو من الدفعة الأولى للذين التحقوا بشركة هوندا كخريجي جامعات. وهكذا توارثت الأجيال المتعاقبة ”الرحيل دون تردد“، ليكون رحيلا رائعا للقادة، وليصبح تقليدا من تقاليد هوندا، يجعل الجيل الشاب يتولى مناصب إدارية بسرعة.
هوندا سوإيتشيرو وهو في لباس العمل. حوالي عام 1960، في مركز الأبحاث التقنية في مدينة واكو.
(النص الأصلي باللغة اليابانية، صورة العنوان الرئيسي: هوندا سوئيتشيرو مع سيارة هوندا مكلارين MP4/4 التي حصلت على جائزتين في فئة اللاعبين وفئة تصنيع السيارات، وحققت 15 انتصارا في 16 سباقا من سباقات الفورمولا واحد الدولية. عام 1988، في قاعة عرض السيارات في مقر شركة هوندا في حي أوياما في طوكيو. الصور من شركة هوندا موتور المحدودة)