بوشيدو... المبادئ الأخلاقية والروحية اليابانية

ثقافة

 تعبر كلمة ”بوشيدو“ أي ”طريق المحارب“ عن مجموعة القوانين والأخلاقيات التي كان يتبعها محاربي الساموراي. إلا أن بزوغ فجر عصر حكام توكوغاوا الإقطاعيين والذي شهد فترة خالية من الصراعات في اليابان، حول هذه المبادئ الأخلاقية إلى فضائل روحية أثرت بدورها في نهاية المطاف على معيشة عامة الشعب، وحالتهم الاقتصادية، وأخلاقياتهم.

تم نشر الكتاب الشهير (Bushidō: The Soul of Japan) (بوشيدو: روح اليابان) للكاتب والمفكر الياباني (نيتوبي إينازاوا)، باللغة الإنكليزية لأول مرة في نيويورك في عام 1899، وتم ترجمته فيما بعد إلى اللغة اليابانية في عام 1908 من قبل (ساكوراي هيكوإيتشيرو). وفي وقت لاحق، اصدرت دار نشر (إوانامي شووتن) ترجمة المُعلم والخبير الاقتصادي (يانايهارا تاداأو)، والتي أصبحت النص المعتمد القياسي باللغة اليابانية. وقد حظيت أوصاف الكتاب للروح الأخلاقية النبيلة ومقارنته بفروسية الغرب بتقييمات متفاوتة، وانتقد البعض النص باعتباره أكثر من مجرد ادعاء تم ابتداعه كنتيجة للقومية في عصر ميجي الحديث. وفي هذا المقال، نأخذ بعين الاعتبار ماذا كان يعني مصطلح (بوشيدو) بالنسبة للأشخاص الذين كانوا يعيشون في زمن الـ ”بوشي“ أو (المحاربون)، وطبيعته الحقيقية، مع مراعاة منظور الفلسفة الوضعية التاريخية.

المبادئ الأخلاقية والشجاعة على أرض المعركة

لم تكن كلمة ”بوشيدو“ مستخدمة على نطاق واسع في اليابان في العصور الوسطى. ففي تلك الأثناء كان يتم وصف مجموعة الأنشطة الممارسة من قبل الـ ”bushi“ أو (المحاربين) باستخدام مصطلحات مثل (kyūba no michi) (فن رمي السهام من على ظهور الجياد) و (yumiya toru mi no narai) (الأعراف والتقاليد لممارسي فنون رمي السهام). وقد كان أول استخدام لمصطلح ”بوشيدو“ في سجل المآثر العسكرية المعروف باسم (كيوو غونكان)، والذي يعتبر بمثابة ”الكتاب المقدس“ لمدرسة (تاكيدا ريوو) للفنون القتالية. وتتألف الكتابات من عشرين مخطوطة، تم ذكر كلمة ”بوشيدو“ بها أكثر من ثلاثين مرة. وقد عُممت هذه الصيغة المصطلحية على نطاق واسع في فصول تدريب الـ ”بوشي“ كدليل لتعليم الفنون القتالية، الأمر الذي يُعتقد أنه لعب دورًا كبيرًا في انتشار المصطلح.

أما بخصوص بداية ونشأة هذه المبادئ والقوانين، فتقول إحدى النظريات بأن محارب الساموراي (كوساكا دانجو ماسانوبو) أحد التابعين للقائد العسكري (تاكيدا شينغن) هو أول من بدأ بتجميعها بنفسه بعد هزيمتة في (معركة ناغاشينو) في عام 1575، وهناك نظرية أخرى تقول أن (أوباتا كانهيوإيه كاغينأوري)، خادم الساموراي ومعلم الفنون القتالية في مدرسة (تاكيدا ريوو) هو أول من امتثل وانصاع لها في حوالي عام 1615. إلا أن النظرية الأولى تحظى حاليًا بقدر أكبر من المصداقية.

إن مبادئ البوشيدو المذكورة في سجل (كيوو غونكان) متعلقة بشكل كبير بالأعمال والممارسات العسكرية التي تشهدها ساحات المعارك بما تتضمنها من شجاعة باسلة للمحاربين. فعلى سبيل المثال، يذكر سجل (كيوو غونكان) قائلًا: أنه لأمر فيه اهدار للموهبة عندما يتولى أحد ممارسي البوشيدو مهام إدارية في الحكومة أو أحد الأمور المتعلقة بالشؤون المالية، كالتعاملات التجارية في سوق الأرز أو المال أو الأخشاب أو أراضي الغابات، مؤكدًا على أن مبادئ البوشيدو تكمن فقط في كونها بمثابة ”الحربة أو الرمح“ الذي يعين صاحبه على أرض المعركة.

ومع ذلك، شهد التطور اللاحق للبوشيدو زيادة في التركيز على القوة والمعاني الأخلاقية الداخلية لتطغى على الشجاعة الخارجية، حيث جاءت للدلالة على غرس الأخلاق الذاتية للأفراد.

التغييرات التي أحدثتها فترات السلم على مبادئ البوشيدو

كان كتاب العلوم العسكرية (Shoke no hyōjō) الذي يتألف من عشرين مخطوطة، عملاً عن الفنون العسكرية تم تجمعيه من قبل عالم الفنون القتالية (أوجاساوارا ساكوأون) في عام 1621. وفي عام 1658، تم نشره في عشرين مجلدًا. وقد ورد فيه أيضًا ذكر مصطلح ”بوشيدو“، لكنه يصفه من حيث (iji) أي (قوة الإرادة) المطلوبة لعدم الخضوع للثراء أو عظمة النفوذ، وتحث عوضًا عن ذلك على التمسك بالمعتقدات الذاتية التي تهيمن على المبادئ الداخلية للفرد. فهذه القوة، كما ذكرها الكتاب، هي جوهر البوشيدو.

ولقد أصبحت هذه النزعة الفلسفية أكثر وضوحًا في نظرية البوشيدو الموضحة في كتاب (Kashōki) (كاشوكي)، والذي نُشر في عام 1642. ويتألف هذا الكتاب من خمسة مخطوطات في أشكال مقالية. ويعتقد أن هذا العمل الذي يهدف إلى التوجيه الأخلاقي، من تأليف (سايتو شيكاموري)، أحد التابعين السابقين لعشيرة (موغامي) الإقطاعية في منطقة ياماغاتا. ومرة أخرى، يتم ذكر مصطلح ”بوشيدو“ فيه بشكل متكرر. ويعتبر الاقتباس التالي على وجه الخصوص، من المخطوطة الخامسة، بمثابة تعريف مهم ”لطريق المحارب“ من قبل محارب حقيقي

”جوهر مبادئ البوشيدو هو: لا تكذب، لا تكن مخادعًا، لا تكن خنوعًا، لا تكن سطحيًا، لا تكن جشعًا، لا تكن وقحًا، لا تكن متفاخراً، لا تكن متكبرًا، لا تقل بهتانًا، لا تكن خائنًا، وكن على وفاق مع الرفقاء، لا تبالغ في اهتمامك بالأحداث، اهتم بالآخرين، كن متعاطفًا، وليغمرك شعورًا قويًا بالواجب. فكونك محارب ساموراي على خلق يتطلب أكثر من مجرد استعدادك للتضحية بحياتك“.

وعلى وقع هذه الكلمات التي غيرت وأصقلت فعليًا مبادئ البوشيدو، عمت فترة من السلم طويل الأجل خلال حقبة حكام توكوغاوا الإقطاعيين، حيث تمتعت اليابان بفترة تزيد عن مائتي عام خالية من الصراعات المدنية أو النزاعات الخارجية، وهو أمر نادر حتى على مستوى تاريخ الأمم والممالك. ولقد تطورت مبادئ البوشيدو من كونها مكرسة تماما للشجاعة والإقدام على أرض المعركة إلى شيء يرتبط أكثر بالنزاهة الأخلاقية.

ومع استمرار فترات السلم على الأراضي اليابانية، أصبح وجود قوانين ومبادئ البوشيدو موضع تساؤل. فالأمر لم يعد مقتصرًا على المحاربين فحسب، بل شمل أيضًا المسؤولين داخل المنظومة الحكومية للحكام العسكريين (الشوغونات) والإقطاعيين، وبالتالي أصبحوا مكلفين بأداء أدوار جديدة في المجتمع. وبصورة أساسية، أصبحت وظيفتهم منوطة بالمهام المتعلقة بالنظام العام أو الشرطة، مما ساعد على سن القوانين والأنظمة القضائية في البلاد. وبينما كان لهذه الأدوار ملمحًا عسكري، تولى الـ (بوشي) أو المحاربون أيضًا مسؤوليات متعلقة بالوظائف الخدمية الاجتماعية الأخرى: كإصلاح وصيانة البنية التحتية لحركة النقل، والطرق والجسور، ومكافحة الفيضانات وتولي الأعمال المتعلقة بالري، وتطوير الأراضي الزراعية الجديدة وتحسين الأراضي القائمة، وجهود مكافحة الحرائق والكوارث وإعادة الإعمار، وتعزيز الصناعة، وحتى توفير الأدوية والرعاية الطبية. وبالنظر إلى حقيقة أن الفرسان الأوروبيين لم يكن من المتوقع أن يؤدوا مثل هذه المهام، فإن ذلك يعبر عن مدى الفرق الواضح بين مبادئ الفروسية الغربية ومبادئ البوشيدو.

المفاهيم الخاطئة الكبرى التي حامت حول كتاب (هاغاكوري)

أحد أكثر الأعمال شهرة التي تتحدث عن مبادئ البوشيدو هو (Hagakure) أو (هاغاكوري)، من تأليف (ياماموتو تسونيتومو) أحد التابعين السابقين لـ (نابيشيما ميتسوشيغى) حاكم منطقة (ساغا) الإقطاعية. وواحدة من أشهر عبارات الكتاب الذي كُتب في عام 1716 تقول ”طريق المحارب هو الموت“، الأمر الذي ترتب عليه اعتقاد خاطئ بشأن مبادئ ومعانى البوشيدو باعتبارها رمزًا للموت. إلا أن المقصد من العبارة ليس تحريضًا على الموت، بل إنها توضح لنا أنه من خلال وعينا الدائم بحقيقة الموت، فمن الممكن في سبيل تحقيقنا للحريات أن قد يتخطى الأمر مسألة الحياة أوالموت، بمعنى ”كمحارب، لا مجال للفشل، ويمكنك تحقيق كل شيء مهما تتطلب الأمر.“

ويشير الكتاب أيضًا إلى أن ”الولاء الخالص للتابع تجاه سيده يكمن في تحذيره وتوجيهه إلى ما يحفظ به كيان الأمة“. وبشكل أساسي، يُعلمنا الكتاب أن أعلى مراتب التفاني والإخلاص للـ (بوشي) أو المحارب تقتضي بذل الغالي والنفيس لدحض السيد عن أي إقدام نحو الاتجاه الخاطئ، حتى يتسنى الحفاظ على حكم العشيرة وإقطاعياتها بشكل شرعي. ويركز على مبادئ البوشيدو باعتبارها شكل من أشكال التثقيف الشخصي والانضباط الذاتي.

نشر روح المبادئ بين العامة

كانت الأولوية بعد ذلك لنشر روح مبادئ البوشيدو خارج نطاق طبقة المحاربين لتصل إلى عامة الشعب، أملًا في تنشئة التوعية الأخلاقية للأمة. ولقد لعب كتاب (كاشوكي)، المذكور أعلاه، دورًا مهمًا في تحقيق ذلك.

وعلى الرغم من أن الكتاب من تأليف أحد محاربي الـ (بوشي)، إلا أنه لم يكن موجهًا للمحاربين الآخرين، بل كان لعامة الناس. فقد كان مكتوبًا باستخدام رموز أو حروف الكانا بحيث يمكن قراءته من قبل أي شخص حصل على تعليمه الابتدائي في القراءة والكتابة، وهو الأمر الذي كان متوفرًا في المعابد. ويعتقد أيضًا أن الكتاب تمت قراءته من قبل المراهقين والنساء. وهكذا نرى أنه كان يحظى بشعبية كبيرة بين الناس، حيث استمرت قراءته عبر العصور، من خلال العديد من الطبعات.

ومع قرب نهاية القرن السابع عشر، تم نشر كتاب بعنوان (Kokon Bushidō ezukushi) (صور البوشيدو عبر العصور) من إعداد الرسام والمصور (هيشيكاوا مورونوبو) الذي يُعتبر ”مؤسس“ أو صاحب الفضل في شهرة الحركة الفنية التصويرية (أوكييو-إيه) – حركة فنية تصويرية يابانية ظهرت في بداية القرن السابع عشر للميلاد، تقوم على الرسم (الطباعة برسوم بارزة) –. ويصور هذا الكتاب حكايات شعبية بطولية للمحاربين مع وصف بسيط لكل رسم توضيحي. وقد كان أيضا بمثابة كتاب مصور للأطفال. وحقيقة أن عنوان الكتاب يتضمن كلمة ”Bushido“ لهو دليل على أن مفهوم المصطلح قد امتد انتشاره إلى الاستخدام العام.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن المبادئ الأخلاقية التي تم ذكرها في كتاب ”كاشوكي“ ”لا تكذب ، لا تكن جبانًا، تعامل بإخلاص، إلخ“ كانت لها أيضًا تأثيرًا كبيرًا على سلوك العامة. حيث اتضح ذلك بشكلٍ جلي في المعاملات التجارية، الأمر الذي تطور إلى أخلاقيات تركز على الثقة قبل كل شيء في الأنشطة الاقتصادية.

وهكذا نرى أن تأثير مبادئ البوشيدو الأخلاقية انتشرت بشكل كبير لتشمل مختلف مناحي المجتمع الياباني وأفراده.

 (النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة الموضوع: تمثال الفارس (كيكوتشي تاكيميتسو)، القائد العسكري في أواخر حقبة عصر كاماكورا والفترات المبكرة لعصر موروماتشي.  الصور من مكتبة الصور)

إيدو الفنون القتالية الساموراي