مات ليحيا الوطن: قصة البطل الذي ضحى من أجل اليابان

مجتمع

يوشيدا ماساو، الذي قاد جهود مكافحة التسرب الإشعاعي في محطة فوكوشيما دايئتشي بعد زلزال مارس 2011، يُعتبر رمزًا للشجاعة والتضحية. فقد خاض معركة شرسة ضد كارثة نووية تهدد الحياة، حتى وهو يواجه مرض السرطان الذي انتهى به المطاف في التاسع من يوليو من هذا العام. كان يوشيدا شخصية محورية في تلك اللحظات الحرجة، حيث وضع سلامة الآخرين فوق سلامته الشخصية، محاولًا الحد من آثار الكارثة. كتاب كادوتا ريوتشو يقدم تحية لهذا البطل الذي ضحى بحياته من أجل وطنه، من خلال توثيق نضاله وتفانيه. الكتاب، المستند إلى مقابلات مكثفة مع يوشيدا وزملائه، يعكس التحديات التي واجهها والتضحيات التي قدمها في سبيل حماية اليابان من كارثة كانت لتكون أكثر فداحةً لولا جهوده الجبارة.

”وضعتُ يديَّ معًا أمام وجهي لأداء الصلاة للراحة الأبدية للفقيد، وانحنيتُ برأسي إجلالًا وأنا أقول بصوتٍ خافت: ’شكرًا على ما فعلته. أنت تستحق قسطًا من الراحة“ كان ذلك في التاسع من يوليو/تموز، حيث تلقيتُ خبر وفاة يوشيدا ماساو، المدير السابق لمحطة الطاقة النووية فوكوشيما دايئتشي، الذي وافته المنية في الساعة 11:32 ظهرًا، وهو في الثامنة والخمسين من العمر.

في مارس/آذار2011، خاطر يوشيدا بحياته من أجل منع وقوع كارثة كان من الممكن أن تلوث كافة أنحاء منطقة شرق اليابان. لم ينسَ واجبه أبدًا، حيث عمل بكد لتفادي كارثة نووية أسوأ بعشر مرات من حادثة تشيرنوبيل الشهيرة. حقًا، يستحق أن يُطلَق عليه ”الرجل الذي أنقذ اليابان“ أشعر بعظيم الامتنان وأشكره على بطولته، باعتباري واحدًا من الملايين الذين ما زالوا يعيشون ويعملون في منطقة طوكيو بسلام وأمان”.

ضّحى من أجل بلاده

في السابع من فبراير/شباط 2012، أقل من عام بعد وقوع الكارثة، أجرى يوشيدا عملية جراحية لاستئصال سرطان المريء. في البداية، بدت فرص تعافيه جيدة. ومع ذلك، في السادس والعشرين من يوليو/تموز، نقل إلى المستشفى بسبب نزيف دماغي. نجا من تلك الحادثة بعد خضوعه لعمليتي جراحة في الجمجمة وعملية قسطرة. ولكن السرطان كان قد انتشر في جسمه ووصل إلى الكبد، وعندما انتقل إلى الرئتين وأجزاء أخرى من الجسم، شعرت بأن النهاية كانت قريبة.

بصفته مديرًا مسؤولًا عن محطة فوكوشيما دايئتشي خلال أزمة زلزال وتسونامي مارس/آذار 2011، بذل يوشيدا جهودًا كبيرة في ظروف من التوتر لا يمكن تصورها لإنقاذ اليابان من حافة الدمار. مقاومًا لمداخلات مكتب رئيس الوزراء والأوامر غير المعقولة من مكتب رئيس شركة طوكيو للطاقة الكهربائية ”تبيكو“، كان يناضل من أجل السيطرة على التسريبات في عدة مفاعلات. أيا كان السبب المباشر وراء وفاته، يُعتبر يوشيدا ماساو بطلا سقط مضحيًا من أجل وطنه.

قبل أن يُنقل إلى المستشفى في يوليو/تموز 2012، وافق يوشيدا على إجراء مقابلة معي. استمرت مدة الجلسات التي قضيتها معه في النهاية لمدة أربع ساعات ونصف. استمرت محاولاتي لأكثر من عام وثلاثة أشهر، حيث توسطت مع العديد من الأشخاص لإقناعه بالموافقة على الحديث معي.

عند لقائي لأول مرة وجهاً لوجه مع يوشيدا، بدا بقامته الطويلة٫ نحيلًا أكثر مما كان يظهر في وسائل الإعلام. كانت معركته مع المرض واضحة، ومع ذلك، لم يفقد روح الدعابة، وظل وجهه مبتسمًا. نظر إلي بتفاؤل وهو يتحدث بشكل مفصل وعميق حول مجموعة متنوعة من المواضيع. ثم أعرب عن اعتقاده بأن ”الكارثة هي أسوأ بعشر مرات من تشيرنوبيل“، وأنه كان من الممكن أن تكون النتائج أكثر تدميرًا لولا الاستجابة السريعة. أثنى على بطولة فريقه الذين كافحوا بجد لمنع هذه الكارثة، حيث قاموا بضخ مياه البحر لتبريد المفاعلات ودخلوا بشكل متكرر مباني المفاعلات الملوثة بمستويات عالية من الإشعاع.

تحدي الأوامر والرأي العام 

اتصل يوشيدا بسرعة بقوات الدفاع الذاتي، طالبًا إرسال سيارات الإطفاء، في حين وجّه عمالًا قاموا بتشكيل مجموعات لضخ مياه البحر إلى المفاعل. كما تولى يوشيدا شخصيًا عملية التنفيس الطارئة لوعاء الاحتواء في المفاعل رقم واحد، بهدف تخفيف الضغط وتفادي الانفجار. خلال حديثه، وصف المشهد المروع لدخول العمال مرتدين بدلات الإطفاء وأقنعة الأوكسجين مع خزانات هواء على ظهورهم، وهم يخاطرون بحياتهم لفتح فتحات التنفيس حول المفاعل المتضرر.

لم يكن العمال الذين نفذوا تلك العملية الصعبة قادرين على الإشادة بيوشيدا بما يكفي. صرح أحدهم قائلًا: ”أتذكر أنني كنت أفكر أنه بإمكاني مواجهة الموت طالما السيد يوشيدا معنا“، بينما أضاف آخر: ”لو كان المسؤول عن إدارة العملية في ذلك الوقت شخصًا آخر، فإنني أشك في قدرتنا على احتواء الكارثة“. ليس من المألوف أن يخاطر الموظفون المدنيون بحياتهم ما لم تأتي الأوامر من زعيم يحظى بالاحترام. عقب عودة العمال من مهمتهم، أشاد يوشيدا بهم واحدًا تلو الآخر، وصافحهم قائلاً: ’لقد فعلتموها! شكرًا جزيلاً لكم!'”

وقد ازداد ولاء الموظفين عندما رأوا يوشيدا واقفا أمام كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة تيبكو خلال الاجتماعات عبر الهاتف وخاصة عندما قام المدير السابق لتيبكو تاكيكورو ايتشيرو، وهو حلقة الوصل بين الشركة ومكتب رئيس الوزراء، بإعطاء الأوامر ليوشيدا لوقف غمر المفاعل بمياه البحر. وقال: ”يتذمرون في مكتب رئيس الوزراء طوال الوقت من أجل إيقاف ضخ مياه البحر الآن“. لكن يوشيدا عرف أن عملية ضخ المياه كانت أملهم الأخير لتبريد المفاعل وتجنب وقوع كارثة أسوأ من ذلك بكثير. ”ما الذي تتحدث عنه ؟“، أجابه بغضب: ”لا يمكننا التوقف“.

وبعد تحديه لتاكيكورو، توقع يوشيدا أمراً مماثلاً من مقر شركة تيبكو في أي لحظة. ذهب الى كبير العمال الذي كان يشرف على عمليات التبريد واقتاده جانبا.

وقال له: ”اسمع“، ثم أضاف: ”قد نتلقى أوامر جديدة من المكتب الرئيسي لوقف ضخ مياه البحر إلى المفاعل. سأطلب منك أن تتوقف خلال الاجتماع المغلق عبر الهاتف. ولكنه ليس عليك الانصياع لهذه الأوامر. استمر في ضخ المياه . مفهوم؟“

وبالتأكيد، اتصلت تيبكو بعد فترة وجيزة لإعطاء الأوامر لوقف عملية غمر المفاعل بمياه البحر. ولكن بفضل سرعة بداهة يوشيدا، تواصلت عمليات التبريد الحيوية. من بين جميع خبراء الطاقة النووية في تيبكو، كان يوشيدا الشخص الوحيد الذي تذكر الواجب الحقيقي لمهندس الطاقة النووية.

فوكوشيما  و69 رجلاً

في وقت مبكر من صباح يوم 15 مارس/آذار، جلس يوشيدا منهكاً في مركز قيادة الطوارئ في الطابق الثاني من مبنى معزول زلزالياً. وكان الحادث النووي في فوكوشيما دايئتشي في أكثر مراحله حرجاً، مع تزايد الضغط داخل وعاء الاحتواء في المفاعل رقم اثنين. كان يقفز يوشيدا بقلق من كرسيه، ثم يعود إليه مرة أخرى. كان جالساً هناك لبعض الوقت، رأسه محني، ومبحر في التفكير.

 قال لي: ”وعند هذه النقطة، لم يكن هناك سوى طريقة واحدة للتحكم بالتسرب وإبقاءه تحت السيطرة، وكان ذلك من خلال مواصلة ضخ مياه البحر. كان علي أن أقرر من الذي سوف يبقى في المحطة لإبقاء مياه البحر متدفقة. كان القرار مشابها لاختيار من سيموت معي. ظهرت صورة وجوه زملائي في الفريق أمامي واحداً تلو الآخر . . . . وكان أول من جاء في ذهني المشرف على سلامة المفاعل وفريق الإصلاح. نحن في نفس العمر، على الرغم من أنه انضم لشركة تيبكو مباشرة بعد المدرسة الثانوية. خضنا الكثير معاً على مر السنين. كنت أعرف على الفور أنه سيكون مستعداً للمخاطرة بحياته لفعل ما يلزم“.

”لم أستطع التفكير بأن هؤلاء الناس الذين عرفتهم لسنوات قد يموتون انصياعاً لأوامري. لكنني كنت على يقين أن أملنا الوحيد هو الاستمرار في ضخ المياه. لم يكن لدي أي خيار. طلبت منهم الاستعداد للأسوأ. لم أتمكن من التخلص من هذه الأفكار وأنا جالس هناك“.

لقد كان قراراً حاسماً. وفي النهاية، بقي 69 رجلاً لخوض هذه المعركة الحرجة، على الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية أطلقت عليها لاحقا اسم ”فوكوشيما 50“. عزم الجميع على القيام بكل ما يتطلب لاحتواء الكارثة. فمن خلال رفض قبول الهزيمة والمثابرة في مواجهة مخاطر شخصية كبيرة، منع يوشيدا وفريقه كارثة يمكن أن تكون قد دمرت فوكوشيما وحولت ثلث اليابان إلى مكان غير صالح للسكن.

تدابير مقتصرة ضد التسونامي

لقد صدمت عندما بدأت وسائل الإعلام المناهضة للطاقة النووية انتقاد يوشيدا بعد وفاته. زعموا أنه أعاق تدابير كان من شأنها أن تحمي المحطة بشكل أفضل ضد أمواج تسونامي، والحقيقة هي عكس ذلك تماماً.

ففي أبريل/ نيسان 2007، تم تعيين يوشيدا رئيساً لقسم إدارة المواد النووية في تيبكو ومنذ ذلك الوقت، استمر في التركيز على خطورة حدوث أمواج مد عاتية. وخلصت لجنة تقييم التسونامي الفرعية التابعة للجمعية اليابانية للمهندسين المدنيين أنه لا يوجد خطر من حدوث تسونامي قبالة سواحل فوكوشيما، وحتى مجلس إدارة الكوارث في الحكومة (برئاسة رئيس الوزراء) استبعد منطقة فوكوشيما الساحلية من التدابير والتخطيطات لمواجهة الكوارث الخاصة. وعلى الرغم من هذا، أمر يوشيدا المحللين بحساب الحد الأقصى لارتفاع أمواج التسونامي في المنطقة على أساس زلزال بعيدا عن الشاطئ على نطاق مماثل لزلزال ميجي سانريكو قبالة سواحل محافظة إيواتي في عام 1896. حيث أثار ذلك الزلزال أمواج تسونامي أودت بحياة حوالي (22000) شخص. وعندما أظهرت نتائج التحليلات أن الحد الأقصى لارتفاع الأمواج قد يصل إلى 15.7 متراً، قدم يوشيدا طلباً رسمياً إلى الجمعية اليابانية للمهندسين المدنيين لإجراء تقييم لأخطار التسونامي استنادا إلى مصدر الحدث قبالة سواحل فوكوشيما.

هذا وتعود أبحاث يوشيدا في تاريخ الزلازل للمنطقة إلى أبعد من ذلك. فقد أدار عملية تحليل ترسيبات رملية لحساب ارتفاع موجات المد الناجمة عن زلزال جوغان سانريكو الذي وقع في عام 1968. وخلصت الدراسة إلى أن ارتفاع أمواج التسونامي بلغ أربعة أمتار.

ولكن تصميم وبناء جدار بحري قادر على حماية محطة لتوليد الكهرباء من كارثة افتراضية ليست شيئا يحدث بين عشية وضحاها. حيث كان الإجماع على أن مثل هذا التسونامي الضخم بعيد الاحتمال. وحذر بعض الخبراء من أن جدارا بحريا لن يكون كافيا لتخطيط مكافحة المخاطر حتى لو ضربت أمواج التسونامي: فإذا ضربت موجة كبيرة الجدار بزاوية مائلة فقد ترتد الى مستوطنات مجاورة، وتلحق أضرار واسعة النطاق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أي خطط لبناء جدار بحري ضخم تتطّلبُ أولا إجراء عملية تقييم بيئي لتحديد مدى الآثار التي ستترتب على البيئة البحرية وعلى الصناعة السمكية المحلية.

وبالفعل لم يتقاعس يوشيدا عن اتخاذ تدابير ضد التسونامي، فقد عمل أكثر من أي شخص آخر في هذه الصدد على جمع البيانات اللازمة لإقناع المجتمعات المحلية حول الحاجة إلى اتخاذ تدابير وقائية أقوى في فوكوشيما دايئتشي.

ولكن قبل أن تؤتي جهوده ثمارها وأُكُلُها، وقعت الكارثة. وكان الزلزال الذي وقع قبالة الساحل الشمالي الشرقي لليابان في 11 مارس/آذار 2011 على نطاق أبعد من أي شيء تنبأت به الجمعيات العلمية الكبرى أو المؤسسات البحثية. حيث أطلقت الكارثة 358 أضعاف الطاقة التي انبعثت عقب زلزال كوبي عام 1995 كما سببت موجات مد عاتية. لقد خاطر يوشيدا بحياته في معركته وملحمته البطولية لاحتواء هذه الحادثة.

وكفريق واحد تحت قيادة يوشيدا الملهمة، دخل العمال إلى غرف المفاعل عالية الإشعاع في المحطة مراراً وتكراراً. وبهذا، تفادوا وقوع كارثة ذات أبعاد لا يمكن لأحَدٍ تصورها. وهُنا يجب أن يشعر الشعب الياباني بعميق الامتنان لأن العناية الالهية وضعت يوشيدا ماساو في مكان الكارثة بعد ظهر ذلك اليوم المشؤوم. ولربما من دونه، لكانت العواقب أسوأ بكثير.

( المقالة الأصلية باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية، 14 أغسطس /آب 2013، صورة العنوان يوشيدا ماساو، مدير محطة فوكوشيما دايئيتشي للطاقة النووية، وهو يجيب على أسئلة الصحافيين في مركز التحكم في حالات الطوارئ في المحطة. الصورة مقدمة من يوميوري شيمبون وAFLO)

 

 

تسونامي فوكوشيما الكوارث