منغوليا واليابان: ما وراء السياسة والسلطة؟

سياسة

بالنسبة لبلد لَحِظته بالكاد شاشة الرادار اليابانية قبل نحو ٢٥ عاماً، أصبحت منغوليا تحظى في الآونة الأخيرة بالكثير من الاهتمام. ليس فقط باعتبارها مسقط رأس أبطال وحاملي ألقاب مصارعة السومو الثلاث فحسب بل أيضاً باعتبارها الوسيط في تحقيق انفراج محتمل في العلاقات بين اليابان وكوريا الشمالية. وفي هذا المقال يضع المؤرخ أوكا هيروكي العلاقة المتطورة بين منغوليا واليابان في منظور تاريخي يستحق التأمل بعمق.

قد يبدو المغول لسبب أو لآخر قادرين دوماً على مباغتة اليابانيين على حين غرة. فمن وجهة النظر اليابانية، لم يكن للغزو المغولي في القرن الثالث عشر أن يتحقق ويأتي من فراغ، وذلك تماماً مثل ”غزو“ مصارعي السومو الموهوبين من منغوليا لليابان في الآونة الأخيرة. وقد تفاجأ العديد هنا بنفس القدر عندما علموا أن منغوليا تدخلت كوسيط بين طوكيو وبيونغ يانغ بشأن اختطاف مواطنين يابانيين على يد عملاء من كوريا الشمالية في سبعينات وثمانينات .القرن الماضي فقد كان ظهور منغوليا كوسيط محتمل في شرق آسيا هو أحد الأسباب التي دفعت الحكومة اليابانية لإعطاء المزيد من الأهمية للعلاقات الثنائية. لكن هذا الدافع وراء تلك العلاقة التي تطورت بسرعة قد لا ينبع من قيمة منغوليا المحتملة بالنسبة لليابان بقدر ما هو نابع من قيمة ما تعنيه اليابان بالنسبة لمنغوليا.

الأمن القومي هو بالتعريف مسألة بقاء وهو الشغل الشاغل لكل دولة .وأماّ بالنسبة لمنغوليا، فقد كان السؤال الأساسي يدور دائما حول كيفية البقاء كبلد صغير فقير الموارد (عدد السكان الحالي ٢،٧ مليون) ويقع بين عملاقين قويين وهما الصين وروسيا. سيما وأنه منذ إعلان منغوليا الخارجية استقلالها عن الصين قبل أكثر من ١٠٠ عام، كان المغول يعتمدون بشكل حصري تقريباً على استراتيجية أساسية واحدة ترتكز على الاستفادة من التنافس القائم بين القوى الإقليمية لصالحهم. وفي إحدى المرات، كانت اليابان واحدة من اللاعبين الرئيسيين في تلك الدراما الإقليمية، حيث أخذت تتنافس مباشرة مع الصين وروسيا من أجل السيطرة على المنطقة التي تشمل منغوليا الحديثة. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، ومن ثم انهيار الاتحاد السوفيتي. فكيف تكيفت منغوليا مع هذه الأحداث ؟! وأين هي اليابان في استراتيجية أمنها اليوم؟

لمحة عامة: منغوليا بين قوتين

بدأت استراتيجية البقاء الأساسية للمغول تظهر في وقت مبكر منذ عام ١٩١١ وذلك عندما استفادت منغوليا من ثورة ”شين هاي“ الصينية لتعلن استقلالها تحت زعامة ”بوجد جيغين خان“، رئيس الطائفة البوذية التيبتية في منغوليا، مستفيدة من طموحات روسيا القيصرية الإمبريالية. وقد ضمنت حكومة ”بوجد جيغين خان“ آنذاك وعداً بتلقي المساعدات الروسية مقابل منح الجانب الروسي امتيازاتٍ تجاريةً في اطار معاهدة ثنائية وقعت عام ١٩١٢. وبعد الثورة الروسية عام ١٩١٧، احتلت منغوليا من قبل القوات الصينية التي كانت تسعى لاستعادة الأراضي المفقودة وقوات الحرس الأبيض الروسي التي كانت تحارب البلاشفه. كما ضَمِنَ حزب الشعب المنغولي المشكل حديثا في تلك الفترة دعم الحكومة السوفيتية، وفي عام ١٩٢١ هزم الجيش الشعبي المنغولي والجيش الأحمر السوفيتي القوات الصينية وقوات الحرس الأبيض الروسي. وفي شهر يوليو/تموز عام ١٩٢١، تم تأسيس دولة اشتراكية بصلاحيات محدودة ترأسها ”بوجد جيغين خان“. وإثر وفاته عام ١٩٢٤، تم تغيير اسم البلاد إلى جمهورية منغوليا الشعبية من قبل خورال الأعظم (المجلس الوطني) وأصبحت منغوليا دولة تابعة للاتحاد السوفيتي. ثم اعترف جمهورية الصين بجمهورية منغوليا الشعبية كدولةٍ مستقلة عام ١٩٤٦ وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية. إثر هزيمة حزب الكومينتانغ وولادة جمهورية الصين الشعبية عام ١٩٤٩، تَبِعَ ذلك ما عٌرف بشهر عسل قصير بين بكين وموسكو، وكانت النتيجة ارتباط منغوليا بعلاقات ودية مع الصين خلال فترة الخمسينات. الاّ ان العلاقة بين الصين ومنغوليا تردت بسبب تزايد حدة التوتر بين العملاقين الشيوعيين. ثم اكتسبت جمهورية منغوليا الشعبية بطاقة الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة كدولة مستقلة عام ١٩٦١، على الرغم من أنها ظلت دولة تابعة للاتحاد السوفيتي حتى عام ١٩٩٠.

تكلفة باهظة من الحماية الروسية

 تمتع المغول بقدر من النجاح ظاهرياً في محاولاتهم لاستخدام التنافس بين القوى العظمى لتعزيز قضية الاستقلال، ولكن تكاليف هذه الاستراتيجية كانت باهظة. حيث جرى بين عامي ١٩٠٧ و ١٩١٧ توقيع روسيا واليابان على أربع اتفاقيات سرية حدت من مجالات النفوذ الروسية واليابانية في شرق آسيا. وكجزء من هذه العملية، اعترفت روسيا بمصالح اليابان الخاصة في منطقة منغوليا الداخلية مقابل وعد طوكيو المتمثل في احترام المصالح الروسية في منغوليا الخارجية وهي التسمية الصينية للأراضي الصينية المأهولة بالمغول والواقعة في أقصى شمال صحراء غوبي. ولم تكن روسيا حينئذٍ، والتي أمّنت على مصالحها الاقتصادية الخاصة في منغوليا الخارجية، لتجني الكثير من استقلال منغوليا. ولتجنب الصراع مع الصين واليابان حتى أثناء تعزيز مصالحها في منغوليا الخارجية، رفضت روسيا دعم توحيد منغوليا الداخلية والخارجية، وأجبرت منغوليا الخارجية للاعتراف بالهيمنة الصينية. وقد استمرت هذه السياسة في ظل الحكومة السوفيتية في وقت مبكر. فبعد أن ساعد السوفييت منغوليا لإخراج الصين، استخدم الاتحاد السوفيتي الحزب الثوري الشعبي المنغولي (كما تم تسميته في عام ١٩٢٤) لتصدير ثورتها الشيوعية. في فترة الثلاثينات، كما أسفرت عمليات التطهير الستالينية التي نفذت تحت دكتاتورية الحزب الواحد في منغوليا والتي سيطرت عليها موسكو عن إعدام عشرات الآلاف، الكثير منهم بتهمة التجسس لصالح اليابانيين.

تكلفة الدعم الياباني

أما ّفي منغوليا الداخلية، حيث منطقة الحدود مع الصين التي لم تندمج اندماجاً كاملاً في الإمبراطورية الصينية، فقد حذا الانفصاليون المغول استراتيجية مماثلة عندما سعوا إلى تحويل طموحات إمبراطورية اليابان إلى أهداف منغولية خاصة بهم. في نهاية المطاف، دفعوا هم أيضاً ثمناً باهظاً من أجل الاستقلال الاسمي تحت حماية قوة عظمى. كما أطلق القائد ”بابوجاب“، وهو مواطن من شرق منغوليا الداخلية الذي ترفع إلى منصب القائد العسكري في ظل نظام ”بوجد خان“،  برنامجا جند من خلاله تعاوناً مع اليابان في الكفاح من أجل الحكم الذاتي لمنغوليا الداخلية بعد رفض حكومات روسيا والصين ومنغوليا توحيد منغوليا الداخلية والخارجية في معاهدة كياختا عام ١٩١٥. وكان هذا بداية ما أصبح يعرف باسم حركة استقلال منغوليا الثانية. وخلال عام ١٩٢٥، وفي إطار الجبهة المتحدة الأولى لحزب الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني، أطلق الانفصاليون في منطقة منغوليا الداخلية حركة تمرد بدعم من الكومنترن وجمهورية منغوليا الشعبية. وبالرغم من الادعاء بأن التمرد هو ثورة، فقد كان التمرد موجهاً إلى تقرير المصير العرقي أكثر من تحقيق التحول الاجتماعي. فعندما غزا جيش كوانتونغ التابع لليابان شمال شرق الصين عام ١٩٣١ في سلسلة من الأحداث عُرِفَت بأحداث منشوريا، تحالف بعض من المتمردين من منغوليا الداخلية مع اليابانيين ضد الجيش الصيني. مرة أخرى، وكان الهدف هو تسخير الطاقة اليابانية للحصول على الاستقلال المنغولي. كما كان آنذاك أيضاً الأمير ”ديمشوغ دونغراب“ المنغولي الداخلي الذي اشتهر من خلال جهوده لتأمين الاستقلال من خلال التعاون مع اليابانيين، والذي يعتبره معظم المؤرخين بمثابة دمية في يد الإمبراطورية اليابانية. وأُقيمت دولة مانشوكو (دمية يابانية)، التي تأسست في منشوريا عام ١٩٣٢ وشملت القسم الشرقي من منغوليا الداخلية، هي منطقة سماها اليابانيون شينغ أن - محافظة المغول ذات الحكم الذاتي. أعلن الأمير ”ديمشوغ دونغراب“ عام ١٩٣٦، وبدعم من مانشوكو واليابان استقلال الأراضي المغولية المتبقية إلى الغرب، حيث تسلم قيادة الحكومة المستقلة المتحدة مينجيانغ. وللأسف، لم تكن مينجيانغ مستقلة أبدا ناهيك عن كونها كانت تتمتع بحكمٍ ذاتي، وحتى الحكم الذاتي المحدود الذي تمتعت به انتهى مع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. فبعد انتهاء الحرب مباشرة، حاول القادة الإقليميون توحيدها مع منغوليا الخارجية، ولكن تبددت آمالهم بسرعة. وحتى أثناء إعلان منغوليا الداخلية منطقة حكم ذاتي، أطلقت الحكومة الصينية حملاتِ  قمع وحشية ضد قادة الحركة الانفصالية. وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه المغول لمساعدة القوى الكبرى مثل روسيا واليابان،  لكن يمكن القول أن جهودهم أثمرت في نهاية المطاف بظهور دولة المغول المستقلة، حيث أعيدت تسميتها منغوليا الحالية عام ١٩٩٢، وذلك بعد تخليها عن النموذج السوفيتي واعتماد نظام رئاسي متعدد الأحزاب ونظراً لهذه الإنجازات، تواصل كتب التاريخ في منغوليا اعتبار زعماء الحركة الانفصالية المغولية، الذين ظهروا في وقت مبكر، كأبطال وطنيين. ومن بين أولئك الذين ما زالوا مكرمين ”خورلوجين شويبالسان“ الذي أشرف على قتل الآلاف من المواطنين المنغوليين في عمليات التطهير من فترة الثلاثينات والأربعينات. وحتى يومنا هذا يحرس تمثال شويبالسان مدخل الجامعة الوطنية في منغوليا في أولان باتور، في مكان ليس بعيداً عن المكتبة الوطنية، حيث نصب تمثال ستالين حتى أطيح به نهائياً عام ١٩٩٠.

تسلسل زمني موجز لمنغوليا الحديثة

١٩١١ ثورة شين هاي تطيح بسلالة تشينغ وانفصال منغوليا (الخارجية) عن الصين، تأسيس حكومة تتمتع بالحكم الذاتي
١٩١٩ تخلي الحكومة المنغولية عن الحكم الذاتي واحتلالها من قبل القوات الصينية
يوليو/تموز ١٩٢١ تأسيس الحكومة الشعبية في منغوليا الخارجية ترأسها العاهل البوذي بوجد خان، وإعلان الاستقلال (الثورة المنغولية)
نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٢٤ مقتل ”بوجد خان“، وإعلان منغوليا جمهورية شعبية
١٩٦١ الاعتراف بجمهورية منغوليا الشعبية في الأمم المتحدة
فبراير/شباط ١٩٧٢ إقامة علاقات دبلوماسية بين منغوليا واليابان
مارس/آذار ١٩٩٠ وضع نظام التعددية الحزبية، إلغاء الاشتراكية
فبراير/شباط ١٩٩٢ دخول الدستور حيز التنفيذ، وتغيير الاسم من جمهورية منغوليا الشعبية لمنغوليا
المصدر: وزارة الخارجية، اليابان.

وفي غنى عن القول أن الظروف الجيوسياسية الأساسية للوجود المنغولي لم تتغير فمنغوليا لا تزال دولة صغيرة تقع بين العملاقين روسيا والصين. وهي تتمتع اليوم بعلاقات ودية مع الصين وكذلك روسيا كما تنتهج دبلوماسية شاملة في كل الاتجاهات، لكنها تبحث عن شركاء أقوياء آخرين لتعزيز وضعها الأمني. ولعل اكبر المرشحين لهذا الدور هما الولايات المتحدة واليابان. ففي محادثة جرت مؤخرا مع المؤلف، لخص عضو في الأكاديمية المنغولية للعلوم الوضع على النحو التالي: ”تتطلع منغوليا إلى بلدين اثنين وهما الولايات المتحدة للأمن العسكري واليابان للأمن الاقتصادي“. و بالطبع ففي عالم ما بعد الإمبريالية بهذه الأيام، تحتاج منغوليا لتقديم حوافز جديدة للتعاون من خلال تسليط الضوء على أصولها الفريدة من نوعها. وربما كان الشيء الذي تم التطرق إليه مرارا وتكرارا في المناقشات التي أجريتها مع مثقفين منغوليين هو توسط منغوليا بشكل فريد من نوعه بين اليابان وروسيا، نظرا للعلاقة الطويلة مع روسيا وفهمها للشخصية الروسية. وإذا ما طبقنا نفس المنطق تجاه كوريا الشمالية، فَسوفَ نبدأ في فهم كيف أصبحت منغوليا تلعب دور الوسيط في المحادثات التي جرت مؤخرا بين طوكيو وبيونغ يانغ بشأن قضية الاختطاف. وجدير بالذكر أنه في الماضي، عندما تحول المغول إلى اليابان في سعيهم من أجل الاستقلال أو الحكم الذاتي، كان هناك دائما عدم تطابق بين توقعات البلدين من بعضهما البعض. بالنسبة لليابانيين، كانت منغوليا بلداً غيرَ قادرٍ على العمل باستقلالية، وكان استقلال منغوليا أمرا زائف، حيث اعتبر أنه نتاج المكائد الروسية/السوفيتية ذات المصلحة الذاتية. وبالتالي فإن اليابان، بناءً على ذلك، عاملت منغوليا كأداة لتقدم مصالحها الخاصة. لكنّ بعد فترة من اللامبالاة، بدأ اليابانيون بالنظر إلى منغوليا وقيمتها المحتملة الفريدة باعتبارها العون الوسيط القادر على حل النزاعات مع كوريا الشمالية ودول أخرى في المنطقة، ناهيك عن وجود مورد للغاز الطبيعي وغيره من الموارد. والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان بإمكان البلدين إدراك وتقدير هذا النوع من القيم المشتركة التي تعتبر أعمق من المصالح الذاتية.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية بتاريخ ١٣ مايو/أيار ٢٠١٤، الترجمة من الإنكليزية. الصورة في أعلي الصفحة: رئيس الوزراء شينزو آبي يقَدِّمُ يافطةً كرتونية ممهورةَ ببصَمات مصارع السومو المنغولي ”هاكوهو“ إلى رئيس منغوليا ”تساخيا البجدورج“ في العاصمة المنغولية ”أولان باتور“ بتاريخ ٣٠ مارس/آذار ٢٠١٣، الصورة مقدمة من جيجي برس.)

الصين كوريا الشمالية منغوليا روسيا