اليابان بين مبدأ السلام والتعاون الدولي

سياسة

شارك الكاتب بصفته عضو اللجنة الإستشارية لدراسة التشريعات الأمنية في وضع المقترحات الخاصة بالسياسة الأمنية التى تتضمن ممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي

عُقِدت جلسة مباحثات غير رسمية بمقر رئاسة الوزراء بعد ظهر يوم ١٥ مايو/أيار من العام الجاري للبحث بما يتعلق بإعادة صياغة الأسس القانونية الخاصة بالأمن وخلال الجلسة تسلم رئيس الوزراء شينزو آبي تقريراً من ياناي شونجي رئيس اللجنة الاستشارية المعنية بدراسة الأمر. ويُعَّدُ هذا الامر حَدَثَاً بارزاً من الناحية التاريخية لعدة أسباب: أولها أن صياغة التقرير النهائي للجنة الخبراء جاء بعد مرور سبع سنوات كاملة على تأسيسها في أبريل/نيسان عام ٢٠٠٧ إبان الولاية الأولى من رئاسة آبي لمجلس الوزراء. وثانيها : بخصوص الحظر الشامل لجميع أنشطة الدفاع الذاتي الجماعي الذي تفرضه تفسيرات ديوان التشريع التابع لمجلس الوزراء حيث أوصت اللجنة الاستشارية في تقريرها السماح بممارسة محدودة لحق الدفاع الذاتي الجماعي. وإذا ما تم العمل بهذه التوصيات فإن العلاقات الدولية اليابانية ستشهد تطوراً كبيراً فيما يخص مجال الأمن.

وقد تشرفت بالانضمام إلى لجنة الخبراء بعد إعادة إنعقادها في سبتمبر/أيلول ٢٠١٣ إبان الولاية الثانية من رئاسة شينزو آبي لمجلس الوزراء. وبما أني متخصص في السياسة الأمنية وأحد المسئولين عن ملف العلاقات الدبلوماسية البريطانية فإنني أدرك جيداً ضرورة إعادة هيكلة التشريعات المتعلقة بالسياسة الأمنية لليابان لتصبح أكثر مواءمة مما هي عليه الآن. ومن هذا المنطلق فقد تشرفت أيضا المشاركة في أعداد هذا التقرير.

جلسة مباحثات غير رسمية حول أعادة صياغة الأسس القانونية المتعلقة بالأمن رئيس الوزراء آبي (في منتصف الصورة إلى اليسار) يتسلم التقرير من السيد ياناي شونجي رئيس اللجنة ورئيس المحكمة الدولية لقانون البحار (في منتصف الصورة الي اليمين) . وفي أقصي يمين الصورة شينيتشي كاتاأوكا رئيس الجامعة الدولية وفي أقصي اليسار شيهيدي سوجايو كبير أمناء مجلس الوزراء. بعد ظهر الخامس عشر من شهر مايو\أيار، طوكيو، مكتب رئيس الوزراء.

بحث الفراغات التشريعية المتعلقة بمسألة الأمن

في أبريل/نيسان عام ٢٠٠٧ وقبيل انطلاق أعمال لجنة الخبراء وَرَدَ تصريح على لسان آبي كما يلي: ”في خضم التغيرات الكبيرة التي تشهدها البيئة الأمنية المحيطة ببلدنا وإدراكاً مِنِّي بضرورة إعادة هيكلة الأسس القانونية المتعلقة بالأمن لتصبح ذات فاعليةٍ لكي تتناسب مع الوضع الراهن فسوف نجري دراساتٍ تهدف إلى تفسير بعض المواد الدستورية وما تتضمنه من مشكلة حق الدفاع الذاتي الجماعي وذلك ضمن أُطرٍ خاصة ومحددة“ وفي تصريح أخر قبيل إعادة انعقاد اللجنة الاستشارية في فبراير/شباط من عام ٢٠١٣ وذلك إبان الفترة الثانية لرئاسة آبي لمجلس الوزراء جاء ما يلي: ”هناك ضرورة إعادة هيكلة الأسس القانونية المتعلقة بالأمن حتى نستطيع التعاطي مع البيئة الأمنية المحيطة ببلدنا والتي تزداد تأزماً وباستمرار“. وهنا نجد تعبير مشترك بين التصريحين وهو قوله بأن هناك ضرورة لنظم تشريعية جديدة تتناسب مع التغيرات الكبيرة التي تشهدها البيئة الأمنية حول اليابان وجَديرٌ بالذكر أن محور المباحثات كان يدور حول التأكد من عدم وجود خلل في النظام التشريعي أو وجود فراغ قانوني فيما يتعلق بالمسألة الأمنية. أما مشكلة حق الدفاع الذاتي الجماعي فلم تكن هي الموضوع الوحيد المطروح على طاولة الحوار وإنما هي واحدة من عدة نقاط تم بحثها. وإذا إفترضنا وجود خلل في النظام التشريعي أو وجود فراغ قانوني فيما يتعلق بالمسالة الأمنية فلن نستطيع في تلك الحالة الحفاظ على حياة المواطنين ولا على الأمن بشكلٍ كافٍ، فضلاً عن إننا لن نستطيع المساهمة في عملية السلام. وليس من الصحيح القول بأن لجنة الخبراء تهدف فقط إلى إقرار بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي فقد اتسمت المباحثات بنطاق أكثر إتساعاً من ذلك.

التقيد بحق الدفاع الذاتى الفردي و التفسيرات الغريبة للقوانين يعرقلان التعاون الدولي

دعونا إذن نستكشف أهم ملامح المشكلة التى أوجدتها التشريعات القانونية المتعلقة بالأمن الياباني وأعتقد أن المشكلة الكبرى تتلخص في أن ديوان التشريع التابع لمجلس الوزراء التزم بإطار حق الدفاع الذاتي الفردي بشكل مبالغ فيه مما أوجد العديد من المشاكل. والمشكلة الأخرى هي أن تصور ديوان التشريع التابع لمجلس الوزراء لحق الدفاع الذاتي الجماعي هو تصور بعيد تماماً عن مقاييس الفهم المتعارف عليها دولياً. ولعل إن التقيد بحق الدفاع الذاتي الفردي بشكل مبالغ فيه يعنى تقليص مساحة التعاون الدولي. ولكن مع تسارع وتيرة العولمة وتوسع شبكات الإرهاب الدوليه ليتعدى نشاطها حدود الدول كما هو الحال في منظمة القاعدة، بحيث يصبح التعاون الدولي وعلى مجال واسع أمر لا غنى عنه. وكذلك الأمر أيضاً بالنسبة لمكافحة جرائم القرصنة عبر شبكة الإنترنت. سيما وأن التقدم التكنولوجي العسكري وكذلك إنتشار أسلحة الدمار الشامل يجعل من عملية دفاع كل بلد عن أمنه بشكل منفرد أمراً في غاية الصعوبة. وبناءً عليه فإن التعاون الدولي في مجال الأمن أصبح هو التيار السائد بين الدول المتقدمة كما هو عليه الحال في حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وكذلك الإتحاد الأوربي. وبعد انتهاء حقبة الحرب الباردة شهد العالم إنطلاق أنشطة الأمم المتحدة لحفظ السلام كما إزداد التعاون الدولي الإنساني من أجل أمن البشرية وحمايتها. وينبغي على اليابان ألا تتخلف عن العالم في هذا المجال. أما بالنسبة للنظام التشريعي الياباني الحالي والخاص بالأمن فإن عملية تضييق الخناق التي يمارسها ديوان التشريع حول تفسير الدستور تجعل من غير الممكن تجاوز حق الدفاع الذاتي الفردي والإتجاه نحو التعاون الدولي. وهذا أمر يؤدي لخلق العديد من العقبات في الكثير من النواحي. وذلك إضافة إلى مفهوم تكامل القوى العسكرية الذي فاقم بدوره من صعوبة التعاون الدولي بشكل أكثر من أي وقت مضى. وهو مفهوم ظهر للحياة لأول مرة عام ١٩٩٧ من خلال تصريحات أووموري ماساسوكي رئيس ديوان التشريع في هذا الوقت. ويشير هذا المفهوم إلى أنه حتى إذا لم تستخدم اليابان القوة العسكرية من طرفها بشكل مباشر فإن مساندة أي طرف آخر في إستخدام القوة العسكرية يجعل اليابان أيضاً في موضع المستخدم لتلك القوة.

وطبقاً لهذا التفسير الغريب للقانون من قبل ديوان التشريع التابع لمجلس الوزراء فإن اليابان حتى وإن لم تستخدم القوة العسكرية فإن مجرد الدعم اللوجيستى لأي دولة أخرى من عمليات نقل ورعاية طبية وما شابه ذلك يعد في حد ذاته استخداماً للقوة وهوما تُحرّمه التفسيرات الدستورية. وحسب المقاييس الدولية المتعارف عليها فإن هذا يُعدّ بمثابة تفسير غريب للقوانين، وهو أمر تنفرد به اليابان وحدها. فمثلاً بخصوص حالة الطوارىء التي تشهدها شبه الجزيرة الكورية نجد الجيش الأمريكي المتواجد على الأراضي اليابانية يقوم بالتحرك من أجل حماية كوريا الجنوبية وتقوم اليابان بتقديم الدعم اللوجيستي من محروقات ومواد طبية وهو ما يعد أمراً محرماً في الدستور الياباني وفقاً لمفهوم تكامل القوى العسكرية الذي يعتبر هذا العمل بمثابة استخدام للقوة العسكرية. وإني أتسأل كيف يمكن إعتبار تقديم دعم لوجيستي من محروقات ومواد طبية لدولة حليفة مثل الولايات المتحدة أموراً تُفسّرُ على أنها إستخداماً للقوة.

تحول رأي ديوان التشريع مجلس الوزراء من المشاركة في عمليات حفظ السلام مع الاستخدام المقبول للقوة

بسبب هذا التقيد المبالغ فيه في تفسير القوانين من قبل ديوان التشريع، فإن اليابان لا تستطيع أن تتعاون مع حلف شمال الأطلنطي بشكل فعال ولا أن تشترك في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على نطاق واسع ولا أن تقدم الدعم اللوجيستي للتحركات الأمريكية من أجل إنعاش عملية السلام. وهنا لا يسعنى إلا القول بأن تحريم استخدام قوات الدفاع الذاتي الجيش الياباني في أي عمل بخلاف حماية الأراضي اليابانية هو شكل من أشكال الأنانية المفرطة. وبالطبع لم تكن هذه هي المثالية التي كان يصبو إليها الدستور الياباني حيث نجد في مقدمة الدستور عبارة تقول: (لا يصح أن تتمحور كل دولة حول مصالحها الشخصية وتغض الطرف عن مصالح الدول الأخرى). ونجد أيضاً السيد تاناكا كووتاروو رئيس المحكمة العليا في معرض حديثه عن قضية سوناجاوا عام ۱۹٥۹ يقول: (ينبغي علينا أن نحمي بلدنا كما ينبغي أن نتعاون على حماية البلدان الأخرى وعلى كل دولة أن تتحمل واجبها في هذا الصدد). وهذه هي روح التعاون الدولي كما نادي بها الدستور في مقدمته وكما فسره السيد تاناكا.

ومن منطلق روح التعاون التي أقرها الدستور في مقدمته، يتوجب علينا القول بأن النهج الذي سلكته لجنة التشريع التابعة لمجلس الوزراء منذ عام ١٩٨١ من تقييد مُطلق لحدود حق الدفاع الذاتي الفردي هو بمثابة إنحراف عن روح الدستور الأصلي. سيما وأن الدستور الياباني في أصله هو دستورٌ يطمح إلى تحقيق التوافق بين روح السلام وروح التعاون الدولي. في حين أن الالتفات إلى المصلحة الفردية للبلد والتغاضي عن التعاون من أجل الدفاع عن البلدان الأخرى هي مجرد سياسة أمنية تتسم بالأنانية وقد تُعَدُ بمثابة خيانة لروح التعاون الدولي التي نادى بها الدستور في مقدمته. وفي ستينيات القرن الماضي نجد ديوان التشريع التابع لمجس الوزراء يأخذ بمبدأ روح التعاون الدولي ويقر بأن الإشتراك في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هو أمرٌ لا يتعارض مع الدستور. كما كشفت دراسة استندت إلى وثيقة تم الإفصاح عنها مؤخراً من وزارة الخارجية تُفيد بأنّ ديوان التشريع التابع لمجلس الوزراء قد أقر بأن المادة التاسعة من الدستور تحظر إستخدام اليابان لقواتها العسكرية بنفسها بينما تَسمح باستخدامها من قبل الأمم المتحدة بناءً على رغبة الأخيرة وهذا هو أمرٌ خارج نص المادة التاسعة، وبناءً عليه فإن الإشتراك في قوة عسكرية تحت ميثاق الأمم المتحدة هو أمرٌ لا يتعارض مع الدستور الياباني. فإذا ما تم إستيفاء الشروط اللازمة والمنصوص عليها في قرارات الأمم المتحدة يكون الإشتراك في قوات حفظ السلام أمر لا يتعارض مع الدستور. وعلى الرغم من هذا فعندما كانت هناك تحركات داخل الحكومة ترمي إلى إرسال قوات من جيش الدفاع الذاتي الياباني للإشتراك في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فقد اصطدمت تلك التحركات بالأوضاع السياسية وتم إرجاء الموضوع برمته ووضعه على الرف. وهذا ما يعنى الإتجاه نحو التحريم المطلق لإرسال قوات الدفاع الذاتي خارج حدود البلاد والإذعان لرؤية ديوان التشريع التى صدرت عام ۱٩۸۱ والتي تحًرم حق الدفاع الذاتي الجماعي تحًريماً مطلقاً.

الأمة التى تعلي من شأن سيادة القانون تستند إلي نزعة أخلاقية سليمة

يشير التقرير غير الرسمي والخاص بالتشريعات الأمنية إلى مبدأين أساسيين في الدستور وهما مبدأ التعاون الدولي ومبدأ السلام. وهذا ما يُّعد بمثابة محاولة لإحياء روح التعاون الدولي في مجال السياسة الأمنية ايضاً وهي الروح التى كانت متأصلة داخل الحكومة حتى عام ١٩٦٠. وهو ما أكد عليه آبي في عدة مناسبات حيث نجده يستخدم تعبير السلام الإيجابي ليقول ”ينبغي على اليابان من الآن فصاعداً أن تدعم عملية السلام في المجتمع الدولي بشكل أكبر“ لكن هذه الفكرة المكتوبة بوضوح في التقرير قد تم تجاهلها تماماً مقابل تضخيم القلق من تحول اليابان إلي دولة قادرة على خوض الحروب إذا ما تم إقرار مبدأ حق الدفاع الذاتي الجماعي. وذلك على الرغم من أن البند الأول من المادة التاسعة من الدستور الياباني وكذلك البند الرابع من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة يٌحّرِمَان الحرب بشكل قاطع. وإن اليابان دولة تتمسك بالمبادىء الدستورية وتحافظ عليها كما أنها تُعَّلي من شأن سلطة القانون بانصياعها وخضوعها للقانون الدولي، لذلك لا يعقل أن تتخطى اليابان استخدام حق الدفاع الذاتي وتخوض حرباً وهي التي تدعو إليها. سيما وأنّ التضامن الدولي ونظام تشريعي أمني أكثر فاعلية هما أمران مطلوبان من أجل ردع الحرب وتأصيل مبدأ السلام وعند مناقشاتنا للمسألة الأمنية لا يمكننا أيضاً أن نغفل دور النزعة الأخلاقية السليمة. وأتمنى من السادة المعنيين قراءة التقرير الخاص بالتشريعات الأمنية بصدر رحب وأن يتفهموا الأفكار التى دونت فيه كما أتمنى أن يتحلى الشعب الياباني بفهم أعمق بُغية تنسيق تشريعات أمنية سليمة.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية بتاريخ ٢٧ مايو/أيار ٢٠١٤، الصورة في أعلى الصفحة: مقدمة من الأمم المتحدة لإحدى جلسات مجلس الأمن الدولي)

الدستور شينزو آبي حق الدفاع الذاتي الجماعي