لماذا ينتحر الرجال في اليابان؟

مجتمع

بالرغم من تراجع عدد اليابانيين الذين يقدمون على الانتحار فإن تلك المأساة لا تزال تطرح مشكلة اجتماعية خطيرة. يتطلع خبير الصحة النفسية في هذا المقال إلى التعرّف على العوامل الكامنة وراء معدل الانتحار المرتفع في اليابان، ويستكشف التدابير اللازمة للحد بشكل كبير من تلك الأرقام المرتفعة ذات الصفة المُزمنة.

منذ فترة طويلة كانت اليابان إحدى دول العالم التي تعاني من أعلى معدلات الانتحار. ووفقاً لإحصاءات وكالة الشرطة الوطنية، فقد ارتفع عدد اليابانيين الذين اختاروا إنهاء حياتهم بشكل ملحوظ منذ عام ١٩٩٨، بحيث وصل إلى أكثر من ٣٢ ألف شخص ومتجاوزاً بذلك المتوسط السنوي البالغ ٢٢ ألف حالة انتحار على مدى السنوات العشر السابقة. وظل معدل الانتحار يفوق ٣٠ ألف لأكثر من عقد من الزمان، حيث وصل إلى ذروته عام ٢٠٠٣ وبلغ ٣٤ ألف و٤٢٧ حالة قبل أن ينخفض بعدئذٍ إلى أقل من ٢٨ ألف عام ٢٠١٢. وعلى الرغم من أن الأرقام الآن تشير إلى منحنى آخذاً في الهبوط، إلا أن الانتحار يظل أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي للوفاة في البلاد.

وكان الانتحار أكثر حدة بين الرجال ممن هم في الأربعينات والخمسينات من العمر فقد ازدادت الأرقام لهذه الفئات في أعقاب انفجار الفقاعة الاقتصادية في اليابان أواخر التسعينات، وظلت مرتفعة خلال السنوات اللاحقة من فترة النمو الاقتصادي البطيء.

في ربيع العمر

وقد كافح الخبراء لفهم هذا الاتجاه في ضوء البيانات العالمية التي تبين أن الشباب ونظرائهم ممن هم في منتصف العمر هم الأكثر عرضة للتغير الاجتماعي السريع. وفي هذا الصدد يشير الطبيب النفسي أماكاسا تاكاشي إلى ثلاثة عوامل لهذا السلوك غير المألوف.

١.   انهيار نظام التوظيف مدى الحياة في اليابان:كانت معجزة اليابان الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب تعود لحَدٍ كبير إلى جهود الموظفين المخلصين الذين أمضوا حياتهم المهنية في شركة واحدة لكن فترة الركود الاقتصادي التي خيمت بظلالها في التسعينات والمعروفة باسم ”العقد المفقود“ دفعت بالعديد من الشركات إلى تسريح الموظفين للبقاء على الساحة والتخلي عن نظام التوظيف مدى الحياة.

٢.  

إدخال نظام تقييم الأداء:مع تضاؤل أرباح الشركات في التسعينات، قامت الشركات اليابانية بتداول ممارسات الأجور القائمة على نظام الأقدمية التقليدي وذلك عوضاً عن الأخذ بأنظمة التعويضات القائمة على الجدارة والمتعارف عليها في الشركات الغربية. بيد أن هذا الدفع لخفض تكاليف العمالة ترك العديد من الموظفين في حالة شعور بالظلم.

٣.  

تزايد الاعتماد على الموظفين غير الدائمين:  مع ركود الاقتصاد الياباني، تحولت أنشطة الشركات وبشكل متزايد إلى الاعتماد على موظفين غير نظاميين، مثل العاملين بدوام جزئي وعقود مؤقتة، لاستقطاب قوة العمل لديهم. وقد أدّى الضغط من جراء الاضطرار إلى العمل بأجور زهيدة وبأقل قدر من الأمن الوظيفي إلى إحداث تأثير سلبي بالغ خاصة على الصحة الانفعالية لدى الرجال ممن هم في منتصف العمر.

تسليط الضوء على المشكلة

وتجدر الإشارة أن اليابان كانت تعتبر كما هو متعارف عليه بأن الانتحار قضية شخصية. إلا أنه مع ازدياد أعداد الأشخاص الذين يقدمون على الانتحار، أخذت الحكومة اليابانية تعترف بأن تلك المأساة أصبحت قضية اجتماعية. فقد سَنَّت السلطات في عام ١٩٩٦ تشريعات لتعزيز جهود منع الانتحار وبدأت بتنفيذ البرامج في العام التالي. والتي شملت مبادرات لتعزيز الرعاية الصحية النفسية، ومساعدة الأشخاص الذين يعانون من الديون الثقيلة، ودعم أفراد الأسر الباقين على قيد الحياة.

وقد ساعدت هذه الجهود وغيرها على خفض معدل الانتحار في اليابان إلى مستوى كان سائداً قبل عام ١٩٩٨. وبلغ عدد حالات الانتحار عام ٢٠١٥ نحو ٢٤ ألف و٢٠٥ حالة، كما تشير الأرقام الأولية لعام ٢٠١٦ إلى استمرار هذا الاتجاه الآخذ في الهبوط. ومع أن هذا التراجع أمرٌ يبعث على الارتياح، إلا أن الحقيقة تظل تشير إلى احتمالية  موت اليابانيين بالإقدام على الانتحار بمعدل ستة أضعاف من أولئك الذين يلقون حتفهم من جراء حوادث مرور. ولعل هذا هو الأمر الذي يوضح أنه لايزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به لخفض معدل الانتحار المرتفع في اليابان.

حول أسس رعاية الصحة النفسية

يؤكد الخبراء على مبدأين للوقاية من الانتحار يركزان بدورهما على الصحة النفسية إجمالاً.

١. الاعتراف المبكر:حيث إن الانتحار يمكن أن ينبع من مجموعة قضايا، منها المشاكل الاقتصادية، والقضايا الشخصية، والاضطرابات النفسية. وبالتالي فإنّ الخطوة الأولى هي التعرف بسرعة على علامات الإقدام على الانتحار.

٢. الدعم: مما لاشك فيه أن التقلبات المعيشية هي جزء من الحياة، ولكن المهم مساعدة الناس لفهم أنهم ليسوا وحدهم وكذلك من الضروري أيضا السماح لهم بمعرفة أين يمكنهم العثور على منظمات الدعم المناسبة لاحتياجاتهم.

العزلة المفروضة ذاتياً

لربما تكون العزلة كلمة رئيسية للأشخاص المعرضين لخطر الانتحار. فالأفراد الذين يعانون من الاكتئاب أو الاضطراب العقلي يشعرون في كثير من الأحيان بالوحدة، وأنه لا يوجد أحد يفهم ما يمرون به وغالبا ما تدفعهم مشاعر العزلة إلى الانسحاب من أفراد الأسرة والأصدقاء والزملاء وغيرهم ممن قد يكونون قادرين على تقديم الدعم. وهذا الانفصال ينبع من الشعور بعدم القيمة والذنب في الكثير من الأحيان أو بأن العالم سيكون أفضل حالا من دونهم.

إن إدراك هذه العلامات هو أمر جوهري لمنع الانتحار وفي مثل هذه الظروف، يتحتم على الأصدقاء والعائلة وغيرهم أن يعترفوا بسرعة بصرخات الشخص المستترة الطالبة للمساعدة وأن يبذلوا قصارى جهدهم للوصول للشخص وإعادة تأكيدهم لعلاقتهم به.

وحتى في عالم متزايد الترابط، يحجم الناس عن البحث عن المساعدة في معالجة المشاكل المالية والشخصية وغيرها ويعاني الأفراد الأكثر تعرضا لخطر الانتحار عموما مما وصفه أحد الأطباء بأنه ”رؤية النفق النفسي“، حيث ينظرون إلى مشاكلهم على أنها لا يمكن التغلب عليها، وينظرون إلى الانتحار على أنه السبيل الوحيد للخروج.

سيما وانه بالكاد من المستحيل تقريبا على شخص طغت عليه مشاكله التوصل من تلقاء نفسه إلى حل عقلاني. وقد لا يؤدي ذلك التحدث مع الآخرين بأمرٍ بالغ الأهمية إلى إيجاد حل فورا ولكن مناقشة الأمر يساعد على تخفيف الضغط على عقل الفرد ويُمَكِّن المَعنِيين من إعادة تقييم وضعهم بشكل موضوعي.

نحو تدابير وقائية أكبر تأثيراً وأكثر فعاليةً

شجعت التشريعات الحكومية جهود منع الانتحار على الصعيد الوطني وينبغي من الناحية المثالية أن تعمل المنظمات معا لتبادل المعلومات وإدماج نهج جديدة ومتباينة تستند إلى مزيد من هذه الفعالية. ومع ذلك، ظهرت حالات من جماعات تدفع بنُهُجٍ خاصةٍ بها وتُمليها على الآخرين. وعلى نحوٍ لا يمكن فيه تجنب درجات معينة من الاحتكاك عند طرح أي مبادرة جديدة، ولكنني آمل أن تتغلب هذه المجموعات على خلافاتها وأن تركز على المهمة المتاحة.

ويتطلب خفض معدل الانتحار في اليابان بشكل ملحوظ بذل جهود وثيقة ومنسقة من جانب مجموعة كبيرة من الأطراف الفاعلة لذا يجب عليهم أن يجتمعوا حول الهدف المشترك المتمثل في تعزيز الوقاية من الانتحار، مع التركيز على مجالات الخبرة الفردية الخاصة بهم أثناء التعاون النشط مع نظرائهم في مختلف المجالات.

توعية الأطفال حول مُلابسات الانتحار ومآسيه

يُقدم سنوياً في اليابان نحو ٣٠٠ طفل او بالأحرى يافع ممن لم تتجاوز أعمارهم الثامنة عشر على إزهاق أرواحهم بأنفسهم ومع أن الجهود المبذولة لتثقيف الشباب بخصوص الوقاية من الانتحار لا تزال غير كافية. فإنّ هنالك العديد من الطرق المستخدمة خارج البلاد والتي يمكن لصانعي السياسات في اليابان النظر إليها، بما في ذلك برنامج ACT لمنع الانتحار المستخدم في المدارس في العديد من الولايات الأمريكية. وتهدف المبادرة إلى ”الاعتراف“ و ”الرعاية“ و ”إخبار شخص بالغ موثوق به“ بمبدأَي الوقاية من الانتحار المذكورين أعلاه وذلك من خلال تعليم الأطفال والشباب للتعرف على أعراض الاكتئاب والانتحار، وفي الوقت نفسه تشجيعهم على طلب المساعدة.

إن تعليم الأطفال تحديد عوامل الخطر وتحفيزهم للحصول على الدعم عند مواجهة تحديات الحياة هي عادات صحية نفسية إيجابية من شأنها أن تخدمهم حتى مرحلة البلوغ ومن هذا المنطلق، فإن تطبيق تعاليم الوقاية من الانتحار في وقت مبكر ليس أمرا حاسما في حماية حياة الشباب فحسب، بل سيكون ذا فائدة طويلة الأجل أيضا تتمثل في الحد من الانتحار عندما يصلون إلى منتصف العمر.

وغالبا ما يتجه الناس الذين يشعرون بالعزلة إلى الإقدام على الانتحار للهروب من ريبة تكتنف بعضهم في مواجهة العالم وحدهم. لكن الخطوة الأولى للوقاية من الانتحار تكمن في الاقرار بوجود تلك العلامات التحذيرية والوصول إلى من هم في حاجةٍ للمعونة. لذا يجب على اليابان أن تنشئ مجتمعا يتِمّ الاصغاء فيه بعناية لأولئك الذين يصرخون طلبا للمساعدة وأن تسعى جاهدة لمواجهة قضية الانتحار والتغلب عليها بأفضل الطرق والوسائل المتاحة.

(النص الأصلي باللغة اليابانية بتاريخ ١٧ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٦ - الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: سياج في رواق مجمع سكني للوقاية من الانتحار بالقفز - تاكاشيمادايرا، طوكيو- جيجي برس.)

الانتحار الصحة النفسية