عام محوري: اليابان في عام ١٩٩٥

هل تقضي ”أسطورة الأمان“ على اليابان ؟

سياسة اقتصاد علوم تكنولوجيا مجتمع

تعيق أسطورة الأمان المطلق وإنكار وجود المخاطر خاصة تلك المرتبطة بصناعة الطاقة النووية، التحسينات التي تشتد الحاجة إليها في إدارة الأزمات. ومع ذلك كان هناك عددا من التحذيرات في السنوات التي سبقت وقوع كارثة فوكوشيما عام ٢٠١١ اتخذت شكل الحوادث الطفيفة التي كان من المفترض الإصغاء إليها. شملت هذه الأحداث الهزلية إطلاق سفينة موتسو التي تعمل بالطاقة النووية في عام ١٩٧٤ والحريق في مفاعل مونجو النموذجي بسرعة التوليد في عام ١٩٩٥.

انكشاف قضايا إدارة الأزمات في عام ١٩٩٥

في نهاية القرن العشرين كان هناك الكثير من النقاش حول الأزمات الذرية (Atomic) والبيولوجية (Biological) والكيميائية (Chemical) والتي تختصر بـ ABC. أضف الكوارث الطبيعية (Natural Disaster) أو D، إلى القائمة، لتحصل على أزمات الـ ABCD. عانت اليابان كل هذه الأزمات في القرن العشرين. في الواقع، شهدت اليابان جميع الأنواع الأربعة في عام ١٩٩٥ وحده.

أعقب زلزال هانشين - أواجي (D)، الذي ضرب منطقة كانساي في غرب اليابان في يناير/كانون الثاني عام ١٩٩٥، الهجوم على مترو أنفاق طوكيو باستخدام غاز السارين في مارس/آذار، وهذا عملا من أعمال الإرهاب بالأسلحة الكيميائية الحيوية (B ،C) الذي ارتكبته طائفة أوم شينريكيو. وعلى الرغم من أنه حادث طفيف مقارنة مع حادث توكايمورا في عام ١٩٩٩، مما أدى إلى وفاة شخصين، وأزمة ٢٠١١ في محطة فوكوشيما دايتشي للطاقة النووية، كان هناك أيضا حادث ذري (A) في ديسمبر/كانون الأول عندما سبب تسرب الصوديوم في نظام التبريد في اندلاع حريق في مفاعل مونجو للتوليد السريع في محافظة فوكوي.

ونتيجة لذلك، تكشفت المشاكل في إدارة الأزمات على مستوى الدولة في اليابان في عام ١٩٩٥. ولكن للأسف لم يتم إجراء أية تحسينات لاحقة على أساس الدروس المستفادة من تلك السنة.

كارثة فوكوشيما كان يمكن تفاديها !

ما هي بالضبط الدروس المستفادة من عام ١٩٩٥؟ أول شيء هو ملاحظة أنه حتى ذلك الحين، اعتمدت اليابان حكومة وشعبا على أسطورة الأمان المطلقة ولم تضع في الحسبان أبداً مواجهة أسوأ السيناريوهات. وأصبح هذا واضحاً وجلياً بشكل كبير في كل الأزمات. وبطبيعة الحال، فقد تم دق ناقوس الخطر في مختلف الجهات، ولكن المكاتب الحكومية على وجه الخصوص أنشأت أنظمة على أساس افتراضات أسطورة الأمان. فقد كان من المحرمات على الأقل داخلياً وضع هذه الافتراضات الغير واقعية موضع تساؤل.

على الرغم من أن الأزمات المتلاحقة لعام ١٩٩٥ تعارضت تماما مع أسطورة الأمان، لم تكن هناك تحركات لاحقة لبناء نظام لإدارة الأزمة يسمح لاحتمال المخاطر. واصل عدد من القطاعات الاختباء تحت مظلة أسطورة الأمان، رافضا مواجهة الواقع.

وكانت الصناعة النووية أكبر قطاع مسبب للأذى. لو تعلمت هذه الصناعة من الحوادث الماضية وتخلصت من أسطورة الأمان المطلقة، واتخذت تدابير مضادة معقولة، لكان بالإمكان تجنب الأزمة في محطة فوكوشيما دايئتشي للطاقة النووية، والناجمة عن كارثة التسونامي عام ٢٠١١. وهذا ليس كل شيء. لقد تسبب إصرار الصناعة النووية العنادي والمستمر على أسطورة الأمان في رد فعل شديد في الرأي العام ضد الطاقة النووية بعد وقوع الحادث.

تأسيس أسطورة الأمان

بما أن قصف هيروشيما وناغاساكي قد أدى لنفور قوي من أي شيء نووي بين اليابانيين، فقد كانت السياسة النووية الأساسية للحكومة تتمثل أولاً في جعل الاستخدام النووي للأغراض السلمية مقبول من خلال قانون الطاقة الذرية الأساسي لسنة ١٩٥٥ ثم الدفاع عن هذا المبدأ من خلال أسطورة الأمان. لقد تم تضليل المواطنين حتى يعتقدوا أن الطاقة النووية ليست على الإطلاق خطرة، وتم تجاهل أي رأي مخالف لهذا. يمكن للمرء القول إن صناع القرار رفضوا النظر في اتخاذ تدابير السلامة إلى درجة متطرفة تقريبا ووضعوا مسألة إدارة الأزمة النووية كليا خارج حدود النقاش. كان هذا نهجهم الغير علمي. كخبراء إدارة الأزمات، قمنا بتحذيرهم عدة مرات، ولكنهم لم يغيروا موقفهم الأساسي. لهذا السبب، أعتقد أن الإدارات المتعاقبة للحزب الليبرالي تتحمل مسؤولية ثقيلة.

أول مرة تبين فيها للعيان أن الحكومة اليابانية والصناعة النووية لم تكن مستعدة لمواجهة أزمة كانت في عام ١٩٧٤ أثناء الاختبار الفاشل لرحلة سفينة موتسو النووية. في ذلك الوقت كنت رئيس قسم الأمن في وكالة الشرطة الوطنية، لذلك كنت قادراً على مراقبة جميع الاضطرابات من وراء الكواليس.

مهزلة الأرز المسلوق

شن السكان المحليين معارضة استثنائية عندما كانت السفينة النووية على وشك الانطلاق في مرحلتها من مينائها في موتسو، محافظة آوموري. احتجوا بقوة أن التلوث الناجم عنها سيضر بمناطق الصيد الغنية بمحار الإسكالوب بالمنطقة، على الرغم من عدم وجود أدلة علمية لدعم هذا الادعاء. وطغى على المظاهرة الحية أجواء احتفالية، حيث احتسى الصيادون الساكي لدرجة بيعت تقريبا جميع الزجاجات في محال بيع الخمور المحلية. بعدها، علق الصيادون أنفسهم، وهم مخمورون بالكحول، بمرساة سفينة موتسو وذلك بواسطة حبل واصطفوا قواربهم أمام قوس السفينة بحيث لا تستطيع مغادرة الميناء.

مع اقتراب الإعصار أخذت سفينة موتسو الفرصة لاختراق ثغرة في الحصار. حالما أصبحت السفينة في عرض البحر، بدأ القائمون باختبار تفاعل نووي محكم. الوكالة اليابانية لتطوير السفن النووية التي قادت التجربة ووكالة العلوم والتكنولوجيا كانتا تفيضان بالثقة بالنفس. ومع ذلك، أدى عيب في تصميم خاصية الحماية من الإشعاع للمفاعل في تسرب طفيف. الفشل في وقت مبكر شيء قياسي في عالم التطوير التكنولوجي، ولو اعتمد المختبرون بعض السياسات المضادة المعقولة لكان بالإمكان التعامل مع المشكلة. في هذه الحالة، كان كل ما هو مطلوب تغطية التسرب الإشعاعي بواسطة طلاء الرصاص. ولكن المجربون على موتسو افترضوا عدم وجود أي مشاكل فنية، ولم يكونوا على استعداد لأي شيء طارئ.

بينما تجولت موتسو في المحيط حاول المجربون الذين بحثوا عن خيارات أخرى سد التسرب باستخدام البورات، لامتصاص النيوترونات، والذي خلط مع الأرز المسلوق الذي كان من المفترض تناوله كوجبة العشاء! في البداية حاولوا رميها، بما أنه لم يريد أحد الاقتراب من منطقة التسرب. وكما كان متوقعا لم تعمل هذه الطريقة بشكل جيد، لذلك تم اختيار الباحثين من ذوي الرتب المتدنية لمنع التسرب باليد. ويقال إنهم أدوا مراسم الوداع بشرب كوب من الماء في حال لم يبقوا على قيد الحياة. كان الوضع مثيراً للشفقة عند النظر إلى هؤلاء كأشخاص شاركوا في تطوير الطاقة النووية.

الهاتف الذي لم يرن

من الواضح أن المخططين قد أظهروا عدم التبصر في عدم النظر في سيناريوهات أسوأ الحالات. ولكن هذه ليست المشكلة الوحيدة. الثقة المفرطة بالنفس والاعتقاد أن الحوادث كانت مستحيلة عنت أيضا أن موتسو كانت ممتلئة بممثلي وسائل الإعلام، الذين قدموا روايات مفصلة عن الأحداث الهزلية على متن السفينة، محولين القضية إلى سيرك لا لزوم له على الإطلاق.

عندما حدث التسرب الإشعاعي، وكنت في مكتب مورياما كينجي، حينها المدير العام لوكالة العلوم والتكنولوجيا. كانت الاحتجاجات شرسة جدا لدرجة أن وكالة السلامة البحرية لم تكن قادرة على التعامل معها، وكان قد قرر الوزراء المسؤولون إيفاد شرطة مكافحة الشغب في محافظة آوموري وفريق توهوكو للطوارئ الكيميائية ومعالجة الأحداث كمسألة أمنية. ولهذا السبب كنت في مكتب مورياما لتمثيل اللجنة الوطنية للسلامة العامة.

كان هناك حوالي عشرة هواتف على مكتبه، بما في ذلك هاتف أحمر اللون. قال لي، ”ساسّا، هل تعرف ما هو هذا الهاتف؟“ ”لا أعرف“، أجبته. ”هل هو لاستدعاء الإطفاء أو شيء من هذا القبيل؟“. أجاب بالنفي وأضاف، ”هذا يربطنا مباشرة مع كابتن سفينة موتسو. إذا كان هناك أي مشاكل، سوف يأتي التقرير الأول لي. وبعد ذلك يمكننا التفكير في كيفية التعامل مع كل ما هو عليه“. وعندما سألته لاحقا ما حدث مع الخط المباشر، قال إنه لم يرن أبدا. كان الوضع مثيرا للشفقة. وجاءت التقارير الأولى للحادث من الأخبار التلفزيونية، قبل أن تعرف عنها وكالة العلوم والتكنولوجيا والهيئة المشرفة، أو الشرطة.

شراء الصمت

وقد رفضت عودة موتسو إلى ميناء أوميناتو موقع المظاهرات الأصلية. وباتباع الموانئ الأخرى نفس الإجراء، واصلت السفينة الانجراف في البحر، مما أثار اضطرابات بين عمال الشحن والتفريغ والصيادين أينما ذهبت. كمنصب رئيس شعبة الأمن، أتذكر انشغالي فجأة كل مرة حدث ذلك لأنه كان علي إيفاد وحدة للشرطة.

كان الوضع مشين حيث طالبت جميع تعاونيات الصيد بالتعويض. تعامل كانيمارو شين، رئيس المجلس العام للحزب الليبرالي، معها من خلال سياسة المحسوبية الصارخة، ورمي المال في صناعة صيد الأسماك في محاولة لإسكات ذلك. ولكن لم يكن هناك نهاية لمطالب ممثلي الصناعة السمكية. فقد طالبوا بتفكيك موتسو وجميع مرافق الميناء ذات الصلة، بما في ذلك رصيف الميناء المعين، ليتم تدميره وإعادته إلى ما كان عليه من قبل.

على الرغم من هذا الضجة الكبيرة، لم يقم القائمون على الطاقة النووية للحكومة بأي محاولات لتصعيد إدارة الأزمات، مثل استخدام السيارات المجهزة خصيصا لحالات الطوارئ أو إجراء فحوصات عامة للعيوب في جميع المرافق النووية. وهبط ضباب أسطورة الأمان مرة أخرى، لتعتيم أي احتمال وقوع حوادث. وكان ذلك نتيجة حادثة موتسو.

الأشخاص غير مسؤولين؟

واصلت وكالة العلوم والتكنولوجيا الإشراف على تطوير الطاقة النووية، ولكنها كانت غير قادرة على التعامل مع المآسي (jiken) والحوادث (jiko) في المنشآت النووية. لم يكن لديها على أي حال فرق عمل معينة للقيام بذلك. ونظرا لطبيعة الوكالة، فإنه لم يكن لديها مفهوم بشأن ”المأساة“ أو ”الحادث“.

وكان هذا واضحا بشكل واضح بعد حريق ديسمبر/كانون الأول عام ١٩٩٥ في مفاعل مونجو للتوليد السريع، والناجم عن تسرب الصوديوم المنصهر. في مؤتمر صحفي، أثار عضو مجلس وكالة العلوم والتكنولوجيا ضجة عندما تحدث عن ”ظاهرة“ (jishō) في مونجو. ضغط أحد الصحفيين بسؤال، ”ماذا تقصد، ’ظاهرة‘؟“. ”يجب أن يطلق عليه ”مأساة“ أو ’حادث‘.“ واشتبك وكيل الأمين العام ببسالة على هذا السؤال مضيفا: ”يصنف ذلك على أنه ظاهرة تحت قواعد وكالة العلوم والتكنولوجيا. ما يسبب الإصابة أو الوفاة هو مأساة، وإذا كان الجهاز قد انهار أو دمر بحريق، فهذا من شأنه أن يكون حادثا. ولكن يعتبر تسرب الصوديوم واقعة وليس مأساة أو حادث“.

بينما كنت أستمع إلى هذا التفسير، ظللت أفكر بمدى حماقته. بعد فترة وجيزة، قدمت هذه النقطة في الصحف وعلى شاشات التلفزيون بأنه من غير المناسب استخدام كلمة jishō (ظواهر)، التي وضعت حريق الصوديوم في نفس الفئة مع الظواهر الطبيعية مثل العواصف والرعد. كان أقرب إلى القول بأن الأشخاص لم يكونوا مسؤولين. إذا تعاملت القواعد الداخلية لوكالة العلوم والتكنولوجيا في حريق الصوديوم في محطة نووية بنفس طريقة التعامل مع العواصف أو الرعد، فإنه يتوجب على الوكالة تغيير قواعدها.

في وقت لاحق وصلتني رسالة طويلة مكتوبة بخط اليد من وكيل الأمين العام الذي تحدث في المؤتمر الصحفي. وأظهرت الرسالة إصرار غريب في محاولة لتبرير الوصف، حيث سألني الوكيل عما إذا كنت قد قرأت القواعد الداخلية للوكالة وقال على أن الكلمة المستخدمة لا تشوبها شائبة لأنها كانت مكتوبة من هذا القبيل في القواعد.

صوت مشكك وحيد

كانت تاناكا ماكيكو المديرة العامة لوكالة العلوم والتكنولوجيا عندما حدث زلزال هانشين - أواجي أقل من سنة قبل وقوع حادث مونجو. وقد كانت الوحيدة التي دعت إلى التساؤل فيما إذا كانت المحطات النووية حقا مستعدة تماما لتحمل الزلازل واقترحت إجراء عمليات مسح. ولكن خوفا من أن مثل هذه الدراسات قد تثير الشائعات مفادها أن المحطات النووية كانت في الواقع ضعيفة، وبالتالي تأجيج حركة مناهضة للمفاعلات النووية، رددت جميع السلطات المحلية أنه ”لا يوجد هناك أي خطر للتهديد من الزلازل“. وقد أيد مجلس الوزراء هذا الرأي أيضا.

كان ينبغي أن يكون هناك عمليات مسح شاملة للتحقق من الجاهزية ضد الزلازل في محطات الطاقة النووية. لو نفذت بشكل صحيح، لكان هناك فرصة قوية في منع الحادث الذي وقع في محطة الطاقة النووية فوكوشيما دايئتشي في ١١ مارس/آذار ٢٠١١.

(النص الأصلي باللغة اليابانية في ١٤ أبريل/نيسان ٢٠١٥، الترجمة من الإنكليزية.)

اليابان هيروشيما ناغاساكي زلزال هانشين أواجي