الطبيعة البيئية اليابانية الحديثة: نصف قرن ما بين التدهور والتحسن

الحياة البرية من منظور ياباني

ثقافة سياحة وسفر

دراسة الحياة البرية في اليابان بشكل كامل يجب أن تشمل بعين الاعتبار وجهات نظر الشعب الياباني حول الحيوانات. في هذه المقالة، يقوم إيشي هيرويوكي بتدارس المواقف اليابانية تجاه الحيوانات والأصول التاريخية لتلك المواقف.

اليابانيون واللحم

يبدو أن معدلات استهلاك اللحوم ترتبط ارتباطاً مباشراً بمستويات الدخل، حيث تميل للزيادة في البلدان ذات الدخل المرتفع، وإلى الانخفاض في البلدان ذات الدخل المنخفض. لكن تعد اليابان استثناءً لذلك، إذ تحتل المرتبة الثانية عشرة بين البلدان الرئيسية في العالم من حيث نصيب الفرد من اللحوم. الشعب الياباني يأكل فقط ربع كمية اللحوم التي يستهلكها الناس في الولايات المتحدة وتقل نسبة استهلاك اليابانيين للحوم عما تستهلكه شعوب كوريا الجنوبية والصين وماليزيا. وعلى الرغم من المفاهيم الشعبية حول النظام الغذائي الياباني، إلا أن هذا لا يعني أن استهلاك البلاد من المأكولات البحرية مرتفع نسبياً.

وقد ذكر الكاهن الكاثوليكي فرنسيس كسفاريوس (1506-52)، الذي أدخل المسيحية إلى اليابان في منتصف القرن السادس عشر، في تقريره للمقر اليسوعي أن اليابانيين يتمتعون بقوة ملحوظة على الرغم من أنهم كانوا يعيشون على نظام غذائي مكون من الخضراوات والأرز المطبوخ بالشعير فقط، وأحيانا يستكملون وجبتهم بالأسماك والفاكهة. ميازاوا كينجي، وهو شاعر محبوب ونباتي (1896-1933)، كتب في قصيدته الشهيرة " Amenimomakezu "(ترجمتها "قوي في المطر"): "يأكل أربعة غو (وحدة قياس يابانية قديمة تشبه الغرام) من الأرز غير المصقول/ ميسو وخضروات قليلة كل يوم".

وفي عام 2015 كان اليابانيون، رجالا ونساءً يتمتعون بأطول متوسط عمر لأي شخص على مستوى العالم. بينما كان متوسط العمر في عصر إيدو (-1603-1868)، لا يزيد عن حوالي 45 عاماً فقط. لم يتجاوز المتوسط 50 عاماً حتى عام 1947، بعد الحرب العالمية الثانية، مما يشير إلى أن الشعب الياباني لم يكن دائماً من الشعوب المعمرة.

يحرص العالم بأسره على معرفة سر طول عمر الفرد الياباني. الرأي السائد هو أن النظام الغذائي الياباني (بما فيه من توازن دقيق بين كل من الأرز التقليدي والخضروات والمأكولات البحرية جنباً إلى جنب مع الخبز الغربي واللحوم ومنتجات الألبان) له عظيم الأثر فيما يتمتع به اليابانيون من متوسط عمر طويل. كما أن المطبخ الياباني التقليدي، والمعروف باسم واشوكو، يحظى بشعبية كبيرة لما يتمتع به من خصائص صحية، مما دفع اليونسكو إلى اختياره ضمن تراث العالم الثقافي غير المادي. ويعتقد أن هناك ما يصل إلى 89 ألف مطعماً يابانياً حول العالم اليوم.

إن الزيادة في استهلاك اللحوم أسهمت بشكل كبير في رفع متوسط العمر المتوقع في اليابان وذلك إلى جانب إسهامها في زيادة متوسط طول الفرد الياباني. وقد زاد متوسط طول الرجل البالغ من العمر 20 عاما أكثر بمقدار 12 سنتيمتراً منذ عام 1950، وهي زيادة تُعزى إلى ارتفاع معدل استهلاك اللحوم وأساليب الحياة الغربية. ومع ذلك فقد ظل استهلاك اللحوم مستقراً على مدار العقدين الماضيين، في حين عاد استهلاك المأكولات البحرية إلى المستويات التي شهدتها الخمسينيات. وقد يرجع ذلك بشكل جزئي إلى النفور التقليدي المتجذر تجاه قتل الحيوانات وتناول لحومها وإلى نزعة الوعي الصحي التي تميل إلى إبقاء معدل استهلاك اللحوم عند مستويات معتدلة.

وصول سفن صيد الحيتان

شهدت الفترة من 1830 إلى 1850 العصر الذهبي لصيد الحيتان في أمريكا. فمع توسع الاقتصاد الأمريكي، كان هناك طلب متزايد على زيت المصابيح والشموع ومواد التشحيم وغيرها من المنتجات المصنوعة من زيت الحوت، وأصبح صيد الحيتان صناعة رئيسية. عندما استنزفت أعداد الحيتان في المحيط الأطلسي، شقت سفن صيد الحيتان الأمريكية طريقها إلى المحيط الهادي، حيث كانت المخلوقات لا تزال موجودة بوفرة.

في عام 1846، كانت هناك 292 سفينة أمريكية لصيد الحيتان تجوب المحيط الهادئ. وباحتساب زيت الحوت المنتج في عام 1853، فإن الأعداد التقريبية للحيتان التي قتلت في عام واحد تزيد على 3000 حوت. كانت سفن صيد الحيتان الأمريكية تجوب في كل مكان، من البحار القريبة إلى اليابان حتى شمال المحيط الهادي.

تكثر الحكايات حول سفن صيد الحيتان. موبي-ديك، التي نشرها الكاتب الأمريكي هيرمان ملفيل في عام 1851، تحكي قصة خيالية عن كابتن أهاب، الذي فقد ساقه بسبب حوت أبيض كبير في المياه الساحلية قبالة اليابان. وهناك أيضا العديد من القصص حول سفن أمريكية لصيد الحيتان تنقذ البحارة الغرقى، من أكثرها شهرة جون مانجيرو (ناكاهاما مانجيرو).

لقد كان مجيء سفن صيد الحيتان يعني أيضا المزيد من حطام السفن والمتاعب مع السكان المحليين على طول ساحل المحيط الهادي في اليابان. في الأربعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، كانت سفن صيد الحيتان الأمريكية تتوقف في الموانئ اليابانية لإعادة التزود بالماء والطعام، بالإضافة إلى كميات الحطب اللازمة لغلي شحم الحوت واستخراج الزيت. وقد كان البحارة الذين نزلوا من السفن إلى الميناء سبباً في الكثير من حوادث العنف.

الإمساك بحوت العنبر، لوحة تعود إلى عام 1835 بريشة الفنان جون ويليام هيل (معرض الفنون في جامعة ييل).

في نهاية المطاف، أصدرت حكومة الباكوفو مرسوماً يقضي بمنع عبور السفن الأجنبية لدعم سياستها الانعزالية وقامت بالقبض على البحارة العاملين في سفن صيد الحيتان التي كانت ترسوا على الشاطىء، وقد أدى هذا إلى إنتشار شائعات بأن اليابانيين كانوا يعذبون البحارة الغرقى، مما أدى إلى تأجيج مشاعر الكراهية تجاه اليابانيين في الولايات المتحدة.

أول اتفاقية عالمية للحفاظ على الحياة البرية

وفى خضم الطلب المتزايد بين صائدي الحيتان وعامة السكان الأمريكيين بحصول بحارة سفنهم الغارقة على معاملة أفضل، تم إرسال العميد ماثيو كالبرايث بيري من البحرية الأمريكية إلى اليابان للمطالبة بفتح البلد المنعزل. في يوليو/ تمّوز 1853، وصل إلى أوراغا في محافظة كاناغاوا برفقة أربع سفن سوداء وظل هناك حتى تمكن من تقديم رسالة من الرئيس الأمريكي إلى حكومة توكوغاوا يطالب فيها اليابان بفتح شواطئها.

وفي العام التالي عاد بيري للتفاوض على معاهدة السلام والصداقة بين اليابان والولايات المتحدة (اتفاقية كاناغاوا)، التي تم التوقيع عليها في 31 مارس/ آذار 1854. وبعد شهرين تم تعديل المعاهدة لتوضيح شروط الاتفاق بشكل أكثر تفصيلاً.

وقد سمحت المعاهدة للسفن الأمريكية بشراء لوازمها مثل الحطب والغذاء والماء، وفتحت موانئ شيمودا وهاكوداته للسفن الأمريكية مما أدى عملياً إلى إنهاء سنوات العزلة التي عاشتها اليابان. بموجب الثلاث عشرة مادة التي أضيفت لاحقا إلى المعاهدة، تم تحديد النطاق المسموح به فيما يتعلق بحركة الأمريكيين على الأراضي اليابانية، والأماكن التي بإمكانهم السكن فيها خلال إقامتهم في البلد، وحتى تحديد مواقع القبور الخاصة بهم في حالة موتهم أثناء وجودهم في اليابان.

وتجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى المادة 10 من المعاهدة المعدّلة، والتي أُدرجت بناءاً على طلب اليابان وتنص على التزام الأمريكيين باحترام حظر صيد الطيور والحيوانات البرية في اليابان.

يقال إن أول نقاش دولي بشأن حماية الطيور البرية ومصدر العديد من الإتفاقات والمنظمات المعنية بحماية الطيور قد عقد في باريس عام 1895، ولكن المادة المُدرجة في معاهدة السلام والصداقة المعدّلة بين اليابان والولايات المتحدة، قد تكون أقدم اتفاقية رسمية للحفاظ على الحياة البرية في العالم.

الأمريكيون "البرابرة"

صورة داجيرية لإيشيزوكا كانزو وجمهوره في عام 1854 من تصوير إليفاليت براون جي آر (إهداء من المكتبة المركزية لمدينة هاكوداته)

تعود المادة المتعلقة بحظر الصيد إلى الخلفية التالية، حين أبحر بيري قبل حوالي شهر من توقيع المعاهدة مع سفنه السوداء إلى هاكوداته، أحد الموانئ التي كان من المنتظر فتحها أمام السفن الأمريكية. تم تسجيل هذه الزيارة بالتفصيل في أكوكورايشيكي (وصول الأمريكيين)، وهي وثيقة محفوظة في المكتبة المركزية لمدينة هاكوداته. كُتب هذا السجّل بواسطة إيشيزوكا كانزو، الساموراي من ماتسومايئ دومين. قام مصور مرافق لبعثة بيري بالتقاط الصورة الداجيرية لإيشيزوكا، وتعتبر أقدم صورة معروفة في اليابان وصُنّفت على أنها ملكية ثقافية هامة.

في اليابان أثناء فترة إيدو، كان القتل العشوائي يعتبر عملاً غير أخلاقي، ولأن الصيد كان نادراً نسبياً، فإن الطيور البرية والحيوانات كانت تشعر بالأمان تجاه البشر. إلا أن الأميركيين كانوا يستمتعون بإطلاق النار على الطيور التي تحط على صواري وأسطح سفنهم. صرّح إيشيزوكا باشمئزاز في أكوكورايشيكي " إن الأجانب الذين يصلون إلى شواطئ  كامدا و نانانئ وأريكاوا يقتلون الطيور بحبال السحب والمسدسات ثم يعودون إلى سفنهم في الرابعة مساءً." وحشية الأميركيين هذه كانت مصدر فزع لمن يراها من السكان المحليين.

ومع ذلك يدعي بيري أنه أثناء بعثة اليابان، وبرغم مشاهدة رجاله للكثير من الفرائس مثل الأوز والبط البري، إلا أنهم لم يتسنى لهم سوى قتل القليل منها.

إن الأميركيين الذين زاروا اليابان من نهاية فترة إيدو إلى بداية عصر ميجي كانوا مندهشين من ثراء الحياة البرية في اليابان ومن الأُلفة التي يشعر بها الشعب الياباني تجاه الحيوانات. وكان من بين هؤلاء الأمريكيين الباحث البيطري إدوين دان، الذي تم تعيينه في عام 1873 من أجل تقديم المشورة بشأن تطوير هوكايدو. وأشار إلى أنه قد رأى طيور الذيّال على العشب في أول نزهة له عبر مدينة طوكيو، و بأن الخندق الموجود حول القصر الإمبراطوري أمام السفارة البريطانية كان أسود اللون مع إوز بري وبط وغيرها من الطيور المائية الأخرى. وفضلا عن ذلك يدعي أنه حين عاد إلى المنزل وجد ثعلباً يأكل من طاولة طعامه.

وفي ذلك الوقت كانت طوكيو واحدة من أكبر المدن في العالم، وقد اندهش دان من قدرة الناس والحيوانات البرية على التعايش في مثل هذه البيئة. وقد فعل الكثير للمساعدة على تحديث قطاع الماشية فى اليابان، منهياً إقامته كمبعوث أمريكى إلى البلاد. ويُعتقد أن الهندباء الشائعة التي تزدهر الآن في اليابان قد أُدخلت من قبل دان عندما جلب بذورها للمراعي العشبية.

قانون التعاطف مع الكائنات الحية

وفي عام 1687، أصدر الشوغون الخامس توكوغاوا تسونايوشي (1646-1709) سلسلة من المراسيم عن التعاطف مع الكائنات الحية (Shōruiawareminorei). وكانت تتضمن 135 مرسوماً، ويقال أن كثرة عددها كانت بسبب عدم التزام الناس بها. وتشير "الكائنات الحية" إلى مجموعة واسعة من الكائنات بما في ذلك الكلاب والقطط والطيور والأسماك والمحار وحتى الحشرات. تم تخصيص العدد الأكبر من تلك المراسيم والذي يصل إلى  أربعين مرسوماً للطيور فقط، يليها 33 مرسوماً للكلاب والقطط و 17 للخيول.

في الدراما التاريخية، يتم تصوير المراسيم على أنها قوانين قاسية تؤدي إلى اعتقال مئات الآلاف من الناس، ولكن توكوغاوا تسونيناري الرئيس الثامن عشر لعائلة توكوغاوا يؤكد في عمله إيدو نو إيدنشي (ترجمته، ميراث إيدو)، أنه خلال 24 عاماً من تطبيق المراسيم، تم اعتقال ومعاقبة 69 شخصاً فقط وأعدم منهم 13 شخصاً.

في الواقع كان الهدف الأساسي من المراسيم هو أن تكون أوامر أخلاقية من أجل حماية الضعفاء والعاجزين، مثل الأيتام والمسنين والمرضى والمُتخلى عنهم. فعلى سبيل المثال هناك بنود تدعو إلى إعدام أي شخص يقوم بسرقة ملابس مسافر ملقى على جانب الطريق أو من يقوم بإلقاء طفل في النهر.

وبخصوص الأطفال المهجورين، تدعو المراسيم الناس إلى القيام بكفالة طفل كما لو كان طفلهم أو تسليم الطفل إلى شخص سيعتني به بدلاً من تسليمه إلى السلطات. وقد تم أصدار تعليمات إلى المدن للقيام بتسجيل الأطفال المهجورين، كما تم بناء منشآت لاستقبال الفقراء والمسافرين المحرومين.

ربما كان سبب كثرة المراسيم المتعلقة بالكلاب (ولا سيما حظر التخلي عن الكلاب ومتطلبات تسجيل الكلاب) هو الانتشار الواسع للكلاب البرية في شوارع إيدو وتزايد وتيرة هجماتها المتكررة. أصبح تسونايوشي يشتهر باسم شوغون الكلاب بسبب هذه المراسيم. ولربما كانت مراسيم تسونايوشي هي أول الإجراءات القانونية المعنية بحماية الحيوانات التي عرفها العالم (فمن الصعب العثور على ما يماثلها إلى أن تم إصدار قوانين حماية الحيوان في بريطانيا عام 1911).

تم بناء مرافق للكلاب في محافظات أوكوبو و يوتسويا و ناكانو في طوكيو. ويقال أن مرافق ناكانو كانت كبيرة بشكل خاص، حيث كانت تغطي 100 هكتار من الأرض، ويمكنها إيواء أكثر من 80 ألف كلب بحد أقصى، واليوم توجد خمسة تماثيل لكلاب قرب دار بلدية ناكانو لإحياء ذكرى المكان الذي يعتقد أن المنشأة كانت موجودة فيه.

الكلاب الخمسة تحيي ذكرى مرفق الاحتجاز الذي أمر بتشيده توكوغاوا تسونايوشي، شوغون الكلاب، أمام (©PIXTA) مكتب بلدية ناكانو.

تحسنت سمعة توكوغاوا تسونايوشي كثيراً في السنوات الأخيرة، كما أشادت بعض الكتب المدرسية المتخصصة في التاريخ الياباني بشوغون الكلاب بسبب "سياساته الرحيمة". الطبيب الألماني إنغلبرت كامبفر (1651-1716) الذي التقى مرتين مع تسونايوشي، قال عنه في مجلته الخاصة بزياراته لإيدو بأنه حقاً حكيم وزعيم عظيم.

تحدي المحظورات

في عملية تنقيب في قطاع ni-no-maru من قلعة أوكاياما الأصلية قام بها مجلس التعليم في محافظة أوكاياما، تم العثور على كثير من عظام الحيوانات التي يرجع تاريخها إلى عصر إيدو. وقد قام البروفسور توميؤكا ناؤتو من جامعة أوكاياما للعلوم بالتعرف على العظام على أنها تنتمي إلى الخنازير الذكر البرية والخنازير والأبقار والأرانب البرية والراكون والكلاب والذئاب والغرير. آثارالقطع الموجودة على عظام الدب تؤكد أن الحيوانات ذُبحت وأُكلت بواسطة البشر. تم تخصيص قطاع ni-no-maru بالقلعة كمقر لإقامة خدم الرئيس، مما يشير إلى أن طبقة الساموراي العليا لم تكن تشعر بأي تأنيب ضمير إزاء تناول اللحوم. وقد تم العثور على نفس تلك الآثار في قلعة أكاشي في محافظة هيوغو. وعلى ما يبدو فإن الحظر القديم المفروض على تناول اللحوم كان سطحياً.

(المقالة الأصلية نشرت باللغة اليابانية في 19 يونيو/ حزيران 2017. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: طباعة حجرية بواسطة ويلهالم هاين تمثل وصول بعثة بيري إلى يوكوهاما في 8 مارس/ آذار 1854. كتب بيري في مجلته عن رؤيته للعديد من الطيور أثناء إقامته في اليابان أفلو ©.)

الطبيعة البيئة