طبيب نفسي ياباني يغوص في تجارب الحياة

استمع لقلبك وتخلص من الهموم!

مجتمع

يزداد عدد الأشخاص الذين لديهم هموم درجة حرارتها منخفضة مثل ”لا أعرف ماذا أريد أن أفعل“ و”لا أعرف ما أحب“. وهذه رسالة من طبيب نفسي يواجه يوما بعد يوم أشخاصا لديهم مثل هذه المشاعر.

الازدياد المتسارع للهموم ذات ”درجة الحرارة“ المنخفضة

في السنوات الأخيرة، يزداد كثيرا عدد الأشخاص الذين لديهم هموم مثل ”لا أعرف ماذا أريد أن أفعل“، و”لا أعرف ماذا أريد أن أصبح في المستقبل“. وحتى لو سألناهم حول ”الأشياء التي يحبونها“ و”الأشياء التي يكرهونها“، فليس من النادر أن يكون الجواب هو ”لا أعرف لأنه ما سبق لي أن فكرت حول هذه الأشياء“.

حتى قبل 20~30 سنة على الأقل أعتقد أنه كان هناك نوع من ”درجة الحرارة“ في هموم الناس. فعلى سبيل المثال، كانت مشاعر القلق تتركز على المضمون مثل ”لا يفهمني والداي“، ”لا أستطيع أن أكون نفسي التي أريد أن أكونها، وأشعر بالدونية“، ”لا أحد يهتم لأمري أو يعيرني انتباهًا، مع أنني أريد من الجميع أن يهتموا بي“ وغيرها من الأمور التي مثل ”لا أستطيع الحصول على ما أريد الحصول عليه“. حيث تم الاعتراف بأن كل هذه المشاعر تشترك بـ ”الإصرار“ القوي.

ولكن، لا نشعر بمثل ”درجة الحرارة“ تلك في الهموم التي ازدادت في السنوات الأخيرة. فلماذا حدث مثل هذا التغيير يا ترى؟

من الممكن مشاهدة نقاط مشتركة في تاريخ نمو هؤلاء الأشخاص. وتلك النقاط المشتركة هي تعلمهم أشياء مختلفة وإرسالهم إلى المدارس الخاصة منذ نعومة أظافرهم وهم في ظل رعاية والدين متشددين تجاه التعليم، وساروا على امتداد هذا الخط حتى وصلوا إلى يومنا هذا. وهؤلاء الأشخاص الذين عاشوا هكذا حتى وقتنا الحالي، ينتبهون لعدم وجود دافع للعيش لأول مرة بعد أن يتعرضوا للضغط عند اختيار المسار الدراسي أو اختيار المهنة، أو بعد أن تتوقف خطواتهم عند مواجهتهم لعائق ما. وهذه الحالة تشبه توقف عربة قطار ليس لها قوة محركة بسبب حصى صغيرة كانت فوق سكة الحديد على الرغم من أنها بدأت تتحرك واستمرت في سيرها بقوة العطالة.

نهاية دافع الإنجاز

من الممكن القول إن الهموم ذات ”درجة الحرارة“ المرتفعة والتي كانت كثيرة في السابق هي نتاج العصر الذي كان دافع الإنجاز يحرك الإنسان فيه. حيث كان دافع الإنجاز هو القوة المحركة الرئيسية لنا منذ بدء البشرية وحتى وقت قريب جدا. ومن أجل أن يتمكن الإنسان من العيش بشكل آمن ومريح وغني أكثر، قام الناس بالانهماك في ذلك وحققوه شيئا فشيئا. ولكن، في نفس الوقت مع مثل هذا الدافع كانت تتولد إصرارات مختلفة، أي هموم ”درجة حرارتها“ مرتفعة.

غير أن خطوات البشر هذه واجهت وضعا جديدا في السنوات الأخيرة. حيث حل عصر الإشباع في الدول المتقدمة بشكل رئيسي، وبدأ التقدم السريع لتكنولوجيا المعلومات يتحقق. ونتيجة لذلك، أصبحت حياة الناس مريحة، ولكن بالمقابل ولسخرية القدر، فُقد الهدف من الحياة، ودخل الناس في حالة من فقدان الحماس.

وهكذا أصبح من الصعب نشوء دافع الإنجاز في وقتنا الحالي، وتغيرت هموم الناس بشكل تدريجي لتصبح ذات عناوين وجودية مثل ”فقدان معنى العيش“. ويعتقد أن ظاهرة انخفاض ”درجة حرارة“ هموم الناس تعود إلى وجود مثل هذه الظروف.

عندما ولدت كان المسار محددا

ولكن، لا يزال الآباء الذين ولدوا وترعرعوا في عصر دافع الإنجاز لا يستطيعون التخلص من القيم التي ألفوها، وفي كثير من الأحيان يقومون بالتركيز على التعليم المبكر لأطفالهم حتى يكون مستقبلهم ناجحا اجتماعيا واقتصاديا.

وفي الواقع، لقد تكاثرت صفوف الأطفال الصغار والمدارس الخاصة المختلفة من حولنا، حتى أصبح الكثير من الأطفال في وقتنا الحالي يقضون أوقاتا مشغولة تتجاوز رجال الأعمال. وحتى في العطلات العرضية يكون لديهم موعد للذهاب إلى منتجعات سياحية. ونتيجة لذلك، لم يعد لدى الأطفال في وقتنا الحالي ما يمكن أن نسميه ”وقت الفراغ“.

في الواقع يقوم الأطفال خلال ”وقت الفراغ“ الممل بابتكار ألعاب جديدة، وتنشيط فضولهم المتنوع. وبسبب حرمانهم من مثل هذا الوقت بشكل كامل، تتحول حياة الأطفال إلى حياة ”سلبية“. وبالإضافة إلى ذلك، بسبب منحهم فرصة ”قضاء وقت الفراغ“ باستخدام الأدوات المفيدة مثل الألعاب والهواتف الذكية، يتم تسريع ”الحياة السلبية“ للأطفال أكثر من ذلك.

وهكذا، لا يتم منحهم فرصة للحكم هل ”أريد القيام بذلك؟“ أم ”لا أريد القيام بذلك“، ويتخلى الأطفال الذين يقومون بالتعلم والدراسة حسب رغبة الآخرين والذين ينشؤون وهم محاطون بالأدوات الصناعية، يتخلون عن الاستماع إلى نداء قلوبهم بشكل تدريجي. ولا يستطيع الأطفال حتى الاحتجاج على جعلهم يفعلون ذلك عندما يقول لهم الآباء ”هذا من أجلك“. وبعدها لا يصبح الأطفال لا يقولون ”أحب/أكره“ فقط، بل يشعرون بالإزعاج لمجرد تفكيرهم بذلك، ويتخلون عن الاستماع إلى نداء قلوبهم.

وسيشعر الأشخاص الذين نشؤوا هكذا بالدهشة لعدم وجود أي إجابات حتى عند سؤالهم أنفسهم ”ماذا أحب أنا؟“ و”ماذا أريد أن أفعل؟“ عند اختيار المسار التعليمي واختيار المهنة. وأصبحت هذه الحالة تعادل القيام بالإخصاء النفسي.

أهمية ”التمرد“

إن أساس ذات الإنسان يكمن في التعبير عن الرفض وقول ”لا“ لمن يحاول أن يسيطر عليه، أو لمن يحاول أن يعتدي عليه. وهذا دليل على الوجود المستقل، ونقطة الانطلاق لحماية كرامته. أي أنه من أجل أن يكون الشخص مستقلا، لا يمكن الاستغناء عن عامل ”التمرد“ بأي حال من الأحوال.

فعلى سبيل المثال، إن ”فترة قول لا، لا“ التي تظهر في عمر سنتين إلى ثلاث سنوات لدى الأطفال هي أول ظاهرة تحدث بسبب صحوة الذات. فعند قول الآباء للطفل ”كلْ هذا“ يقول ”لا!“، وعند قولهم ”لا تأكل هذا“ يقول ”لا!“. وهذا ليس له علاقة بـ ”الرغبة بتناول الطعام/عدم الرغبة بتناول الطعام“، بل يعتبر تأكيدا من الطفل على الذات التي ”لا تريد أن تؤمر“.

وحتى عندما يتم استعادة الذات من حالة ”لا أعرف ماذا أريد أن أفعل“، فإن قول ”لا“ بشكل واضح هو نقطة مهمة. ففي حالة الإخصاء النفسي، لا يجيب ”القلب“ بأي شيء أبدا حتى عند سؤال أنفسنا بشكل مفاجئ ”ماذا تحب؟“ أو”ماذا تريد أن تفعل؟“. فالقلب الذي مُنع حتى من قول ”لا“ والتي هي التعبير الأساسي عن الرغبة ليس من المفترض أن يجيب بـ ”أحب كذا وكذا“ بكل أريحية.

وهكذا، من أجل إنعاش الذات من ”الحياة السلبية“ إلى ”الحياة النشطة“ يصبح من الضروري أن نزيل عناصر ”التواضع“ و”الطاعة“ التي طُبعت فينا كفضائل مرة واحدة.

يشير الفيلسوف نيتشه في مؤلفه الرئيسي ”هكذا تكلم زرادشت“ إلى مراحل نضوج الإنسان ويقول إنها عبارة عن ظاهرة تطور تمر بمراحل ”جمل ← أسد ← طفل“ (الفصل الأول ”التغيرات الثلاثية“).  و”الجمل“ هو رمز الاجتهاد والطاعة والالتزام والجهد. ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن هذا هو ”أحد أفراد المجتمع الصالحين“، ولكن لا يزال هذا الشخص يعيش ”الحياة السلبية“ ولم يصبح ”مستقلا“ بعد.

وبعد ذلك يتحول هذا ”الجمل“ إلى ”أسد“، ويسقط عن نفسه ”التنين“ الذي كان يسيطر ويشرف عليه تحت شعار ”أنت يجب أن تفعل كذا“. ويزأر ”الأسد“ ليقول ”أنا أريد“. ثم، يتغلب ”الأسد“ الذي حصل على ”الحياة النشطة“ على اهتمامه تجاه ”ذاته“، ويتحول إلى ”طفل“ وهو رمز النقاء والإبداء والمرح. وهذه هي مراحل النضوج النفسي للإنسان.

وللأسف، إن عدد البالغين الذين يسيئون فهم ”التعليم“ بأنه عبارة عن تربية ”الجمل“ المطيع والمجتهد لا يزال غير قليل حتى الآن. وفي ظل ذلك، عندما يصبح من الصعب الاستماع إلى نداء ”القلب“ الذي تعرض للتآكل بسبب ”الحياة السلبية“، من الضروري أن يصغي الإنسان إلى النداء البعيد الذي يصدره ”القلب“ ويقول ”لا“، ويستحضر تدريجيا روح التمرد لدى ”الأسد“ من تلك اللحظة.

وأولا وقبل كل شيء يجب عليك عند القيام بشيء ما التمييز بين ما إذا كان ذلك الشيء صادر عن ”القلب“ ليقول ”أريد أن أفعل“، أم أنه صادر عن ”العقل“ ليقول ”يجب أن تفعل“. وإذا عرفت أنه صادر عن العقل ليقول ”يجب أن تفعل“، لنحاول أن نسأل قلوبنا كيف تنظر إلى ذلك بالفعل. وهكذا، إن مواظبة القيام بهذا العمل الداخلي البسيط يجعلنا نقدر قيمة ”القلب“ الذي أُهمل لفترة طويلة. وعند ذلك فإن ”القلب“ الذي كان ينبض في الخفاء سيستعيد حيويته، وربما سيقوم بإخبارنا بوضوح في المستقبل القريب بما تعنيه عبارة ”أنا أريد“.

(النص الأصلي باللغة اليابانية. صورة العنوان الرئيسي والصور التوضيحية داخل النص: أوكادا ميكا)

المجتمع الياباني هيكيكوموري العزلة