طبيب نفسي ياباني يغوص في تجارب الحياة

حول الوضع الغريب المتمثل في ”عدم فهم معنى الكلمات“ !

مجتمع

لا تجد الكلمات التي نسمعها عند مشاهدتنا للبث المباشر لمداولات مجلس النواب والمؤتمرات الصحفية التي يتم عقدها لتقديم الاعتذارات والتي يتم بثها في التلفاز، لا تجد صدى في قلوبنا. حيث أننا لا نشعر أنها ذات ”معنى“. وفي الرسالة المتواضعة الأخيرة من طبيب نفسي سنتحدث حول أزمة الكلمات.

لا نفهم ”المعنى“

في كثير من الحالات نشعر بنوع من ”الغرابة“ تشترك به جميع أخبار الفضائح والتحرش المختلفة التي تعج بها وسائل الإعلام مؤخرا. وأعتقد أن عدد الأشخاص الذين لديهم رأي مشابه ليس قليلا بشكل غير متوقع.

فإذا شاهدنا الأسئلة والأجوبة في المؤتمرات الصحفية، أعتقد أننا سنجد أن ”عدم فهم الكلمات“ يختلف من حيث النوع مقارنة بالماضي. فبشكل سطحي تمت الإجابة على الأسئلة، وتم تكرار كلمات الاعتذار كالعادة. ولكن لا يصلنا ”المعنى“ الذي من المفترض أن يكون متضمنَّا بالأساس في الكلمات الصادرة عند ذلك.

فمجتمعنا قائم على مجموعة متنوعة ومختلفة من قواعد استخدام الكلمات. وهذه القواعد تتنوع بين قواعد كبيرة كالمعاهدات والقوانين، وبين قواعد صغيرة كالوعود الشخصية، وفي كل منها يتم مشاركة ”المعنى“ الذي تشير إليه الكلمات بين الناس، وهذا قائم على افتراض المحافظة على النظام. أو بعبارة أخرى فإن الإدراك المشترك بين الناس هو أساس كل تلك القواعد.

ولكن في السنوات الأخيرة، أعتقد أن هذا الافتراض في حد ذاته يكاد أن ينهار.

الشروط الافتراضية لـ ”الحوار“

عرَّف الإغريق الإنسان على أنه ”حيوان لديه لوغوس“.

يعود أصل كلمة لوغوس (logos) إلى الفعل legein الذي يعني ”يجمع“، وتعني هذه الكلمة ”القيام بجمع الأمور المبعثرة وفقا لنظام معين“. لذلك، تتضمن هذه الكلمة معنى سبب، مسبب، شرح، قاعدة، نظام، معنى، أساس، وعلة، وفي يومنا هذا يتم ترجمتها في كثير من الحالات بمعنى ”كلمة“. والتواصل <من خلال> لوغوس يعني dia-logos، أي ”الحوار (dialog(ue))“.

إذا تحدث شخصان وجها لوجه فإن ذلك سيصبح ”محادثة“، و”الحوار“ لا ينشأ لمجرد القيام بذلك. حيث يجب أن يستوفي ”الحوار“ الشروط الافتراضية الأربعة التالية.

(1) النظر إلى الطرف الآخر كـ ”شخص آخر“
(2) الشعور بالرغبة بمعرفة الطرف الآخر الذي هو ”شخص آخر“
(3) سعي الطرفين إلى تغيير بعضهما البعض من خلال ”الحوار“
(4) عدم إدخال العلاقة الهرمية بينك وبين الطرف الآخر

الافتراض 

(1) هو أكثر افتراض من السهل أن نتعثر عنده. وقد قمت باستخدام كلمة ”شخص آخر“ وليس ”الآخرين“ من أجل التأكيد على المعنى الذي يقول إن الطرف الآخر هو بمثابة ”وجود غير معروف“.

فنحن دائما لدينا ميل لقمع الطرف الآخر على امتداد وجودنا، وفي كثير من الحالات نعتقد أن ما هو أمر بديهي بالنسبة لنا فهو بلا شكل أمر بديهي أيضا بالنسبة للطرف الآخر. لذلك، هناك استخفاف بإمكانية حدوث سوء فهم أثناء المحادثة. ولكن، هناك اختلاف طفيف في المعاني المقصودة من كلمات كل شخص من الأشخاص، ولا يمكن إلا إيصال المعنى التقريبي من خلال القيام بتبادل الكلمات السطحية فقط.

الافتراض 

(2) هو مسألة الاهتمام ”بالشخص الآخر“.

إن الرضا بأحاسيسك وقيمك فقط، وعدم القدرة على التعامل مع ذلك بنسبية، لن يؤدي إلى تولد الاهتمام تجاه ”الأشخاص الآخرين“. فعدم القدرة على التعامل بنسبية مع نفسك، لن يجعلك قادرا على امتلاك إدراك بوجود ”أشخاص آخرين“ بالأساس، ولن تعتقد أنك ترغب بسماع كلامهم. بعبارة أخرى، لن يتولد التفكير الذي يطلب ”الحوار“.

الافتراض (

3) هو مسألة مرونة تقبل التغيير. فالدافع الذي يجعلك ترغب بالقيام بالحوار، ربما هو التواضع الفكري الذي يعتبر أحاسيسك وقيمك ضيقة الأفق وغير ناضجة، والفضول والطموح الذي يحاول جعل عالمك الخاص غنيا من خلال محاولة التعرف على الأشياء غير المعروفة.

الافتراض (

4) هو مسألة وجهة النظر الأساسية كإنسان والتي مفادها ”عدم التعامل مع العلاقات بين الناس بعلاقات هرمية“.

فالإنسان الذي يعتقد أنه ذو مكانة ”عالية“، لن يشعر بضرورة الاستماع إلى رأي وانطباع الإنسان ذي المكانة ”المتدنية“ طالما لا يوجد ما يدعو لذلك. والشخص الذي لديه وجهة نظر كإنسان قائمة على ”المجتمع الهرمي“، لن يرحب بالتواصل المفتوح مثل ”الحوار“، وإذا حاول شخص ذو مكانة ”متدنية“ قول رأيه بصراحة، فربما سيقوم الشخص ذو المكانة ”العالية“ بتوبيخه بعبارات مثل ”قلة أدب“، ”وقاحة“، ”الزم حدودك“ وغيرها من العبارات الأخرى.

 اللوغوس التي يتم إهمالها

كما هو موضح في الشروط الأربعة التي تم ذكرها أعلاه، فإن احترام الطرف الآخر كـ ”شخص آخر“، وفتح نوافذ عالمك الخاص أمام ”الشخص الآخر“، والرغبة في تمازج كلا العالمين، واتخاذ موقف ”منفتح“ لمحاولة اكتساب الخبرات التي لم تتمكن من اكتسابها بمفردك هو أساس نشوء ”الحوار“.

فعندما يكون الإنسان صغيرا يبدأ بالمشي من حالة الوحدة التي لا يوجد فيها إلا هو. وبعد ذلك يبدأ بالتعرف تدريجيا كيف يشعر ”الأشخاص الآخرون“ تجاه أقواله وتصرفاته، وكيف ينظرون بشكل مختلف إلى نفس الشيء، ويبدأ تعلم ”المعنى“ الذي تتضمنه الكلمات والسلوك. وبعد ذلك يقوم بإنضاج وجهة نظره كإنسان، ويقوم باكتساب الطبيعة الاجتماعية والطبيعة العامة من خلال القيام بمراكمة خبرات ”الحوار“. وهكذا يكتسب الأشخاص اللوغوس المفهومة بشكل عالمي.

ولكن، يعتقد أن ”الأشخاص الغرباء“ الذين يشاهَدون هنا وهناك في وقتنا الحاضر يفتقرون إلى اللوغوس التي لها ”معنى“ ذو طبيعة عامة.

حيث يقومون بالمجادلة من دون منطق كقولهم ”وعدت بذلك ولكن لم أقل إنني سألتزم بوعدي“، ويرفضون الاعتراف بالغش مهما تم تقديم أدلة على ذلك بقولهم ”هذا مزيف“، وبالنسبة للإجابات الخاطئة فإنهم يواصلون التهرب من المسؤولية بقولهم ”هذا غير موجود في السجلات“ و”لا نتذكر ذلك“. وحتى في حالات التحرش المختلفة، فإنهم لا يكترثون للفت الانتباه لمشاعر الضحية، ويصبح عذر الشخص الذي قام بذلك التصرف والذي يقول ”لم أكن أقصد ذلك“ هو محور القضية.

خلال فترة الكساد الكبير، انهارت قيمة النقود بشكل كبير، ولكن هذه الظاهرة حدثت بشكل لا يمكن تجنبه لأن الاقتصاد النقدي يعتمد على المصداقية التي تضمنها الدولة، وقد تم فقدان تلك المصداقية. وبنفس الشكل فإننا نواجه في وقتنا الحالي حالة بدء اهتزاز مصداقية الشيء الذي يُسمى اللوغوس.

من أجل استرجاع اللوغوس

إن الشيء الذي يضمن الطبيعة العامة والطبيعة العالمية للوغوس هو الإدراك المشترك للناس حول ”الكيانات المختلفة للناس“. فالإنسان هو عبارة عن كيان هجين بين كيانين، كيان يستند إلى مبدأ غير طبيعي يُسمى ”العقل“، وكيان يستند إلى مبدأ طبيعي يُسمى ”القلب = الجسد“ (الرجوع إلى المقالة الثانية ”لماذا نخاف من الوحدة؟“). و”العقل“ هو مكان التفكير، ولكنه يعمل كالحاسوب، لذلك حتى لو تمكن من القيام بجمع ومعالجة المعلومات، فإن القيام بالحكم على ”معنى“ الأمور هو شيء غير ممكن من دون تدخل ”القلب“. والقيام باستخلاص نظام الأمور ومبدأ عملها يصبح ممكنا لأول مرة عندما يعمل ”القلب“. بعبارة أخرى، فإن اللوغوس ينشأ عند تدخل ”القلب“.

وأيضا إن ”العقل“ لا يستطيع فهم إلا الأشياء الكمية، لذلك هناك ميل قوي للاهتمام بالتفوق والدونية، والفوز والهزيمة، والربح والخسارة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ”العقل“ لديه ميل قوي للسيطرة على الأشياء وامتلاكها، لذلك فهو مكان لتوليد الأنانية. وعندما يصبح ”العقل“ الذي لديه مثل هذه الطبيعة مهيمنا، فإن الناس لا يتحركون إلا بدافع القيم السطحية مثل المال، والمكانة، والسلطة، والشرف. ولا يوجهون اهتمامهم إلا إلى أنفسهم، ويصبح لديهم هوس الامتلاك والسيطرة.

وفي المجتمع الحديث، تم التركيز على التنمية الاقتصادية بشكل مفرط، ولأن المجتمع الحديث كان يميل إلى مبدأ النتيجة والكفاءة، فقد أعطى قوة كبيرة لقيم هيمنة ”العقل“. ونتيجة لذلك، ولَّد المجتمع أشخاصا من دون لوغوس وعديمي الشفقة واحدا تلو الآخر، وربما تم احترامهم ومنحهم حتى السلطة عن طريق الخطأ.

إن أزمة اللوغوس هي أزمة ”القلب“. وحتى لا يذهب هذا الوضع ”الغريب“ أبعد من ذلك، من المهم ألا يستغني كل واحد منا عن ”الحوار“ مع ”قلبه“، وأن يقوم بمراكمة ”الحوار“ المفتوح مع ”الأشخاص الآخرين“. ومن الضروري أن يعيد القوة إلى جانب اللوغوس الأكثر إنسانية مرة أخرى.

(النص الأصلي باللغة اليابانية. صورة العنوان الرئيسي والصور التوضيحية من أوكادا ميكا. تقديم الرسوم التوضيحية في داخل النص من إزوميا كانجي)

المجتمع الياباني هيكيكوموري العزلة