جزر أوغاسوارا: 50 سنة بعد العودة لليابان

وُلدوا وعاشوا في اليابان ولكنهم أمريكيون أباً عن جد !

مجتمع ثقافة

تقدم جزر أوغاساوارا تاريخاً بشرياً منفرداً كتفرد النباتات والحيوانات التي تعيش في بيئتها الطبيعية الريفية. يصادف هذا العام الذكرى السنوية الخمسين منذ أن أعادت الولايات المتحدة السلطة على الجزر إلى اليابان عقب احتلالها بعد الحرب العالمية الثانية. اثنان من أهالي جزيرة أوغاساوارا، أم وابنها، ينحدران من أوائل المستوطنين الغربيين، اللّذين كان لهما دور كبير في التأثير على الحياة الثقافية المنتقاة في جزيرة تشي تشي جيما الرئيسية.

تاريخ واحد وتسميتان

تنامى النشاط السياحي في جزر أوغاساوارا اليابانية النائية منذ أن تم الإعلان عنها كإحدى مواقع التراث العالمي لليونسكو في عام 2011. يخوض الزوار من اليابان وخارجها الآن المغامرة بانتظام على السلسلة البركانية التي تطفو على المحيط الهادئ على بعد 1000 كيلومتر جنوبي طوكيو، للاستمتاع بالنباتات المتطورة الفريدة من نوعها والحياة البرية ومشاهدة الدلافين والحيتان التي تقترب من شواطئها الريفية.

وإذا تعمقنا أكثر في تاريخ المستوطنات البشرية في هذه الجزر النائية، فسنجد أنه على الرغم من كونها أرضاً يابانية، إلا أنها تملك جذوراً غربية عميقة.

كانت تسمى في الأصل جزر بونين، وهو اسم يُعتقد أنه مشتق من المصطلحين اليابانيين مونين شيما أو بونين شيما، أي ”الجزر غير المأهولة“، استوطنت مجموعة مختلفة من الأمريكيين والأوروبيين وسكان جزر المحيط الهادئ لأول مرة هذا الأرخبيل الخلاب في عام 1830. وقد قامت المجموعة بقيادة ناثانيل سافوري أحد السكان الأصليين لولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة ببناء مستوطنة مبكرة في جزيرة تشي تشي-جيما على محطة هامة لتوقف التجار وسفن صيد الحيتان التي تبحر في المحيط الهادىء، مما أدى إلى وضع الجزيرة التي لم تسبق المطالبة بها والسلسلة المرتبطة بها على الخريطة.

قامت أجيال متعاقبة من السكان ببناء ثقافة فريدة ممزوجة بالعادات والمؤثرات اللغوية التابعة للغرب وجزر المحيط الهادىء واليابان. على الرغم من موقع أوغاساوارا النائي، فقد تحملت الجزر تاريخاً مضطرباً بشكل مدهش على مدار 200 عام كانت خلالها مأهولة بالسكان.

كان المستوطنون الأوائل مستقلين إلى حد كبير. ولكن في عام 1876، استحوذت اليابان على البونين. وأعادت طوكيو تسمية سلسلة الجزر بأوغاساوارا وأجبرت السكان غير اليابانيين على التجنس بالجنسية اليابانية. خلال الحرب العالمية الثانية، تم إجلاء أحفاد السكان الأصليين المعروفين محلياً باسم أوباي كاي (الغربيين) مع سكان الجزر الآخرين إلى اليابسة اليابانية. سيطرت البحرية الأمريكية على الجزر في نهاية الحرب، حينما سُمح للمقيمين من أوباي كاي دون رفاقهم من السكان اليابانيين بالعودة في عام 1946. وبعد أكثر من عقدين من الزمان، في يونيو/ حزيران عام 1968، عادت جزر بونين مرة أخرى للسيطرة اليابانية.

ومنذ ذلك الحين استمر مجتمع أوباي كاي في التناقص بسبب مجموعة متنوعة من العوامل الديموغرافية، ولم يتبق سوى عدد قليل من السكان لتبادل الثقافة والتاريخ الثريين للجزيرة. لا يزال اثنين من سكان الجزر الأوائل المنحدرون من المستوطنين الغربيين يحافظون على بقاء الذكرى حية وهما أم وابنها المعروفين باسم الثنائي أوهيرا كيوكو ورانس أوهيرا.

ما بين الهدوء والعاصفة

ولدت كيوكو عام 1921 في جزيرة تشي تشي جيما الرئيسية. خلال سنوات نشأتها حظيت بطفولة هادئة قبل أن تعيش خلال سنوات الحرب، حين تم إجلاء سكان الجزر إلى البر الرئيسي. بدأت حياتها باسم إيديث واشنطن، ولكن مثل غيرها من سكان الجزر الذين ينحدرون من أصل غربي كانت مطالبة باتخاذ اسم ياباني لنفسها.

أوهيرا كيوكو، التي تحمل أيضا الاسم الإنجليزي إيديث واشنطن، من سكان أوباي كاي في تشي تشي جيما.

وتتذكر قائلة ”لقد كنت مقيمة لفترة من الزمن في البر الرئيسي عندما تلقيت برقية من تشي تشي جيما تأمرني بتغيير اسمي“. ”أتذكر أنه تم إعطائي عدة خيارات وطُلب مني اختيار لقب عائلي بسيط لتسجيل الأوراق بسهولة، لذا قررت أن يكون أوهيرا“. ورداً على السؤال حول الاسم الذي تشعر أنه يناسبها أكثر، أضافت بضحكة خافتة ”لقد كنت أُدعى بكلا الاسمين طوال هذه المدة لدرجة أنه قد أصبح من الصعب علّي التفريق بينهما“.

تقول كيوكو أنه خلال فترة نشأتها في تشي تشي جيما، كانت الثقافة اليابانية تهيمن على مجتمع أوباي كاي. تشرح قائلة: ”لقد كنا نتحدث باللغة اليابانية“، ”وحتى الكبار كانوا يخرجون بعد العمل في ملابس يوكاتا الغير رسمية“. لقد قامت المدرسة المحلية بإرسال مدرس خصيصاً من طوكيو، من أجل تدريس كيفية خياطة الملابس على الطراز الغربي والزي الياباني مثل سراويل هاكاما وتعليم الطلاب صناعة الحرف اليدوية اليابانية وإدارة شؤون المنزل. تصرّح كيوكو ”لقد استمتعت بتعلم هذه المهارات“، ”حتى أنني درست كيفية تجميع الفوتون. لقد كان الوقت المناسب للعيش في الجزيرة“.

ومع ذلك، فإن بداية الحرب العالمية الثانية وضعت نهاية للحياة السعيدة التي كانت تتمتع بها. ومع تزايد حدة النزاع، قامت السلطات بإجلاء سكان الجزر إلى البر الرئيسي، مما أدى إلى تحول أوغاساوارا إلى موقع عسكري. تم تعيين كيوكو وآخرين من المجتمع للعمل في مصنع للذخيرة في طوكيو، حيث عملوا هناك لمدة عام تقريباً. ورغم ابتعادها عن منزلها، تقول كيوكو إنها وجدت العزاء في الرّفقة. ”لقد عاش البعض منا معاً في مساكن الشركة، لذلك لم أكن وحيدة بيد أن الحياة كانت صعبة. لا أستطيع أن أعبر عن مدى سعادتي عندما انتهت الحرب وسُمح لنا بالعودة إلى ديارنا“.

في عام 1946، عادت كيوكو إلى تشي تشي جيما بينما كانت لا تزال تحت سيطرة البحرية الأمريكية. على الرغم من أن الحرب خلفت الكثير من الدمار في منطقتها المجاورة بما في ذلك منزل عائلتها، إلا أنها سرعان ما بدأت تعمل على إعادة بناء حياتها. تتذكر قائلة: ”الأمور تغيرت كثيراً“، ”لكن بمساعدة الجنود الأمريكيين، استطعنا أن نحصل على القدر الكافي من احتياجاتنا. حتى أنهم أعادوا بناء المدرسة التي كانت بمثابة نعمة“.

كيوكو تنظر في ألبوم صور قديم من سنوات ما قبل الحرب وسنوات الحرب.

عودة طال انتظارها

الحياة في الجزيرة تأثرت خلال الاحتلال إلى حد كبير بالقيود المفروضة من قبل الجيش الأمريكي. لم يتم السماح بالعودة سوى لسكان أوباي كاي، وكان الدخول إلى الجزيرة يقتصر فقط على أفراد القوات البحرية. تقول كيوكو بحسرة ”كان الأمر صعباً لكوني بعيدة عن الأصدقاء الذين نشأت معهم“. بعد أن فقدت الاتصال في فترة الاضطراب الذي تلى الحرب، لم يكن لديها حتى عناوينهم حتى تتمكن من إرسال خطابات إليهم.

ولكن في أواخر الستينات من القرن العشرين، سمعت أخباراً في الراديو تفيد بأنه ستتم إعادة سلسلة الجزر إلى اليابان. وهذا يعني أن سكان الجزر اليابانيين قد يعودون إلى ديارهم في نهاية المطاف بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن. تتذكر كيوكو ”كنت أتوق لرؤية أصدقائي بعد مرور كل تلك السنوات“. لقد سمحت بتدفق مشاعرها بعد الفرحة التي غمرتها عند سماعها الخبر. ووضعت أفكارها حول الصداقة وماضي الجزيرة في مقطوعة مؤثرة على ورق قرطاسية حملته في جيبها حتى تستطيع تسليمه. سوف يتم لاحقاً ضبط محتويات المذكرة مع الموسيقى وتسميتها ”أغنية العودة“.

تقول كيوكو مغنية الأغاني الشعبية الموهوبة من الجزر، أن ذكريات الفرحة التي شعرت بها في ذلك اليوم تعود إليها بسرعة أثناء أداء الأغنية. ”إن تواجدي مرة أخرى مع أصدقائي في الجزيرة كانت واحدة من أسعد لحظات حياتي“.

على الرغم من أنها اضطرت في بعض الأحيان إلى الاختيار بين هويتها الأمريكية واليابانية، إلا أن كيوكو لم تشك يوماً في جذورها من أوغاساوار، مؤكدة بحزم ”أنا أنتمي إلى هذه الجزيرة“.

الأطفال في تشي تشي جيما يعرضون أعلاماً يابانية للاحتفال بعودة جزر أوغاساوارا في 26 يونيو/ حزيران 1968، جيجي برس.

عالقة في الوسط

تم تسمية حيّ أوكومورا في تشي تشي جيما باسم يانكي تاون بسبب ازدهار مجتمع أوباي كاي فيها. أطلق رانس أوهيرا نجل كيوكو نفس الاسم على الحانة التي كان يديرها في نفس المنطقة للحفاظ على ذكريات ذلك العصر الغابر. يصيح رانس بفخر وسيجارة مشتعلة بين أصابعه ”لقد تم بناء المكان من العدم في مدة ثلاثة سنوات“.

PH3تقع حانة "يانكي تاون" التابعة لرانس أوهيرا على بعد مسافة قصيرة من وسط المدينة.

رانس يمزج مشروباً في الحانة.

ولد رانس في عام 1950 في تشي تشي جيما في الفترة التي لاتزال فيها الجزيرة تحت إدارة القوات البحرية الأمريكية، بدأ حياته باسم رانس واشنطن قبل اتخاذ اسم العائلة أوهيرا لاحقاً، لا يزال يتذكر أيام طفولته في كل من اليابان وأمريكا. يتذكر قائلاً ”لقد تحدثت اليابانية مع أمي“، ”الإنكليزية في المدرسة، والمزيج منهما مع أصدقائي.”على الرغم من وجود بعض المضايقات، إلا أن الحياة أثناء الاحتلال كانت سهلة نسبياً. ”كنت أذهب لصيد الخنازير البرية في الغابة مع والدي والأصدقاء لتزويد وجبات الطعام بالقليل من اللحم، أو ركوب زورق والتجديف قبالة صيد الأسماك. كنا نختار ملابسنا من كتالوج سيرز ريبوك ومن ثم ننتظر بشوق وصولهم. ولكن الحياة كانت جيدة، لقد وفرت القوات البحرية الأمريكية الضروريات اليومية، وتولت التحاقنا بالمدرسة، بل وساعدت أيضاً في إعادة بناء منازل السكان“.

يقول رانس أن العيش في بيئة تشي تشي جيما الطبيعة الغنية بالنسبة لصبي صغير بمثابة جنة. بيد أن هذا الأسلوب المثالي الحر انتهى فجأة عندما أنهى الصف السابع، وهو العام الأخير في المدرسة المحلية. اضطر رانس وزملاؤه إلى الانتقال إلى جزيرة غوام الأمريكية لمواصلة الدراسة. يتذكر مشاعره عند مغادرة تشي تشي جيما لأول مرة، ولكن الحياة في غوام كانت لها تحدياتها الخاصة. ”كان هناك الكثير من الأشياء التي بقيت راسخة في ذهني، مثل تعالي الطلاب الآخرين علينا لأننا لم نكن من الجزيرة“.

ظل رانس على أراضي الولايات المتحدة لعدم وجود خيارات أخرى لإكمال دراسته. ومع ذلك، عند بلوغه الصف الحادي عشر، استرجعت اليابان جزر أوغاساوارا، مما أجبره على الاختيار ما بين البقاء في حياته الحالية أو العودة إلى وطنه. يقول ”لقد كانت لدي بالفعل فكرة العودة بعد التخرج“، ”ولكن بما أنه قد تم بناء مدرسة ثانوية في تشي تشي جيما، فمن المنطقي أن أقضي السنة الأخيرة من دراستي في الجزيرة حيث أستطيع دراسة اللغة اليابانية بشكل جدي“.

في 26 يونيو/ حزيران عام 1968، يوم تسليم الجزر، صعد رانس آخر رحلة من غوام متجهاً إلى جزر أوغاساوارا.

الابن الضال

بعد تخرجه بدأ رانس العمل، ولكن سرعان ما اكتشف أن الحياة في الجزيرة قد تغيرت عن أيام طفولته التي عهد فيها الحرية والسهولة. حيث تم استبدال النظم القديمة بهياكل إدارية جديدة على الطريقة اليابانية، كما أعلنت الحكومة اليابانية أن سلسلة أوغاساوارا بمثابة حديقة وطنية، مما أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة من القوانين مثل حظر الصيد وتحويل مساحات كبيرة من الجزيرة إلى محميات تتمتع بحماية خاصة. استاء رانس لرؤية جزيرة طفولته تتلاشى ببطء فاختار الانتقال إلى الولايات المتحدة.

PH5بعد الحياة في الولايات المتحدة وخدمته في الجيش الأمريكي، عاد رانس إلى تشي تشي جيما في عام 1994.

يقول رانس إن علاقته بالثقافة الأمريكية أثرت على قراره."عندما ولدت، كانت الجزيرة تحت سيطرة الولايات المتحدة وكان كل تعليمي باللغة الإنجليزية. أصبحت تشي تشي جيما غريبة بالنسبة لي، لذلك قررت التوجه إلى الولايات المتحدة والانضمام إلى الجيش. لقد ارتديت الزي الرسمي بكل فخر (بأية حال على مدى السنوات القليلة الأولى)."

أخذ رانس الجنسية الأمريكية وعاش في أمريكا لما يقرب من 20 عاماً. ولكن استمرت ذكرى جزر أوغاساوارا تلاحقه طوال هذا الوقت. "ربما لم أكن أفكر بوعي، لكنني كنت أعلم أنني سأعود يوماً ما. لا مفر من حقيقة أنني أحد سكان جزيرة بونين".

عاد رانس إلى تشي تشي جيما في عام 1994 وباشر في بناء حانته في حيّ أوباي كاي القديم للمحافظة على اسم يانكي تاون. لقد عاد مثل والدته لاحتضان جذوره باعتباره أحد سكان الجزيرة.

لقد كافحت الجزر تحت ضغوط الحرب ونزوات السياسات الحكومية اليابانية والأمريكية. ومع ذلك، قد ساعد هذا الاضطراب في تعزيز الشعور بالهوية لكل من الأم والابن باعتبارهم سكان الجزيرة الغربيين الفخورين بانتمائهم إليها.

يصادف هذا العام الذكرى السنوية الخمسين لعودة جزر أوغاساوارا إلى اليابان. فمنذ تلك اللحظة التاريخية، استمرت الجزر في التغيير بانتقال الشباب من البر الرئيسي حاملين معهم أفكاراً جديدة حول المستقبل. ونتيجة لذلك، سيتم نسيان ثقافة أوباي كاي ببطء. وعلى الرغم من أن التغيير أمر لا مفر منه، لكن ستعيش روح جزر بونين طالما هناك أناس مثل كيوكو ورانس يشاركون ذكريات وتاريخ تلك الأيام الماضية.

(النص الأصلي نشر باللغة اليابانية في 25 يونيو/ حزيران 2018. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: رانس أوهيرا في حانته يانكي تاون في تشي تشي جيما. جميع الصور بواسطة آيسيكي تسويوشي ماعدا الصور المنسوبة إلى غيره)

الولايات المتحدة أوكيناوا