أحكام قاسية: النظام القضائي الجنائي في اليابان

الأحكام القضائية: السر وراء وصول معدلات الإدانة في اليابان إلى 99.9%؟!

مجتمع

تقريبا جميع القضايا الجنائية التي تذهب إلى هيئات المحاكم في اليابان تنتهي بحكم الإدانة على المدعى عليه. من هذا المنطلق يشرح اثنان من علماء القانون المحنكين كيف وصلت اليابان إلى معدل إدانة يصل إلى نسبة 99,9 %، ويبحثا في القضايا والمشكلات التي تواجه السجون اليابانية.

نظام قضائي مختلط

: كيف وصلت اليابان إلى نظام القانون الجنائي الحالي؟

يمكن تقسيم القانون الجنائي في اليابان تاريخيا إلى أنظمة ما قبل الحرب وما بعد الحرب. ففي عصر ميجي (1868–1912)، عندما كانت البلاد تشرع في عملية التحديث المتسارعه، أصدرت اليابان دستورًا بنكهة غربية نصَّب الإمبراطور وجعله كرئيس سيادي على رأس الدولة. وبموجب هذا الدستور كان لديها قانون استقصائي على غرار ألمانيا. وبعد الحرب العالمية الثانية، آلت الأمور إلى اعتماد اليابان لدستورٍ يقوم على سيادة الشعب. وتحت تأثير المفاهيم القانونية الأمريكية تغير القانون إلى نظام التقاضي أو المغارمة (نظام قائم على فض المنازعات يقوم فيه رجال القانون بالترافع أمام هيئة المحكمة التي تقوم بدورها في الفصل في القضية بين الإدعاء والدفاع).

ويمثل تبديل الأنظمة القانونية تحولاً أساسياً في نهج اليابان تجاه القانون. إلا أن ذلك لم يكن تحولاً مثالياً، حيث أدمجت اليابان العديد من التركات المؤسسية لنظام ميجي في الأُطر الهيكلية لما بعد الحرب العالمية. ولكن النظام القانوني الياباني يختلف عن النموذج الأمريكي الأمر الذي أدى إلى نتائج جعلت العديد من خبراء القانون يرون أنه ليس نظاماً حقيقياً بل نظاماً مزيفاً.

دور رجال القضاء

ما هي الاختلافات الرئيسية بين نظامي التمحيص والمغارمة؟

مورأوكا: بالنسبة لنظام التمحيص أو النظام القائم على التحقيق هو نظام مكون من جانبين، جانب يمثله قاضي التحقيق المكلف من الدولة وجانب يمثله المتهم، وهو أقرب إلى نظام القانون الجنائي التقليدي في اليابان، حيث يقوم القاضي بدور فعَّال لتقصي الحقائق من خلال استعراض الأدلة، والتشكيك في مختلف الأطراف لإثبات الحقائق، وتحديد ماهية المعلومات القابلة للتطبيق، ومن ثم إصدار الحكم.

 

وفي المقابل بالنسبة لنظام المغارمة أو النظام القائم على التقاضي، فهو ثلاثي الجوانب، ويتألف من قاضي محايد، والنيابة، والدفاع. وبموجب هذا الترتيب، لا يلعب القاضي دورًا فعالاً في التحقيق ولكنه يعمل كحكم غير منحاز لأي من الطرفين المتنازعين، ويُقَّيم القضايا التي يرفعها الادعاء والدفاع ويحكم بموجب صحة الأدلة والشهادات.

سيطرت الدولة على النظام القانوني فيما قبل الحرب إلى درجة كان فيها المدعي العام يجلس في قاعة المحكمة إلى جانب القاضي على المنصة في تجاهل لمحامي الدفاع والمتهم. وقد أُلغي هذا الترتيب عندما اعتمدت اليابان نظام المغارمة، وأعطت فرصة متكافئة للأطراف المتنازعه لعرض دعواهم أمام القاضي، والآن يجلس ممثلوا النيابة قبالة هيئة الدفاع.

إلا أن ذلك لا يعني أن النظام القانوني الياباني قد تغير بالكامل، ولن يكترث علماء القانون اليابانيون اليوم بالعودة إلى نظام ما قبل الحرب، لكن الكثيرين يعتقدون اعتقادا راسخا أنه ينبغي على القضاة أن ينالوا قدراً من السيطرة على الإجراءات بدلا من السماح للمحامين بأن يناقشوا كل جانب من جوانب القضية بتفصيل دقيق. وبالطبع هناك مخاطرة في هذا الرأي، ليس أقلها حقيقة أن بعض القضاة المحافظين يعتقدون جازمين أنهم يستطيعون معرفة ما إذا كان الدفاع صادقا أم لا دون الحاجة إلى مراجعة كل الأدلة في قضية ما.

مورأوكا كييتشي

موراي توشيكوني

نظام المغارمة الزائف الوجه

لا شك أن البعض ممن يجلسون على منصة القضاء يشعرون بأن قدرتهم على قراءة قضية ما وفك طلاسمها أمر معصوم من الخطأ. ونتيجة لهذ الوضع وغيرها من القضايا، ينقسم المحامون وخبراء القانون الجنائي حول كيفية تقييم النظام القانوني المختلط في اليابان. وهناك أولئك الذين يشيدون بدمج جوانب من نظامي التمحيص والمغارمة. ثم هناك أصوليون أمثالي يعتبرون أن نظام المغارمة الياباني المزيف يشوبه الكثير من الخلل.

ولنأخذ على سبيل المثال، عملية سير التحقيقات. حيث يتم خلالها منع المشتبه بهم من الوصول إلى محام أثناء استجوابهم من أجل الضغط عليهم للحصول على اعتراف منهم. وحتى المحاكم تسمح بهذه الممارسات، وهناك أيضًا اعتماداً كبيراً على الأدلة المرجعية التي تخلق جواً من إثبات التهمة قبل المحاكمة يمكن بدورها أن تؤثر على كيفية نظر القاضي للقضية.

سلطة المدعي العام

: ما هي بعض المشكلات الرئيسية التي يواجهها نظام العدالة الجنائي الياباني؟

يقال إن النظام القضائي في اليابان يقوم على فكرة أنه من الأفضل تبرئة مائة مذنب على إدانة شخص بريء زوراً. إلا أنه في واقع الأمر، يفضل المدعون العامون والشرطة النهج الأكثر توازناً بإنقاذ الأبرياء مع ضمان معاقبة المذنبين.

ولكن المعضلة تكمن في كيفية تحديد الحقائق عندما يقدم الادعاء والدفاع حقائق متضاربة. فليست كل القضايا واضحة بشكل قطعي، ولهذا السبب يجب أن يكون لافتراض البراءة أولوية. ومن المؤسف أن هذا التوجه لا يتبناه المدعون العامون أو الشرطة أو النظام القانوني في اليابان بشكل متساوٍ.

ومن الطبيعي أن يذهب ممثلوا النيابة لأبعد مدى لضمان حصول المجرمين على العقوبة المستحقة، لكنهم بذلك يمارسون أيضًا درجة عالية من السلطة التقديرية في تحديد القضايا التي يجب أن يتابعوها. وعادة ما يركز المدعون العامون على الدعاوى التي تكاد تكون مضمونة الإدانة، مما يؤدي إلى تعليق حوالي 60 في المئة من القضايا الجنائية في اليابان دون توجيه اتهام.

قضاة غير أكفاء ولوائح غير متزنة

: هل يقوم القضاة والمدّعون العامون ومحامو الدفاع بأداء أدوارهم بشكل صحيح؟

إحدى المشكلات الحرجة هي أن القضاة لا يفعلون ذلك. سواء تعلق الأمر بمحاكم القضاء المستعجل أو على منصات القضاء في قاعات المحاكم، ومن المتوقع أن يتبع القضاة القاعدة الصارمة التي تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن في كثير من الأحيان، تتجاهل الأحكام القضائية هذا المبدأ الأساسي.

هناك بالطبع الكثيرممن يجلسون على منصات القضاء قادرين على نظر القضايا بآذان غير متحيزة، لكنهم للأسف أقلية. وغني عن القول أن القضاة يجب أن يدعموا قرينة البراءة المفترضة، ولكن لكي يحدث ذلك، يجب على محاميّ الدفاع أن يضاعفوا من جهودهم وأن يضطلعوا بدور أكبر في إجراءات سير القضية

وعلى القضاة الالتزام بإعطاء جميع جوانب القضية دراسة متساوية للحفاظ على ميزان العدالة من أن تميل كفته لصالح النيابة. وبما أن هذا لا يحدث، فيحتاج محامو الدفاع إلى دراسة القانون بشكل أكثر دقة واتباع الإجراءات بعناية للتأكد من ترجيح كفتهم عند منصة القضاء والعمل وفقًا لذلك. وعلى القضاة أيضاً تعلم كيفية تجنب التحيز الضمني.

تتمتع النيابة العامة بسلطة كبيرة ولا يملك الدفاع سوى القليل منها، ولن يكون الوضع هكذا إذا طبقت اليابان بنية حسنة ونزيه نظام المغارمة، لكن حقيقة الأمر هي أن توازن القوى في المحاكم اليابانية مختل.

وفي أي نظام قانوني، تتمتع الدولة بالقدرة على فرض سلطتها. وهذا هو السبب في أن دول مثل الولايات المتحدة والتي تطبق نظام المغارمة في قضاياها لديها بعض التدابير كقواعد إقصائية مضمنة في الإطار القانوني لحماية حقوق المتهم.

واليابان تعاني من نقص في تفعيل وتطبيق مثل هذه الممارسات. حيث يمارس الادعاء سلطته على حساب الدفاع، وقد سمح هذا الخلل بفرض الوضع الراهن. هذا إلى جانب مشكلات أخرى ذكرتها سالفاً أدت إلى ما آلت إليه الأمور من وصول معدل الإدانة في اليابان إلى نسبة 99,9 في المائة.

خوف القضاة من ممثلي الادعاء

كيف تجتمعت هذه العوامل معاً وخلقت مثل معدل الإدانة المرتفع هذا في اليابان؟

الجواب بمنتهي البساطة هو أن المدعين العامين لديهم سلطة تقديرية واسعة لتعليق الدعوى، حتى عندما تكون هناك أدلة قوية، ولا يتابعون سوى القضايا التي من المؤكد أنها ستنتهي بالإدانة. ويرجع السبب في تأجيل 60 في المائة من القضايا إلى أن المدعين العامين يشعرون بقلق بالغ إزاء خسارة القضية وتشويه سمعتهم.

.

قانون العقوبات والمخالفات لعام 2016: 1.12 مليون حالة (الجرائم الجنائية وانتهاكات القوانين الخاصة)

قضايا أُحيلت إلى هيئة المحكمة 31,4%
قضايا صدر بحقها حكماً قضائياً 7,8%
قضايا صدر بحقها حكماً مستعجلاً 23,6%
قضايا تم تعليقها من قبل المدعي العام 62.4%
قضايا مؤجلة 56,5%
مُعفاة من الملاحقة القضائية 5,9%
قضايا أُحيلت إلى محكمة الأسرة 6,2%

المصدر: وزارة العدل، التقرير السنوي للإحصاءات المتعلقة بالملاحقات القضائية

تلتزم اليابان بفكرة ”العدالة الدقيقة“، حيث يخضع محامو الادعاء لمتطلبات قضائية صارمة لإجراء تحقيق شامل في القضايا لجعلها تكاد تكون خالية من أية ثغرة. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك متهمين يدعون أنهم أبرياء مما نسب إليهم. والسؤال الآن عند نظر مثل هذه الحالات فهل القضاة على استعداد للاستماع إلى دفوعهم بآذان موضوعية غير متحيزة أم لا؟

ولقد سمعت بعض القضاة يعترفون بأنهم يخشون مستوى السلطة المخولة للمدعين العامين. وهذا يخلق وضعاً لا يُرجح فيه أن يصدر حكماً بالبرأة، قرار من شأنه أن يؤدي في الغالب دائماً إلى استئناف ممثل النيابة لقرار الحكم، مما قد يؤدي إلى نقض القرار في محكمة أعلى درجة. وهذا يجعل من الصعب للغاية على القضاة تبرئة المدعى عليه.

معدلات الإدانة بوجه عام

كيف هو معدل الإدانة في اليابان مقارنة مع الدول الأخرى؟

معدلات الإدانة في معظم البلدان، بما في ذلك تلك التي لديها أنظمة المساومة على الاعتراف بالذنب، أكثر من 90% ومع ذلك، تنتهي العديد من المحاكمات بالبراءة. وبالمقارنة، فإن معدل الإدانة في اليابان الذي يصل إلى 99,9 في المائة مرتفع بشكل غير طبيعي.

وعادة ما يتابع المدعون العامون في أي دولة القضايا التي يثقون فيها بنتيجة إيجابية. ومع ذلك، لا يزال مطلوبًا منهم إثبات إدانة المتهم بما لا يدع مجالًا للشك. وقد أدى معدل الإدانة في اليابان الذي يكاد يصل إلى نحو 100 في المئة إلى وضع الكثير من علامات الاستفهام بين علماء القانون في الخارج متسائلين عما إذا كان القضاة فعلاً يحكمون وفقا للقانون أم يقومون فقط بتأجيل القضية.

ويرى بعض الخبراء أن التركيز المفرط لليابان على تحقيق النتائج العادلة على حساب حماية حقوق المتهم يؤدي إلى تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه ”العدالة القاسية“، على الرغم من أنني أعتقد أن الوضع يمكن تفسيره جزئياً من منطلق الثقافات القانونية المختلفة. ففي بريطانيا مثلاً، يستخدم المدعون العامون ما يسمى بـ ”قاعدة 51 في المئة“ كركيزة أساسية في تحديد ما إذا كان يجب متابعة القضية أم لا، حيث يعبر هذا الرقم عن ثقتهم بأن هيئة المحلفين ستقرر لصالحهم. وفي اليابان، لا يمكن التفكير في الذهاب إلى المحكمة بهذا المستوى المنخفض من ضمان النتائج.

اللعب على وتر معدلات الانتكاسية (معاودة ارتكاب الجرم)

يقال إن معدلات الانتكاسية في اليابان مرتفع، ولكن هل هذا هو الوضع بالفعل؟

الصحافة اليابانية تحب أن تهول من مسألة معدلات الانتكاسة ومعاودة ارتكاب الجرم، ولكن هناك الكثير من العوامل التي تجعلها مقياسًا غير دقيق للجريمة. ومن الأفضل التركيز على العدد الفعلي لمعاودي ارتكاب الجريمة، وهو الذي يتناقص.

ففي عام 2016، كان معدل معاودة ارتكاب الجرم 48,7 في المائة، وهو معدل مرتفع بالتأكيد. إلا ان السلطات خلُصت إلى هذا الرقم مقارنة مع الأرقام الإجمالية للجرائم المرتكبة من مذنبين لأول مرة، وهذا يخفي حقيقة أن معدل ارتكاب الجريمة يتقلص بشكل عام ويجعل معدلات معاودة ارتكاب الجرم تبدو في تزايد.

السجن على غرار الثكنات العسكرية

تفضل الصحافة التركيز على الجوانب السلبية لنظام العقوبات الياباني، بينما تتجاهل العدد المنخفض لمعاودي ارتكاب الجرم. وفي الواقع، تتمتع السجون اليابانية بسمعة جيدة على المستوى الدولي. حيث يمر السجناء من خلال برامج إعادة التأهيل التي تهدف إلى مساعدتهم على العودة إلى المجتمع ومنعهم من العودة إلى حياتهم السابقة. وبالمقارنة، فإن الأنظمة العقابية في العديد من البلدان الأخرى تنأى بالسجناء في معزل بعيدٍ عن الناس، مما يجعل من الصعب عليهم الاندماج في المجتمع عندما يخرجون للحياة مجدداً.

ومع وجود جوانب إيجابية في النظام الإصلاحي في اليابان، إلا أنه من المهم أيضًا التعرف على المشكلات. والتي تكمن إحداها في نظام السجون الذي يميل إلى الطابع العسكري. حيث يجب على المحتجزين الالتزام بقائمة طويلة من اللوائح بما في ذلك كيفية طي الفراش وغسل الوجه. وسيكون من الصعب العثور على مثل هذه القائمة الطويلة من اللوائح كتلك الموجودة في السجون اليابانية، وقد تعرضت اليابان على إثر ذلك لانتقادات دولية لاتباعها مثل هذا النهج المتشدد.

إلا أن المشكلة الأكثر إلحاحًا هي ضعف مستوى الرعاية الطبية في السجون. فالسجناء يصابون بالأمراض كغيرهم من الناس، ولكن لأنهم محتجزون فإن خيارات العلاج المتاحة لديهم محدودة، وغالبًا ما تمر الحالات الصحية دون رعاية. ومثل هذه الحالات تثير قلقاً كبيراً لدى المحتجزين ولا يمكن وصفها إلا بأنها غير عادلة. إلا أن وزارة العدل تعمل على معالجة هذه القضية، ولكنها لم تتوصل إلى حل بعد.

(النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية استناداً إلى حوار من إعداد تاكاهاشي يوكي من وكالة باور نيوز، والترجمة من الإنكليزية. صور الحوار من قبل إيغاساكي شينوبو. صورة الموضوع: إحدى المحاكمات في مارس/ آذار 2018 بقاعة محكمة مدينة ناها بمحافظة أوكيناوا. جيجي برس)

جريمة المحكمة العليا ياكوزا