الطريق إلى اليابان

«بونساي»... حكاية فن تقزيم الأشجار العملاقة في اليابان

مجتمع ثقافة

فن ”البونساي“ يعد واحدًا من أروع الأمثلة على الجمع بين الفن والطبيعة، حيث يجسد هذا الفن العميق الجذور الطبيعة في أبهى صورها المصغرة. تعكس كل شجرة بونساي رحلة فنية وعلمية، تبدأ من اختيار الشجرة المناسبة وتمتد إلى العناية بها وتشكيلها بدقة لتحاكي جمال الطبيعة بأسلوب يحتفي بكل تفصيل فيها. البونساي ليس مجرد شجرة مزروعة في إناء؛ إنه تعبير عن الصبر والتفاني، حيث يتطلب الحفاظ على شجرة بونساي وتنميتها عناية مستمرة ومعرفة بالتقنيات الصحيحة للتقليم والتسميد والري وغيرها من العناصر الأساسية لصحة وجمال الشجرة. هذه العملية تعكس التزام الفنان بتقدير الطبيعة والاحتفاء بها، مما يتطلب فهمًا عميقًا للتوازن الطبيعي وكيفية تمثيله في شكل مصغر.

فن البونساي 

البونساي هو فن ياباني تقليدي يتمثل في تربية الأشجار والنباتات بطريقة تجعلها تظهر كمناظر طبيعية مصغرة في أواني أو أحواض. يستمتع ممارسو هذه الهواية بإعادة زراعة وتصميم النباتات بشكل يحاكي جمال الطبيعة، مقدمين للمتأمل فرصة فريدة للتفكر في روعتها. في هذا الفن، يهتم الزارع بتقليم الفروع وثنيها وتثبيتها بأشكال محددة باستخدام أسلاك وأحيانًا بإضافة الطحالب والحصى وغيرها من العناصر ليعبر عن ذوقه وإبداعه الفريد من خلال شكل البونساي.

تُعتبر أشجار البونساي التي يزرعها ويصممها الخبراء في هذا المجال أعمالًا فنية قيّمة، وقد تُقدر بأسعار تتراوح من عشرات إلى مئات الآلاف من الين الياباني، مما يجعلها من المقتنيات الثمينة.

من الجدير بالذكر أنه لا يوجد حد نهائي أو مرحلة اكتمال محددة في تربية أشجار البونساي؛ نظرًا لأن النبات المستخدم طبيعي وليس صناعيًا، مما يعني أنه يستمر في النمو باستمرار. هذا التغيير والتحول المستمر في أشجار البونساي يجعل من تخصيص الوقت اللازم لرعايتها أمرًا بالغ الأهمية.

بونْساي (بونساي الطحالب كوكي)
بونْساي (بونساي الطحالب كوكي).

بداية البونساي كفن تقليدي ياباني تعود إلى فن الـ”بونكي“ الذي تم تقديمه من الصين إلى اليابان في عصر هيآن (794-1192). البونكي كان يشمل ترتيب وتصميم التربة أو الرمل مع الطحالب والنباتات والأعشاب فوق الأواني، ليقدم نموذجًا حيًا مصغرًا للمناظر الطبيعية. هذا الفن كان في البداية محصورًا في الطبقة الأرستقراطية، لكنه مع مرور الزمن بدأ ينتشر بين مختلف طبقات المجتمع، بما في ذلك محاربو الساموراي وسكان المدن.

في فترة إيدو، شهد فن البونساي تطورًا وانتشارًا كبيرين، حيث أصبح يعتمد بشكل رئيسي على النباتات. ويُقال إن محاربي الساموراي، الذين وجدوا أنفسهم بأوقات فراغ أكبر بسبب الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي حققه نظام الشوغونات، بدأوا في زراعة أشجار البونساي وبيعها كعمل إضافي. هذا التحول جعل البونساي أكثر شعبية وساعد على ترسيخه كفن ياباني مميز يُمارس حتى اليوم.

تطور البونساي كفن يعكس القيم الثقافية والجمالية لليابان، حيث يبرز الاهتمام بالطبيعة، والصبر، والعناية الدقيقة، والسعي وراء الجمال في البساطة والتواضع.

البونساي والمجسمات الصغيرة

في عصر ميجي وما بعده، حيث تطلب فن البونساي وقتاً وجهداً كبيرين في الرعاية والمتابعة، أصبح هذا الفن مرتبطاً بشكل كبير بكبار السن من الرجال الذين يملكون الوقت الكافي والصبر للعناية به. هذا الارتباط جعل البونساي يُنظر إليه على أنه ”هواية كبار السن“. ومع ذلك، يشهد البونساي في الآونة الأخيرة تحولاً يجدد الاهتمام به من قبل الأجيال الجديدة.

ظهور ”مام بونْساي“ يعتبر مثالاً على هذا التحول الجديد. المام بونْساي يختلف عن البونساي التقليدي بإضافته للمجسمات والتماثيل الصغيرة التي تزين النباتات، مما يخلق تصويراً درامياً يشبه إلى حد كبير مجسمات الديوراما. هذا التجديد يجلب بعداً جديداً وممتعاً للفن، مما يجعله أكثر جاذبية للأجيال الأصغر سناً ويعزز من التعبير الفني والإبداعي.

المام بونْساي يمكن أن يكون بمثابة جسر بين التقاليد العميقة لفن البونساي والثقافة العصرية، مما يشجع على تبادل الأفكار والأساليب بين الأجيال. من خلال دمج العناصر القصصية والتصويرية، يقدم المام بونْساي فرصاً جديدة للتعبير الفني ويفتح المجال لمزيد من الأشخاص لاستكشاف والاستمتاع بفن البونساي.

مام بونْساي.

مدرسة متخصصة للبونساي في إيطاليا

المام بونساي، بإضافته للمجسمات والتماثيل الصغيرة، لم يجذب اهتمام الشباب الياباني فقط بل تعدى ذلك ليحظى بشعبية كبيرة في الخارج، وخاصة في أوروبا، حيث يُنظر إليه كهواية ”كول“ يابانية ممتعة. الاسم ”Bonsai“ أصبح معروفاً عالمياً، وتشهد شعبيته الكبيرة تكوين اتحادات وجمعيات مخصصة له، بالإضافة إلى نشر العديد من المجلات المتخصصة التي تعنى بهذا الفن.

الإقبال المتزايد على البونساي في الخارج يتجلى أيضاً في الارتفاع الكبير لحجم صادرات البونساي من اليابان. وفقاً لبيانات المنظمة اليابانية للتجارة الخارجية (JETRO)، فقد سجلت صادرات البونساي وأشجار البساتين العادية رقماً قياسياً بلغ 6.7 مليار ين ياباني في عام 2011، ما يشير إلى تضاعف هذه الصادرات بما يقارب عشر مرات خلال العقد السابق، حيث كانت تبلغ 640 مليون ين في عام 2001.

هذا النمو الملحوظ في شعبية البونساي وزيادة الصادرات يعكس الاهتمام العالمي المتزايد بهذا الفن الياباني التقليدي، ويؤكد على القيمة الثقافية والفنية للبونساي كعنصر من عناصر التبادل الثقافي بين اليابان وبقية العالم. إن وجود مدرسة متخصصة لتعليم فن البونساي في إيطاليا يعد مثالاً آخر على تأثير هذا الفن وتقديره في مختلف أنحاء العالم، مما يشير إلى إمكانية استمرار نمو وانتشار هذه الهواية بشكل أكبر في المستقبل.

البونساي الذي يحظي بشعبية كبيرة في المنازل.
البونساي الذي يحظي بشعبية كبيرة في المنازل.

في عصر إيدو، الذي استمر من 1603 إلى 1868، استمتع اليابانيون بفن البونساي، الذي يشمل أشكالًا مثل ”هاتشيياما“ و”سينكيبان“، لتقدير المناظر الطبيعية المصغرة. هذه الأشكال من البونساي كانت تركز بشكل كبير على إعادة إنتاج جمال الطبيعة بطريقة مصغرة، مما يتيح للمشاهدين التمتع بالمناظر الطبيعية دون الحاجة إلى مغادرة منازلهم.

مع مرور الزمن، تطور فن البونساي ليصبح أكثر تجريدًا، ما أدى إلى تغيير في كيفية فهمه واستيعابه والإحساس به وتذوقه من قبل كل مشاهد. هذا التطور جعل البونساي لا يتوقف فقط عند كونه تمثيلًا مصغرًا للطبيعة، بل أصبح أيضًا وسيلة للتعبير عن الجمال الجمالي والإحساس العالي بالمنظر، حيث يمكن للمشاهد التفاعل مع العمل الفني على مستوى أعمق وأكثر شخصية.

هذا التحول جعل البونساي يتطور من مجرد هواية أو نشاط ترفيهي إلى فن راقٍ يهتم بالتفاصيل الدقيقة والتعبير الجمالي. اليوم، يُعتبر فن البونساي تعبيرًا فنيًا يجمع بين الصبر، الدقة، والإبداع، مما يوفر للفنانين وسيلة للتعبير عن أنفسهم من خلال الطبيعة المصغرة. يتطلب البونساي فهمًا عميقًا لكل من الفن وعلم الأحياء، حيث يجب على الفنان أن يعرف كيف ينمو النبات ويتفاعل مع البيئة المحيطة به، بالإضافة إلى كيفية تشكيله ليعكس الجمال الطبيعي والجمال الفني المراد تحقيقه.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية، صورة مام بونساي: MIXTRIBE)