الطريق إلى اليابان

«زازن»... رحلة في عالم الحكمة والتأمل على الطريقة اليابانية

مجتمع ثقافة

مذهب الزن، بتأكيده على البساطة، التأمل، والوعي الذاتي، يقدم مسارًا نحو السلام الداخلي والتوازن الذي يعد جوهريًا للعديد من الناس في العصر الحديث، حيث الحياة مليئة بالضغوط والتعقيدات. الزن لا يقتصر على كونه ممارسة روحية أو دينية فحسب، بل يتجلى أيضًا في الفن، الثقافة، وحتى في الطريقة التي ينظم بها الناس مساحاتهم المعيشية وأنماط حياتهم. إحدى الرسائل الأساسية من الزن هي أن السكينة والراحة الذهنية يمكن تحقيقها من خلال العيش بطريقة منظمة ومتأملة، حيث يتم التركيز على اللحظة الحالية والتخلي عن الأفكار المشتتة التي تسبب القلق والتوتر. هذا لا يعني العيش في حالة من العزلة أو الانعزال، بل العيش بوعي وانتباه كاملين لكل لحظة، مع التقدير للجمال في البساطة والأشياء الصغيرة التي تحيط بنا. الثقافة اليابانية الحديثة، مع جذورها العميقة في مذهب الزن، تعكس هذه الفلسفة في عدة جوانب من الحياة اليومية، من الفن والحدائق إلى طرق تنظيم المنازل والمكاتب. نظام ”الماري كوندو“ لتنظيف وترتيب المنازل، الذي اكتسب شهرة عالمية، هو مثال على تأثير مبادئ الزن في التعامل مع المساحات المعيشية بطريقة تحقق الفرح والسكينة.

حالة من التأمل والهدوء

زازن (Zazen) هي ممارسة أساسية في تقليد الزن البوذي، وهي تعتبر لب التأمل في هذا المسار الروحي. خلال جلسة زازن، يجلس الممارس بوضعية محددة، عادة على وسادة تأمل صغيرة تسمى ”زافو“، ويحافظ على الظهر مستقيمًا واليدين في وضعية خاصة (مثل وضعية كوشو أو هوكاي-جوين)، مع توجيه النظر للأسفل بزاوية محددة لكن دون التركيز على شيء محدد.

الهدف من زازن ليس إفراغ الذهن من كل الأفكار، كما يُساء فهمه أحيانًا، بل الجلوس بحضور ذهني كامل، ملاحظة الأفكار والمشاعر التي تظهر دون الانجراف معها أو الحكم عليها. يُعتبر هذا النوع من التأمل وسيلة لتعزيز الوعي والفهم العميق للذات والواقع، مما يؤدي إلى تجربة مباشرة لطبيعة الوجود نفسه.

تتضمن زازن أيضًا التنفس العميق والمنتظم، مما يساعد على تهدئة العقل والجسم. يُشجع الممارسون على الجلوس بثبات ولكن بدون توتر، محافظين على التوازن والهدوء، ويتم توجيههم للعودة بلطف إلى التنفس كلما وجدوا أنفسهم ينجرفون مع الأفكار.

زازن لا تقتصر فقط على الوصول إلى حالات من السلام الداخلي أو التخلص من الإجهاد، بل هي ممارسة تهدف إلى الإنارة وفهم الحقيقة النهائية عبر التأمل المستمر والممارسة الروحية. في هذا السياق، يُنظر إلى زازن كطريق لتحقيق الصفاء والتنوير، مع التأكيد على أهمية الجلوس بهذه الطريقة بانتظام كجزء من التزام أعمق بمسار التحرر الروحي.

في اليابان الحديثة، تأمل الزن (أو زازن) قد تطور ليصبح تدريباً روحياً يتجاوز الحدود الدينية، مما يجعله متاحاً ومفيداً للجميع بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. هذا النهج يعكس الرؤية الشاملة للتأمل كأداة للتحسين الذاتي والبحث عن السلام الداخلي، بدلاً من كونه ممارسة دينية مقصورة على أتباع مذهب معين.

تقدم المعابد اليابانية ومراكز التأمل جلسات زازن للزوار، مما يوفر فرصة للتعرف على هذه الممارسة في بيئتها الأصلية وتحت إشراف متخصصين وكهنة ممارسين. هذا يساعد على ضمان تجربة أصيلة ومفيدة، مع تعلم الطرق الصحيحة للتأمل وتطبيقها بشكل فعال لتحقيق الاستفادة القصوى.

أسعار المشاركة في هذه الجلسات تتنوع، بعضها مجاني بينما البعض الآخر يتطلب رسوماً معقولة. في كثير من الحالات، يتم ترك القرار للمشارك لتقديم مساهمة مالية استناداً إلى تقديره الشخصي للقيمة التي حصل عليها من التجربة. هذا النهج يعكس القيم اليابانية المتعلقة بالاحترام والإخلاص، ويسمح بإتاحة ممارسات التأمل لأكبر عدد ممكن من الناس.

جلسات التأمل زازن توفر للمشاركين فرصة للتوقف عن الحياة اليومية المزدحمة والغوص في الصمت الداخلي والتأمل العميق. من خلال هذه الممارسة، يمكن للأفراد اكتشاف مزيد من السلام والوضوح في حياتهم، وتعزيز التوازن بين الجسد والروح، وربما حتى الاقتراب من حالة التنوير.

تمثال بوذا الكبير ”دايبوتسو“ في مدينة كاماكورا.

العقل والجسد

تقنية التأمل في وضعية زازن تعتمد بشكل كبير على الوعي والتركيز على النفس والتنفس، وهي تقدم نهجاً منهجياً للتأمل يساعد على تهدئة العقل وتقليل التشتت. الجلوس في وضعية التربيع على وسائد زافو (وسائد التأمل) يساعد على تحقيق استقرار الجسم ويعزز الوضعية الصحيحة التي تدعم التأمل الفعّال. الاستعداد لقبول وضعيات بديلة للجلوس يظهر تفهماً للحاجة إلى تكييف الممارسة مع القدرات الفردية والراحة، مما يجعل التأمل أكثر إتاحة وشمولية.

التركيز على التنفس من خلال الأنف، مع الاستعانة بعضلات المعدة، يساعد على تعميق الاسترخاء وتحسين التركيز. هذه الطريقة في التنفس لا تساعد فقط على تهدئة العقل ولكن أيضاً تعزز الوعي الجسدي.

إحصاء الأنفاس يعتبر تقنية أولية تساعد على تركيز الانتباه وتقليل التشتت الذهني. بمرور الوقت، قد يجد الممارسون أنهم قادرون على ترك عملية الإحصاء والانتقال إلى مرحلة أعمق من التأمل حيث الانتباه يصبح أكثر توحيداً والتجربة أكثر عمقاً.

هذه الممارسة تعلم الصبر والتحكم في الذهن وتساعد الممارسين على تطوير قدرة أكبر على الاسترخاء والتركيز. كما أنها توفر فرصة لاستكشاف الذات وتعزيز الوعي الذاتي والسلام الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للتأمل زازن فوائد صحية عديدة، بما في ذلك تقليل التوتر وتحسين جودة النوم وزيادة القدرة على التعامل مع الضغوط النفسية.

ممارسة الزازن والتركيز على عملية التنفس تمثل القلب النابض لهذه التقنية العميقة والقوية للتأمل. التناغم بين الجسم والتنفس والروح هو أساس لتحقيق حالة من الوعي والإدراك الذاتي التي تتجاوز الحواجز العقلية والجسدية المعتادة. من خلال الجمع بين هذه العناصر الثلاثة في تناغم، يبدأ الممارسون في تجربة نوع من الصفاء والوضوح الذهني الذي يسمح برؤية الذات والعالم المحيط بطريقة أكثر صدقاً ووضوحاً.

التأمل في زازن لا يعني فقط الجلوس بصمت، بل هو عملية ديناميكية تشمل الجسم، الذهن، والروح. هذه العملية تساعد على تجاوز الأفكار والعواطف المعتادة، والوصول إلى حالة من الفهم والسلام الداخلي. الجسد في حالة جلوس صحيحة وثابتة، التنفس متوازن وعميق، والذهن متيقظ ولكن خالٍ من التشتت، يخلق مزيجاً يفتح الباب أمام الوعي الذاتي والإدراك العميق.

تقليدياً، استخدام عود البخور كمقياس زمني للجلسات يعكس الطبيعة العملية والروحانية لممارسة الزازن. البخور، برائحته وزمن احتراقه، يوفر وسيلة لقياس الوقت تتسم بالهدوء والتأمل، بعيداً عن التشتت الذي قد توفره الأدوات الزمنية الحديثة. هذه المدة، التي تتراوح عادة بين 30 إلى 40 دقيقة، تعتبر فترة كافية للغوص في عمق التأمل دون أن تكون مرهقة جسدياً أو ذهنياً للممارسين.

الغرض من ممارسة الزازن هو إعادة الاتصال بالذات الأعمق وتحقيق فهم أكبر لطبيعة وجودنا. من خلال هذه الممارسة، يمكن للأفراد أن يجدوا السلام الداخلي والصفاء، وأن يطوروا قدرة أكبر على التعامل مع تحديات الحياة بوعي وحكمة.

رامي الكرة الياباني وادا تسويوشي الذي يلعب في نوادي شيكاغو وهو يقوم بممارسة الزن في معبد إنرياكوجي بالقرب من كيوتو (جيجي برس)

المحافظة على حالة التركيز

استخدام الكيئيساكو في جلسات التأمل الزازن يمثل جانبًا فريدًا ومثيرًا للاهتمام من تقاليد التأمل الزن اليابانية. هذه العصا المسطحة الخشبية ليست أداة للعقاب، بل هي وسيلة للمساعدة والدعم. الضربة الخفيفة التي يتلقاها الممارسون تهدف إلى إعادة تنشيط الوعي والتركيز، وتساعد على إعادة توجيه الانتباه إلى اللحظة الحالية ومنع الذهن من الشرود أو الانزلاق إلى حالة من النعاس أو الراحة الزائدة.

هذه الممارسة تؤكد على الجانب التفاعلي والديناميكي لجلسات التأمل الزازن، حيث يتم تشجيع الممارسين على الحفاظ على حالة من اليقظة والوعي الذاتي. الكيئيساكو تستخدم بطريقة تحترم قدرة الممارس على التحمل ودون أن تسبب أذى، مما يعكس فهمًا عميقًا للتوازن بين العقل والجسد في ممارسة الزازن.

جلسات التأمل الزازن توفر للمشاركين فرصة للانفصال عن الضغوط والمشاغل اليومية والغوص في أعماق الذات. هذه الجلسات تساعد على تنمية القدرة على التعامل مع التحديات الحياتية بطريقة أكثر هدوءًا ووعيًا، وتقدم مساحة للسلام الداخلي والتوازن الروحي. لذلك، بالنسبة لأولئك الذين يسعون لإيجاد راحة من الاضطرابات اليومية والرغبة في استكشاف أعماق ذاتهم، قد تكون جلسة التأمل الزازن بمثابة البوابة لرحلة روحانية عميقة ومثمرة.

(صورة العنوان: زوجات زعماء دوليين زرن اليابان برفقة أزواجهن الذين حضروا قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا و المحيط الهادئ وهن يشاركن في جلسة الزن في معبد كينتشوجي بكاماكورا. جيجي برس)

معلومات باللغة الإنكليزية عن المعابد التي تقيم ورشات عمل الزن:

معبد