تدهور النظام التعليمي في اليابان

مشاكل التعليم العالي في اليابان

اقتصاد مجتمع ثقافة التعليم الياباني اللغة اليابانية

في عصر يتطلب مزيداً من القوى العاملة ذات المستوى العالمي، هنالك مخاوف كبيرة من تراجع المعايير في قطاع التعليم الياباني. ولكن أين تكمن المشكلة؟ يجري كاريا تاكيهيكو الأستاذ في علم الاجتماع والذي درّس في جامعات يابانية وبريطانية نظرة تحليلية للواقع الراهن.

يتم تداول كلمة ”العولمة“ كمصطلح عصري مبهم بدون معنى محدد. بّيدَ أن الكلمة تبدو مناسبة لوصف المتغيرات التي يتعرض لها قطاع التعليم العالي منذ تسعينيات القرن الماضي. فالعولمة انتشرت بشكل كبير ومرّكز في الاوساط الأكاديمية والتي هي عبارة عن حركة عابرة للحدود تشمل الناس (الطلاب والأساتذة) ورأس المال (التمويل اللازم للأبحاث والتعليم) والمؤسسات الأكاديمية نفسها. وقد شُرع بعولمة التعليم العالي جنباً إلى جنب مع عولمة القوى العاملة، حيث يعبر الناس الحدود بغية التعلم والحصول على شهادات علمية ومن ثم مغادرة أوطانهم للدخول في سوق العمل كموارد بشرية مطلوبة بشكل كبير. كما تعد التصنيفات العالمية للجامعات التي تجتذب اهتماماً متزايداً من بين الجامعات العالمية مظهراً آخراً لظاهرة العولمة، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع حدة المنافسة العالمية الحقيقية بين الجامعات في الدول المختلفة.

تعد استراتيجية زيادة استيعاب الطلاب في التعليم العالي في الدول الصناعية تغيراً مهماً آخر منذ تسعينيات القرن العشرين. فحتى أوروبا التي عرف عنها تقليدياً التحاق عدد قليل نسبياً من الطلاب بمرحلة التعليم الجامعي ما بعد الثانوية العامة، شهدت زيادة متسارعة في نسبة أولئك الطلاب الذين يسعون لاستكمال دراساتهم على المستوى الجامعي. وقد تابع العديد من هؤلاء الطلبة دراساتهم بعد حصولهم على درجة البكالوريوس للالتحاق بتدريب مهني أو دراسات عليا على مستوى الماجستير والدكتوراه. حيث تأتي زيادة الاستيعاب في التعليم العالي هذه استجابةً للتنافس العالمي في استقطاب العمالة المؤهلة بشكل جيد كما ذكر سابقاً.

وستعالج هذه المقالة بعض هذه المشاكل التي ستكشف عن نفسها عند شرح وتحليل نظام التعليم العالي الياباني لاسيما فيما يتعلق بعلاقته بالعولمة. ومن هذا المنظور يبدو من الواضح أن الجامعات اليابانية تقف في موقع ضعيف حالياً كنتيجة مباشرة لاستجابتها المتثاقلة والبطيئة تجاه المنافسة العالمية بالمقارنة مع نظيراتها في دول العالم المختلفة. ومن ناحية ثانية، تسعى هذه المقالة لتحديد المشاكل الرئيسية التي تواجه الجامعات اليابانية، كما تمعن النظر في معرفة عدم تمكن الجامعات اليابانية من حل تلك المشاكل حتى الآن. وأرغب من خلال الإجابة على تلك الأسئلة التطرق إلى بعض المشاكل التي لم تجابه الجامعات اليابانية وحدها فقط بل المجتمع كله وذلك منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين. وتشمل تلك المشاكل ما أُطلق عليه اسم ”المرض الياباني“ الممتد من مرحلة الفشل إلى النجاح اي من فترة الازدهار الاقتصادي بعد الحرب والذي تمتعت به اليابان حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين. وسأختتم المقالة بمناقشة كيف أن هذه المشاكل ليست خاصة باليابان وحدها بل لها أثرها وتداعيتها على جميع البلدان المتقدمة.

المشكلة المثلثية للتعليم العالي

دعونا أولا نستعرض المشكلة الشائعة التي تواجه كل دول العالم الصناعية في معرض إيضاح المشاكل التي توثر على التعليم العالي الياباني في سياق أوسع. يمكن وصف المشكلة على أنها مثلثية تشمل ثلاثة عوامل أو أضلاع غير متوافقة فيما بينها وناجمة عن العلاقة بين نظام التعليم العالي والحكومة. فبالرغم من أنه يمكن الموازنة بين اثنين من العوامل الثلاثة لذلك المثلث إلا أن العامل المتبقي لن ينسجم معهما. وفيما يتعلق بعلاقة الحكومة بالتعليم العالي، فان العوامل الثلاثة المتناقضة للمثلث مؤلفة من العناصر التالية: المحافظة على المعايير والتساوي بالفرص (العامل الرئيسي لتوسيع التعليم العالي) وإبقاء الأعباء المالية ملقاة على عاتق الحكومة إلى حد يمكن تحمله. وفي وسعنا طرح الأمثلة التالية حول أضلاع المثلث ذات العوامل المتناقضة. فالجهود المبذولة للمساواة في الفرص التعليمية مع المحافظة على مستوى عال من التعليم ستُفضي حتما لزيادة الاعباء المالية بشكل أكبر على الحكومة نظراً لازدياد الاستثمارات العامة في التعليم العالي. لكن من ناحية أخرى، إذا نقص التمويل الأساسي فسوف تصعب المحافظة على المعايير التعليمية. وبالتالي عند المحافظة على المعايير فسيكون من الصعب زيادةَ فرص الاستيعاب في التعليم العالي. وهكذا فان الاخذ بزيادة الاستيعاب مع تحديد الأعباء المالية في نفس الوقت سيجعل من المحافظة على نوعية التعليم وجودته أمراً صعباً. فكلما حاولت بجد العمل لتحقيق هدفين اثنين من الأهداف الثلاثة كلما ازداد تحقيق الهدف الثالث صعوبةً وتعقيداً، وهذه هي المعضلة المثلثية للتعليم العالي في اليابان.

لقد أصبحت هذه المشكلة المثلثية أكثر وضوحاً في البلدان المتقدمة على نحو خاص في السنوات الأخيرة. ويرجع ذلك كله إلى التنافس على تنمية الموارد البشرية وعلى تحقيق مهارات ذات مستويات عالمية كما ورد في المقدمة. وهو ما جعل من توسعة التعليم ما بعد الثانوي ذي النوعية العالية من الامور الأكثر أهمية عما كانت عليه في الماضي. لكن هذا الأمر يتطلب مزيداً من الانفاق على التعليم العالي، في الوقت الذي تعاني فيه اقتصادات العديد من الدول المتقدمة من أزمات مالية خانقة. وهكذا فإن على كل دولة أن تجد حلاً لمشكلة التعليم العالي المثلثية آنفة الذكر.

إن النظر إلى نظام التعليم العالي في اليابان ضمن هذا السياق الأوسع يجعل من خصائص الطريقة اليابانية في حل المشكلة المثلثية والمشاكل الأخرى الناجمة عنها موضع اهتمام. فالطريقة اليابانية تعتمد أساساً على المحافظة على الاستثمارات العامة للحكومة بحدها الأدنى. سيما وانه يلتحق حوالي ٨٠ بالمائة من الطلاب اليابانيين بالجامعات الخاصة. وبالإضافة لذلك، تؤمن معظم الجامعات الخاصة مصادر دخلها من الرسوم الدراسية المستوفاة من االطلبة وذلك بشكل يفوق من اعتمادها على المنح الحكومية. أوبعبارة أخرى، تحقق اليابان توسعة رئيسية في قطاع التعليم العالي عبر زيادة الجامعات الخاصة ومن خلال الاعتماد على الرسوم الدراسية لتغطية الجزء الكبير من النفقات.

لقد كانت اليابان أكثر سرعة من البلدان الأوروبية في زيادة الاستيعاب بمجالات التعليم العالي. حيث تشير إحصاءات حديثة الى أن أكثر من ٥٠٪ من الشباب الذين يبلغون من العمر ما يؤهلهم للالتحاق بالجامعات يلتحقون بنظام تعليمي جامعي مدته أربع سنوات، كما أن أكثر من ٢٥٪ منهم يلتحقون ببعض الكليات التي تبلغ مدة الدراسة فيها سنتين (تشمل المعاهد المتوسطة، المعاهد المهنية والتقنية). وهذا يعني أن ٧٥٪ من الشباب بعمر معين يلتحقون بالتعليم العالي. وكما هو الحال بالنسبة للجامعات، فإن معظم الكليات أو المعاهد التي تبلغ مدة الدراسة فيها سنتين هي أيضاً كليات خاصة، وهذا ما يؤكد حقيقة أن اليابان نجحت في خلق ”سوق شاملة“ للتعليم العالي. وبهذا ايضاً تمكنت اليابان من إدخال التعليم العالي في قطاع الأعمال، بما فيها الجامعات التي تبلغ مدة الدراسة فيها أربع سنوات، في حين تُبقي الحكومة على نفقاتها إلى أدنى حد ممكن إضافةً إلى المحافظة على نظام تمارس فيه الحكومة دوراً أقل.

 يمكن النظر إلى خصائص الطريقة اليابانية على أنها جزء من الإتجاه لاعتبار التعليم العالي أمراً شخصياً يُعنى به الفرد بالدرجة الأولى. وقد تزامن توسيع التعليم العالي منذ عام ١٩٩٠ مع تسهيل القوانين الحكومية المنظمة لإنشاء المعاهد والجامعات، كما تزامن ذلك أيضاً مع تنافس الجامعات الخاصة في السوق لجذب الطلاب. بالإضافة لذلك، فقد أضحى هذا النظام يعتمد بشكل كبيرعلى التمويل الخاص من الأفراد. فلطالما اعتبر التعليم العالي منفعة فردية بشكل أساسي للطلاب. فقد تم بناءً على ذلك اختيار نظام التعليم العالي بحيث يقع العبء الاقتصادي على المستوى الفردي أكثر منه على مستوى عموم الشعب. وفي هذا الاطار تمّت عملية زيادة الاستيعاب في التعليم العالي.

إلا أن الحل الياباني للمشكلة المثلثية الذي تميز بالتركيز على المصالح الخاصة والسوق أدى إلى ظهور مشكلات رئيسية من جهة التساوي بالفرص والمحافظة على نوعية التعليم.

المشاكل الناجمة عن نظام التعليم العالي الياباني

مما لا شك فيه أن هذه الطريقة نجحت في توسيع نظام التعليم العالي الياباني بشكل سريع وقدمّت الفرص ايضاً لعدد كبير من الشباب لاستكمال دراساتهم العليا. ولكن نظراً لأن التوسيع تحقق عبر زيادة عدد الكليات الخاصة فإن مستوى دخل الفرد يلعب دوراً هاماً في التحاق الطلاب بالتعليم العالي. كما لا يزال مقدار المنح الحكومية غير ملائم بالرغم من الزيادة في الرسوم الجامعية، وفشلت اليابان في معالجة القيود الاقتصادية لاسيما تلك المتعلقة بالالتحاق بالتعليم العالي. وبالرغم من الزيادة الإجمالية في الالتحاق بالتعليم العالي بالمعنى المطلق، إلا أن عدم التساوي بالفرص لا يزال قائماً بشكل كبير حيث يعتمد في الغالب على الخلفية الاقتصادية والاجتماعية للطالب.

ترافقت زيادة الاستيعاب في التعليم العالي مع انخفاض في نوعية التعليم والذي تفاقم مع التركيز على الجامعات الخاصة والإتجاه القائم لاعتبار التعليم العالي استثماراً شخصياً للطلبة في المقام الأول، ويعود ذلك الأمر لأسباب عدة.

أولاً، تعتمد الجامعات الخاصة ذات المؤسسات المالية الضعيفة بشكل كبيرعلى الإيرادات المستوفاة من الرسوم الجامعية. وبالتالي فمهما بذلت تلك الجامعات من جهد للمحافظة على المعايير فوق مستوى معين، فانه سيكون من الصعوبة ارغام طلابها على ترك الجامعة بالرغم من نتائجهم الغير المرضية. وهنالك عامل آخر وهو إلقاء الكثير من المحاضرات في قاعة محاضرات كبيرة بهدف تخفيض تكلفة التدريس الى أدنى مستوى ممكن. وهذا ما يجعل من عملية تزويد الطلاب بالتوجيه والمتابعة الفردية أمراً في غاية الصعوبة. ولا يقف الامر هنا فقط، وانما لن يكون بمقدور معظم الصفوف اعطاء الطلاب فروضاً مدرسية للقراءة. ووفقاً لدراسة أجريت من قبل باحثين في شركة بينيس Bennesse Corp وهي مؤسسة تعليمية خاصة، فإن ٧٣٪ من الطلاب يقضون أقل من ٣ ساعات في الأسبوع في التحضير والمراجعة وإجراء الواجب المنزلي خارج الصف، و٢٠٪ لا يقضون أي وقت في الدارسة على الإطلاق. وبالإضافة لذلك، فإن ٨١٪ من الطلاب يطالعون خارج مناهجهم أقل من ٣ ساعات أسبوعياً من بينهم ٣٢٪ لا يولون المطالعة أي وقت على الإطلاق. وهكذا فقد تحولت الجامعات اليابانية إلى أماكن لا تشهد أي نوع من التعلم خارج قاعات المحاضرات.

ولعل الأسوأ من ذلك، هو ان بعض الجامعات التي تبلغ مدة الدراسة فيها أربع سنوات تتيح الفرصة للعديد من الطلاب للتخرج بتعليم يمتد على مدى ثلاث سنوات فقط. وهذا عائد إلى أن معظم الطلاب ينشغلون في البحث عن عمل اعتباراً من الفصل الثاني من السنة الدراسية الثالثة مما يجعلهم غير قادرين على حضور محاضراتهم. وفي معظم الأحيان، لا تتمكن الجامعات الخاصة من طرح بدائل للطلاب وتكتفي بالتغاضي عن تصرفهم بهذا الشكل. فسمعة الجامعة تعتمد على مقدرة خريجيها على النجاح في إيجاد عمل بعد التخرج. كما أن الجامعة لا تستطيع الوقوف في وجه طلابها في ذلك الوقت من بحثهم عن فرص عمل وذلك حتى تضمن استقطاب عدد كاف من الطلاب الجدد. وهكذا يصبح من المستحيل على الجامعة أن تطبق نظام درجات صارم على طلابها أو أن تقوم بفصلهم فيما إذا فشلوا في دراستهم. وكلتا المشكلتان تنبعان من كون الجامعات الخاصة تعتمد بمواردها على الرسوم التعليمية التي تستوفيها من الطلاب.

ولكن لماذا يبدأ الطلاب بحثهم عن العمل في وقت مبكر جداً، حتى وإن كان ذلك يعني التضحية بالكثير من الوقت الذي من المفترض أنهم استثمروه في التعليم؟ لفهم الأسباب التي تقف وراء ذلك لا بد من النظر بتمعن إلى الدور الذي لعبه التعليم الجامعي في المجتمع الياباني. كما أن أخذ خلفية المشكلة بعين الاعتبار سيزيد من فهمنا لمشكلة التعليم العالي الياباني.

التدريب على العمل ووصف أصل المرض

على الرغم من افتقار اليابان للموارد الطبيعية إلا أن الازدهار الذي عاشه الاقتصاد الياباني حتى عام ١٩٩٠ غالباً ما ينسب إلى التميز في قوتها العاملة والمهارة في إدارة الشركات التي كانت قادرة على توجيه عمالها للحصول على أفضل النتائج. ففي القطاع الخاص ضمنت الشركات للعاملين فيها وظائفاً مستقرة لفترة طويلة الأجل، كما وضعت اُطر عمل فعالة لتحسين مهارات العمال من خلال تكريس الوقت للتدرب على العمل. حيث حقق هذا النهج إنتاجية عالية من خلال التعاون والعمل الجماعي بدلاً من الاعتماد على مهارات فردية رفيعة بشكل استثنائي. وخلافاً لما حدث في أمريكا وأوروبا الشمالية حيث كان يتم تحديد صفات العمل ومتطلباته بوضوح تام، يركز إطار العمل في اليابان على الكفاءة من خلال التعاون، كما أن مواصفات العمل كانت أقل صرامة مما كانت عليه في الغرب. وهكذا فلم يكن من الضروري أن يكتسب الموظفون مهارات وظيفية معينة أومعرفة قبل الانضمام إلى شركة ما، حيث يمكنهم اكتساب هذه المهارات من خلال التدريب المطول على عملهم.

هذا يعني أن الشركات كانت تميل إلى عدم الاكتراث بالمواد التي درسها الخريجون في الجامعات أو ما هي المهارات الخاصة التي اكتسبوها هناك. إن قابلية العامل المحتملة للتدرب ومقدرته لتعلم ما يلزمه من مهارات في هذا العمل كانا الأمرين المهمين فقط، كما اهتمت الشركات بنوعية المدارس التي ارتادها الموظف المحتمل واعتبرته مؤشراً على قدراته. فقد كانت الجامعات تختبر مقدرة الطلاب على المواظبة على الدراسة والذكاء وسرعة الفهم كمعايير أساسية في امتحان القبول الجامعي والتي كان ينظر إليها كمؤشر على مقدرة الشخص على التدرب. وبسبب هذا فإن الطلاب الذين تمكنوا من الدخول إلى المدارس المرموقة عبر تجاوز امتحان صارم كانوا مرغوبين بشكل أكبر لدى دخولهم سوق العمل في اليابان.

يهرع الطلاب للبحث عن وظائف تاركين دروسهم وراء ظهورهم بسبب استمرار بدء موسم التوظيف في الشركات بوقت مبكر أكثر فأكثر.

احتوى هذا النهج في توظيف وتدريب الموظف على ثلاث خصائص رئيسية. أولا، كان هذا النهج فعالاً جداً على اعتبار أنه تمكن من توفير فرص عمل مستقرة ومستمرة، تركزت في الشركات الكبرى وعلى الموظفين الرجال. إلا أنه أصبح أقل فعالية مع تقلص الفرص أمام الوظائف الدائمة، وأكثر من ذلك فقد أصبح نظام التوظيف طويل الأمد مهدداً بالزوال. كما أنه غير جيد بالنسبة لتوظيف االسيدات والأشخاص الذين يغيرون وظائفهم أو الأشخاص الذين لديهم ثغرات كبيرة في سيرهم الذاتية.

ثانيا، ارتكز إطار العمل على سوق التوظيف المحلي حيث أن معاييره في اختيار العمال لم تكن تتعلق بالقدرة البارزة للعمال في معناها المطلق وإنما بالمستويات العالية نسبياً من قابلية التدرب. كما اعتمد هذا النظام على التنافس لتحقيق أعلى رتبة في نظام مغلق، وبالتالي فقد عدّلت الشركات من فترات التوظيف لديها بما يضمن الحصول على أفضل المواهب. وبالمثل فالطلاب الذين يتطلعون لتحسين وظائفهم في سوق العمل لم يجدوا امامهم خياراً آخر سوى البدء في عملية البحث عن وظائف في وقت مبكر استجابة لأسلوب الشركات اليابانية في التوظيف.

ونتيجة لكل هذه العوامل، فقد أصبح من الاعتيادي للطلاب الشروع في البحث عن عمل وإجراءات التوظيف خلال النصف الثاني من السنة الدراسية الثالثة في الكلية وربما قبل ذلك، بالرغم مما ينجم عنه من انقطاع عن الدراسة. ورغم أن هذا الاختصار في مدة التعليم الجامعي يؤثر حتما على نوعية الخريجين بالمعنى المطلق وبشكل عام، إلا أن الناس لا ترى أي مشكلة على اعتبار أن المنافسة مقتصرة على المستوى المحلي. ورغم تزايد الإدراك بالمساوئ العديدة لهذا النظام من وجهة نظر المجتمع ككل، إلا أن الشركات الخاصة والطلاب كانوا يعتبرونه إيجابياً خاصة فيما يتعلق بالتعيين وإجراءات التوظيف. وهو ما أدى إلى الإعادة مراراً وتكراراً لما يعرف بعلم الاقتصاد بأنه ’’مغالطة التعميم‘‘ والتي تفترض أن ما كان صحيحاً أو مؤثراً في حالات فردية يمكن أن يطبق في جميع الحالات.

ثالثاً، تم بناء إطار العمل هذا على افتراض أنه يمكن أن يشجع الطلاب على التنافس للالتحاق بأفضل الجامعات الممكنة. إن هذا التنافس للالتحاق بالجامعات الجيدة كان أساسياً في القابلية التدريبية التي يهدف إليها إطار العمل.

إلا أن النظام لم يعد يعمل بشكل صحيح نظراً للانحدار الواضح في عدد السكان الذين تبلغ أعمارهم ١٨ عاماً والانتشار الهائل للجامعات الخاصة. كما أن الحصول على قبول جامعي لم يعد تنافسياً، باستثناء بعض كليات النخبة، وبذلك فقد الطلاب الحافز للدراسة والتطوير من ذاتهم. ولأن الجامعات تحتاج إلى عدد معين من الطلاب لتحافظ على نفسها ككيانات اقتصادية قابلة للحياة، تمنح الجامعات الخاصة التي لا تتمتع بمؤسسات آمنة اقتصادياً قبولاً جامعياً للطلاب دون النظر إلى إنجازاتهم الأكاديمية أو مدى استعدادهم للدراسة طالما أنهم قادرين على دفع الرسوم الدراسية.

بالإضافة إلى ذلك، فقد تضافرت عدة عوامل مثل العولمة والتغيير الديموغرافي معاً لتأتي على أسس إطار العمل الياباني بشكله التقليدي. فلجأت العديد من الشركات إلى توظيف عدد أقل من الموظفين من الشباب بوظائف ثابتة جديدة وذلك للمحافظة على وظائف العمال الذين هم في منتصف خدمتهم وكبار السن مع العمل على خفض تكاليف الرواتب. وحدث تغير في طبيعة التوظيف من موظفين دائمين بامتيازات كاملة إلى موظفين غير دائمين بشكل جزئي أو مؤقتين. كما تزامن هذا التغير مع تخفيف قوانين العمل من أجل زيادة قدرة الشركات على المنافسة فيما يتعلق بتكاليف العمالة في اقتصاد عصر العولمة. ومن المفارقات انهيار إطار العمل الذي ضمن في السابق نوعية العمال. كما دمرت العولمة التنافس في إطار العمل الياباني على الصدارة النسبية ضمن الضوابط المحلية المغلقة. وكما ذكرت مسبقاً، نقلت العديد من الدول المتقدمة الأخرى تركيزها من التعليم الجاد إلى الدراسات العليا. ففي الوقت الذي نشاهد فيه دول أخرى تعلم شبابها لفترة أطول مما هو مسبوق وتطور نوعية المناهج، تفشل الجامعات اليابانية والشركات حتى في استغلال الأربع سنوات الجامعية في الدراسة بشكل كامل. وبالنتيجة تشهد اليابان انحدارا وهبوطاً واضحاً في مواهب ومهارات قوتها العاملة وبالتحديد في وقت تعتبر هذه المواصفات حيوية أكثر من أي وقت مضي في بيئة تشهد عولمة بشكل متسارع ومتزايد. وعلى الرغم من إدراك العديد من الناس أن هذا النظام خاطئ، إلا أن الشركات والجامعات والمجتمع ككل لم يتمكن بعد من اتخاذ خطوات إيجابية أو يصل لقرار واستراتيجية معينة لتغييره.

وهذا يعكس الطبيعة الحقيقية للمرض الياباني. حيث لا يمكن له مواكبة التغيرات الناجمة عن العولمة كما أن الجامعات والشركات تصر على إطار العمل الذي خدمهم جيداً في الماضي، بالإضافة لاستمرار الناس في جدلهم حول الفوائد النسبية لإطار العمل المغلق للمجتمع الياباني. وبالرغم من أن الشركات والأفراد على ادراك ودراية بأن لهذا المنهج آثاراً سلبية خطيرة عند النظر إليه من الخارج ومن منظور أوسع، إلا أنهم وفي مفارقة عجيبة غير قادرين على تغيير النظام أو التخلي عنه كلياً. وقد ترافق ذلك مع الوضع المتدهور اقتصادياً للعامة الذي أدى إلى حالة لا ينفع معها القليل لتحسين الأمور.

إن ما دعوته المرض الياباني ليس حصراً على اليابان فقط على أية حال. فالنزعة باتجاه سيطرة أقل، خاصة في قطاع التعليم، يؤدي إلى خصخصة وتسويق أكبر في العديد من البلدان حول العالم. وكما يتضح من المثال الياباني، لا توجد أية ضمانات لأن يؤدي النقاش العقلاني والسلوك من قبل الأفراد إلى أي تحسن في النوعية الإجمالية للتعليم أو إلى تساوٍ أكبر في فرص الالتحاق بالجامعة. حقيقةً، من المحتمل أن تؤدي المنافسة قصيرة النظر على المكاسب إلى انحدار أكبر في معايير التدريس وإلى فقدان التساوي في الفرص. ولكن كيف يمكن تجنب تلك الحلقة المفرغة الناجمة عن مغالطة التعميم فيما يتعلق بالتعليم والتدريب؟ أعتقد يمكن للعالم أن يتعلم الكثير من الخبرات اليابانية لمواجهة هذه المشكلة.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية)

المراجع

كاريا تاكيهيكو Kariya Takehiko، ”التضخم الاعتمادي والتوظيف في التعليم العالي العالمي: القبول وزيادة الاستيعاب والتساوي عبر الخصخصة في اليابان“. مجلة التعليم والعمل، المجلد ٢٤ العدد ١ـ٢ لعام ٢٠١١ صفحة ٦٩-٩٤.

يانو ماساكازو Yano Masakazu، شوكابيو ني ناتّا نيبّون نو دايجاكو، نيهون توشوسينتا ٢٠١١

يمكنك تصفح الروابط التالية لمعرفة المزيد عن النظام التعليمي في اليابان: The Debate over Japan’s Academic Decline University Reform and the New Basic Act on Education

التعليم جامعة البحث عن عمل