استراتيجية اليابان للنمو في العهد الجديد

تحرير التجارة اليابانية

اقتصاد

قررت حكومة آبي المشاركة في مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ. يتناول كبير الخبراء الاقتصاديين بمركز الدراسات العامة في شركة- سوجيتسو- السيد يوشيزاكي تاتسوهيكو المصلحة العامة التي يجب أن تسعى لها اليابان بغض النظر عن مزايا وعيوب تلك الشراكة.

مر مائة يوم على حكومة آبي رئيس الوزراء الياباني، وتسير خطط آبي الاقتصادية بشكل مبهر وسلس بدرجة مخيفة في نفس الوقت. ويبدو أن الاقتصاد الياباني بدأ يخرج شيئاً فشيئاً من قاع الركود الاقتصادي الذي وصل إليه أثناء الخريف الماضي، كما يظهر التقدير العام الوارد بالتقرير الإقتصادي الشهري للحكومة، اتجاهاً تصاعدياً مستمراً طوال الثلاثة أشهر التي مرَت بين شهريّ يناير/ كانون الثاني ولغاية مارس/أذار الماضيين. كما يشير إقتراح الموازنة العامة للعام المالي الذي بدأ في أبريل/ نيسان ٢٠١٣ إلى التوقع بإرتفاع غير مسبوق في السنوات الأخيرة بحوالي ٢٫٥٪ في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الياباني. وعلى صعيد العلاقات، سجل آبي نجاحاً مهماً في محادثاته مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما بواشنطن في شهر فبراير/ شباط الماضي التي هي أول قمة له مع أوباما. وكان من المتوقع أن يقوم آبي بأكثر من مجرد المصافحة ونقل نواياه الطيبة، فقد تمكن من أن يخرج ببيان مشترك مهد الطريق لأول قرار سياسي قوي وهو قرار الانضمام لمفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ بقيادة إلى الولايات المتحدة، وفيما يعد أول مغامرة يخوضها رئيس الوزراء الياباني آبي الذي يثق من حصول حزبه على نتيجة إيجابية في انتخابات مجلس المستشارين القادمة التي ستجري في شهر يوليو/ تموز من هذا العام. وبينما لم يكن إعتراض الجمعيات الزراعية في اليابان بالشئ الهين، فإنه يبقى من الصعب كذلك مقاومة قرارات رئيس وزراء يحظى بنسبة تأييد عالية تصل الى ٧٠٪. حتى أنّ الحزب الليبرالي لم يظهر اعتراضات قوية على الدخول في تلك المفاوضات. وقد تلى ذلك تقدم كبير في المفاوضات الأولية مع كل دولة من الدول الأعضاء. وأصبحت دراسة المشاركة في هذه الاتفاقية والآثار الاقتصادية والدبلوماسية المترتبة عليها الشغل الشاغل للحكومة كما قال آبي: ”هذه الاتفاقية هي بمثابة خطة طويلة المدى“. وهذا هو الأمر الذي أود مناقشته خلال هذا المقال.

الإتجاه المحافظ لا يعني حكومة صغيرة

خلال حملة الانتخابات العامة التي جرت في خريف عام ٢٠١٢، تحدث رئيس الحزب الليبرالي شينزو آبي عن أهمية خطة تخفيف القيود النقدية للإفلات من الانكماش الاقتصادي. وترددت أصداء تلك الكلمات كمفردات حديثة على مسامع الحزب الحاكم وقتها، وإستقر الأمر على تسميتها ”آبي نوميكس“. وساهمت تلك السياسة بلعب دور محرك أساسي تسبب في فوز الحزب الليبرالي في الانتخابات العامة. وتحرك السوق بشكل كبير نحو انخفاض سعر الين وارتفاع سعر الأسهم بالبورصة بشكل متواز مع التسهيلات المتوقعة على القيود النقدية. وتحسن الشعور العام بتحسن الاقتصاد بشكل متسارع. وهذا كله بالإضافة الى تأكيدات آبي وهو من التيار المحافظ بضرورة تخفيف القيود النقدية، قد ينظر إليها بشئ من الإستغراب خارج اليابان. لكن هذا الحزب المحافظ في اليابان لا يعني بالضرورة ”حكومة صغيرة“. فقد كانت حكومات الحزب الليبرالي قبل حكومة كويزمي ينظر إليها كحكومات تسعى إلى توسعات كبيرة في السياسات المالية. كما لعبت حكومات حزب السييوكاى أدواراً مماثلة قبل الحرب العالمية رغم كونها حكومات لحزب محافظ أيضاً. وبالعكس كانت الأحزاب الإصلاحية التي قامت بسياسات تقشفية أكثر من الأحزاب المحافظة. فقليل جدا من الآراء داخل اليابان هي التي ترى تعارض في كون حكومة آبي ضمن تيار الصقور في السياسات الدبلوماسية والأمنية من ناحية بينما تقف في موقف تيار الحمائم في سياساتها المالية من ناحية أُخرى.

ثمار الخطط المالية والنقدية

أظهرت حكومة آبي التي وصلت للسلطة في ديسمبر/ كانون الاول ٢٠١٢، تفسيرا لسياساتها المالية بأنّ ”أبي نو ميكس“ تساوي ثلاثة مبادئ رئيسية وهي: التسهيلات المالية، تخفيف القيود على السياسات النقدية، تحفيز الاستثمار. وبالتالي، فإن ”آبي نو ميكس“ في معناها الضيق تعني سياسات مالية جريئة تهدف للهروب من التضخم والانكماش. وبمعناها الواسع فهى تشمل كل السياسات الاقتصادية لحكومة آبي، وقد تقدم كل من المحورين الأول والثاني وأينعت ثمارهما.

١. على مستوى السياسات الإقتصادية، أصدر رئيس البنك المركزي الياباني كورودا هاروهيكو إجراءات جريئة  مثل ”مضاعفة الاحتياطي النقدي“ خلال اجتماعات لتحديد السياسات النقدية بمجرد تعيينه. وفاقت خطة السيد كورودا ”تفادي المساهمات المتوالية القوية“ كل التوقعات محققة إنخفاض في سعر الين وإرتفاع في سعر الأسهم بشكل متسارع ومضطرد، على الرغم من وجهات النظر الزاعمة بوجود مخاطر من تضخم غير حقيقي في سعر الأصول.

٢. استطاعت حكومة آبي من خلال سياساتها المالية توفير ميزانية تكميلية تقدر بحوالي ١٣ ترليون/ ألف بليون ين في نهاية فبراير/ شباط الماضي. وأكد إصدار سندات حكومية بحوالي ٥ ترليون ين كمصدر مالي، وكدليل على العلاقات الجيدة بين الأجهزة الحكومية ووزارة المالية. سيما ويعد الجزء الذي تم تنفيذه من خطة الميزانية التكميلية حتى نهاية مارس/ آذار التي تمتد إلى ١٥ شهر من يناير/ كانون الثاني ٢٠١٣، مجرد جزء صغير مقارنة بالخطة كاملة. ومن المتوقع أن تساهم تلك الخطة التي ستنفذ طوال ١٥ شهر إلى رفع النمو الإقتصادي خلال العام المالي ٢٠١٣.

استراتيجية النمو

وقد تقلقنا استراتيجية النمو أي المحور الثالث. لأن النمو الاقتصادي الحقيقي أهم بشكلٍ أكثر من تحفيز الحالة الاقتصادية عبر تنفيذ السياسات النقدية والمالية. ويرجع السبب في ذلك إلى أن ”استراتيجية النمو“ هي عبارة يكتنفها الغموض وتماثل مصطلح ”الإصلاحات الهيكلية“ الذي تبنّته حكومة كويزومي، فكلاهما سهل الاستخدام ولكنهما يفتقدان الوجهة والتحديد.

ولربما يعد الأمر غريباً حين يقال أن اليابان كدولة متقدمة تتبنى اقتصاديات السوق والاّ ان الجوهر يكمن بقيام الحكومة بتحديد اوجه الربح والخسارة في الاقتصاد وهذا ما جعل محور استراتيجية النمو هو الأهم بعد القرار الخاص بالمشاركة في مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادي وقد لوحظ من قبل أن تأخر اليابان في الانضمام إلى المفاوضات من أجل تحرير التجارة، يؤثر على تنافسية الشركات اليابانية. لذلك فإن التجارة الخارجية والاستثمار الخارجي من خلال مثل تلك الاتفاقيات هما مفتاح النمو المستمر لليابان سيما وان اليابان بلد يعاني من تناقص السكان وشيخوخة تضرب المجتمع وهذا أمرٌ من شأنه ان يحول دون أي نمو للسوق المحلي فيها. ويعمل حالياً مجلس التنافسية الصناعية الذي أسسته الحكومة في يناير/ كانون الثاني ٢٠١٣، على بلورة استراتيجيات نمو جديدة حتى شهر يونيو/ حزيران. ووفقاً لأقوال خبير اقتصادي وعضو في تلك اللجنة ”فإن الانضمام لمفاوضات الشراكة عبر المحيط. هو بمثابة ثورة سوف تغّير القاعدة الأساسية للاقتصاد الياباني. أي أن الهدف هو إستغلال المباحثات لإصلاح كل القوانين التي تسببت تأخراً في مجالات عديدة حتى الأن“.

الحفاظ على الوضع الحالي لن يأتي بجديد

ولكن حتى الأن ظل التيار المقاوم للانضمام لمفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ قويا داخل المجتمع الياباني وهو ما لم يسمح للحزب الديمقراطي حين كان في السلطة بإقرار المشاركة في المفاوضات. ولعّل أقوى أمثلة المعارضة تمثلت في الجمعيات الزراعية والعلاجية. وقد أعلنت ويندي كاتلر مساعدة مندوب التجارة الأمريكية أثناء قمة الأعمال التي عقدت في مارس/ أذار ٢٠١٢ في طوكيو ما يلي ”لا تتطلب اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ خصخصة منظومة التأمين الصحي سواء في اليابان أو غيرها من الدول“، ”لا تتطلب تلك الشراكة موافقة مقدمي الخدمات العلاجية من القطاع الخاص على الخدمة العلاجية المختلطة“. وعلى الرغم من ذلك لا تتوقف نقابة الأطباء عن القيام بحركات احتجاجية. وربما يرجع ذلك إلى خطورة إستمرار منظومة التأمين الصحي على وضعها الحالي وإدراكهم لتلك الأزمة، لكن ذلك لا يعني وجود أي علاقة بين الاتفاقية وواقع منظومة التأمين الحالية. كما ينطبق نفس الأمر على المنظومة الزراعية ويخشى كبار سن مسئولي القطاع الزراعي، من عدم وضوح مستقبل هذا القطاع، وهذا ما يؤدي إلى حساسية مفرطة لا مفر منها إزاء أي خطوة قد تتسبب في تدهور إدارة هذا المجال. سيما وأنّ القطاع الزراعي في اليابان ليس في وضع يسمح له بالاكتفاء بمجرد دور دفاعي إزاء الوردات الزراعية من الخارج. وعليَه فمن الضروري اتخاذ العديد من الإجراءات الإصلاحية التي من شأنها تطوير القطاع الزراعي وتحفيز دخول مستثمرين جدد ودماء جديدة له من المجالات الأخرى وكذلك إحياء أنشطة تصدير الحاصلات الزراعية. وبالطبع قد يؤثر إلغاء الجمارك على الواردات أو إلغاءها على التنافسية الدولية للحاصلات الزراعية اليابانية، ولكن من الضروري إصلاح الخطط الزراعية اعتماداً على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. وفي المقابل، نسمع كثيراً عن توقعات متباينة وكأن الانضمام إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ سترفع من معدل نمو الاقتصاد الياباني إلى نسبة مئوية معينّة، إلاّ إن هذه التوقعات تعتمد بشكل أساسي على الحسابات المبدئية التي يقوم بها الاقتصاديون.

تجاوز الجدل حول مزايا وعيوب الشراكة

”هل تعد الشراكة مكسب أم خسارة لليابان؟“ مثل هذا الجدل غير مفيد. فالحكم على المزايا والعيوب يعتمد على المركز الذي نقف فيه. وأكثر من ذلك فإنه من الطبيعي حين تنفذ إصلاحات أن يقوم الطرف الذي سيخسر (يعتقد أنه سيخسر) بالمقاومة، وبالا يرتفع صوت الطرف الذي يعتقد أنه سيستفيد من الشراكة. لذا فإن محتوى هذه المباحثات لن يعرف إلا بالبدء فيها. كما يجب التساؤل عن ”ما هي اتفاقية  الشراكة عبر المحيط الهادي“ و ”ماذا تريد اليابان من الإنضمام لتلك الشراكة“. لذا يجب الحديث عن دوافع الانضمام للشراكة وليس عن مزاياها وعيوبها. وجدير بالذكر انّه حتى الأن لم يتحدث مؤيدي الإنضمام للشراكة عن دوافعهم من الإنضمام، بل مجرد الإكتفاء بالقول ”لا يوجد ما يدعو للقلق“. وعلى العكس يتحدث معارضي الشراكة إنه ”من بين الـ ٢١ قطاعا، هناك مشاكل في هذا القطاع بالذات“. والحقيقة هي أنه للأسف لن يؤدي مثل هذا الجدل لأي نتيجة مفيدة.

الاسباب وراء ضرورة مشاركة اليابان بالمفاوضات

انضمام اليابان إلى مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ يحمل المعاني الثلاثة التالية:

١. تعويض التأخير الحادث في تنافسية تحرير التجارة والإشتراك في تحديد القوانين

تعد الشراكة عبر المحيط الهادئ كمشروع كبير وفرصة ذهبية لليابان لتعويض تأخرها عن الإنضمام لإتفاقية تحرير التجارة التي غابت عن جولتها التي عقدت بالدوحة المدعومة من منظمة التجارة العالمية. وفي ذات الوقت تعد الشراكة عبر المحيط الهادئ تجربة مهمة لصياغة قواعد جديدة لكل من التجارة، الاستثمار، الملكية الفكرية، العمل والبيئة. لذا فلابد من المشاركة في تلك التجربة.

٢. تأسيس منظومة إقتصادية إقليمية لدول أسيا بالمحيط الهادئ

إن الشراكة عبر المحيط الهادئ هي طريق مضمون للوصول لتحقيق إتفاقية التجارة الحرة لدول أسيا بالمحيط الهادئ.

ويمكن كذلك الاعتماد على آثارها التي ستصل إلى إتفاقيات التجارة لكل من اليابان، كوريا والصين وإتفاقية الإقتصاد العامة لدول منطقة شرق أسيا.

٣. طريقة لتحفيز الإصلاحات الداخلية

القطاع الزراعي في اليابان ليس في حالة تسمح بالتأكيد على أن مستقبل الزراعة في مأمن لمجرد الإبتعاد عن تلك الشراكة. فالآن هو الوقت المناسب لتنفيذ الإصلاحات التي كان يجب تنفيذها منذ جولة اجتماعات الأورجواي بين عامَيّ ١٩٨٦و١٩٩٤.

تراكم القواعد التي تحددها العلاقات اليابانية الأمريكية

لا تعد الشراكة عبر المحيط الهادئ بمثابة الانفتاح الثاني أو الثالث. وليست كذلك ايضا الاحتلال الأمريكي الثاني. فهي لا تتعدى كونها مباحثاًت تجارية بحد ذاتها في نهاية الأمر. كما لا ينبغي إساءة فهم تلك الشراكة على أنها مخطط أمريكي لاحتواء الصين. ففي مجمل الأمر تعد تلك الشراكة بمثابة تحفيز لحرية التجارة تصب في المصلحة العامة لليابان، وهي تأسيس لمنظومة الاقتصاد لدول آسيا بالمحيط الهادي. ولا يوجد هناك أمل لحل قريب للأزمة الاقتصادية للدول المتقدمة وأزمة ديون الولايات المتحدة. لذا يجب على اليابان أن تدعم القوة الاقتصادية لدول أسيا وتعمل على تنميتها من خلال التجارة والاستثمارات. ولا يقتصر الأمر على ذلك. فقد تحدث آبي عند زيارته للولايات المتحدة في مركز الدراسات الدولية للقضايا الدولية في فبراير/ شباط الماضي عن الدور القيادي لليابان كمحرك للقوانين. ويعتقد أن أي قواعد ترسيها القوة الاقتصادية الأولى على المستوى العالمي وهي الولايات المتحدة مع القوة رقم ثلاثة وهي اليابان ستحظى بقوة إقناع كبيرة لدى باقي الدول. وأخيراً حتى بالنسبة للصين، يجب دعوتها للإنضمام. وبهذا فانّه بالفعل تكون هذه الشراكة هي حقا خطة جيدة طويلة المدى بالنسبة لليابان.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية)

TPP شينزو آبي الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ