اليابان وتايون

اليابان خالدة في قلوب شباب الحرفيين التايوانيين

ثقافة

تحدثنا الكاتبة هيتوتو تايه التي ولدت لأب تايواني وأم يابانية عن قصة رواها أحد معارفها عن الحرفيين الشبان ممن أتوا في الماضي من تايوان للعمل في أحد المصانع الحربية باليابان.

تلقيت قبيل الإجازة السنوية في اليابان والمعروفة بـ (الغولدن ويك) لهذا العام من صديقي التايواني ران رسالة عبر الفاكس يسألني فيها فيما إذا كنت مهتما بالمشاركة حول ما يسمى بـ (تايوان كوزاكاي) التي يحضرها العديد من التايوانيين. قمت بالرد عبر البريد الإلكتروني معبرا عن عدم رغبتي في الحضور. فأجابني ران أن تايوان كوزاكي هي عبارة عن منتدى يجمع التايوانيين الذين تم إرسالهم لليابان لصناعة الطائرات المقاتلة أثناء الحرب العالمية. وتشير كلمة كوزا إلى مدينة كوزا القديمة في محافظة كاناجاوا ويوجد حاليا بتلك المحافظة لاسيما في مدن ساجاميهارا وياماتو وزاما العديد من المنتديات الخاصة بالقوات البرية والبحرية السابقة. فوعدت ران بالمشاركة وانتهزت الفرصة للبحث قليلا عن العمال الشباب من تايوان.

دعوة الحرفيين الصغار من تايوان لصناعة الطائرات المقاتلة

أرسلت اليابان الكثير من شبابها للقتال بالجبهات الأمامية في أواخر فترة الحرب فتسبب ذلك في نقص العمالة اللازمة لتصنيع وتحضير الطائرات المقاتلة في البلاد. ولذلك تم استقدام الأيدي العاملة الشابة من تايوان التي كانت خاضعة للحكم الياباني. وكان يشترط على المتقدمين أن يكونوا من المتفوقين دراسيا، ومن المتمتعين بالقوة والصحة البدنية، والمتحلين بالأخلاق العالية اضافة الى موافقة الأهل، وعند استكمال تلك الشروط  يتمكن الناجحون من المضي قدما للدراسة في مدراس إعدادية خاصة للحصول على المؤهلات والمهارات اللازمة لهندسة الطيران.

ولعل ما جذب المتقدمين لهذه الفرصة هو تكفل اليابان بمصاريف المعيشة كاملة عن طريق النفقات العامة وهذا بالإضافة إلى حصولهم على مرتبات. وفي عام ١٩٤٣ غادرت الدفعة الأولى من هؤلاء المتدربين الشباب الذين كانوا يبلغون حوالي ١٤ عاما من العمر ميناء كاوهسيونغ ليصلوا بعدئذ إلى ميناء يوكوهاما. وقد كان السيد ران البالغ آنذاك ١٥ عاما من العمر واحدا من هؤلاء الشبان. وخلال سنة واحدة وصل إلى الترسانة البحرية لمدينة كوزا أكثر من ٨٤٠٠ فرد. كما تشّكل منتدى تايوان كوزاكي عام ١٩٨٨ أي بعد رفع الأحكام العرفية في تايوان ( وعرف بعدها باتحاد العلاقات اليابانية التايوانية تايوان كوزاكاي). وتم الإحتفال عاميّ ١٩٩٣ و٢٠٠٣ بذكرى مرور ٥٠ عاما و٦٠ عاما على التوالي على تشكيل المنتدى وتم دعوة (الحرفيين الشباب) لحفل الترحيب في اليابان وكما أقيم هذا العام في ٩ مايو/ أيار الاحتفال بمرور ٧٠ عاما.

قصص الحرب الخالية من المآسي

لقد تأثرت كثيرا من الحماس الذي أبداه هؤلاء (الحرفيين الشباب) وكانوا قد تجمعوا أمام محطة مينامي رينكان على خط قطار أوداكيو أنوشيما. وعلى الرغم من كبر سنهم، إلا أنهم كانوا يبدون في صحة جيدة وهم يتوجهون في أفواج متتالية حمّلتها الحافلات الموصّلة لقاعة الحفل. وفي الحافلة تبادلوا الأحاديث بلغة يابانية فصيحة على الرغم من وجود بعض الأخطاء في استخدام أدوات الجر واختلاطها ببعض الكلمات التايوانية.

وكان منهم من أتى وحده وآخرين من أتوا بصحبة أولادهم أو أحفادهم. حيث تبادلوا أطراف الحديث مع من ألتقوا من أصدقاء الماضي داخل الحافلة. وكان كلامهم ملئ بالذكريات مثل ”لقد أدهشتني برودة اليابان عند أتيت مبتعدا عن بلادي وأهلي في تايوان“ و”لم أجد شيئا لأكله، لازلت أحتفظ بإحساس الجوع هذا“ و”لقد كنت على وشك الموت بسبب الغارات الجوية". وكان من الغريب أن تجد أن حديثهم كله ضاحك ويخلو من المآسي، بل ويميل للمتعة أحيانا. وفي القاعة، قام الجانب الياباني بتوجيه كلمات الترحيب مثل ”أهلا مجددا“، وغلب التصفيق المدوي في أغلب الأوقات. وتم إهداء خطاب التقدير من رئيس الوزراء الأسبق موري يوشيرو وفي الختام قام رئيس إتحاد العلاقات اليابانية التايوانية تايوان كوزاكي، السيد لي فنج بتوجيه كلمات الشكر للحضور.

الشبان الذين إجتهدوا من أجل ”الوطن“

وتحدث رئيس الإتحاد السيد لي أنه قد عاد إلى تايوان بعد خسارة اليابان في الحرب وباعد نفسه عن حكومة الحزب الشعبي. وفي عام  ١٩٨٨ بذل أقصى جهده لإنشاء منتدى الكوزاكاي وعاد مرة أخرى لليابان عام ١٩٩٣ للإحتفال بذكرى مرور ٥٠ عاما على إقامته وذكر أيضا أنه يشعر بالفخر لتجمع الشبان التايوانيين مرة أخرى في اليابان. وإختتم حديثه قائلا أن اليابان هي بلده الثاني. وقامت الحكومة اليابانية في ربيع هذا العام بإرسال جائزة كيوكجيتسو شوجو للسيد لي.

وأثناء الإستراحة أتيحت لي الفرصة للتحدث مع بعض هؤلاء الأشخاص فقالوا لي: ”بالطبع كان العمل صعبا في ظل البرودة وقلة الطعام في بلد أخر ولكن كان ذلك هو الوضع الطبيعي حتى بالنسبة لليابانيين“، وقالوا أيضاً: ”لقد قام سكان كوزا المحليين بإقتسام طعامهم معنا وعاملونا بود كأفراد من عائلاتهم“، وأضافوا: ”إن اليابان هي المكان المميز الذي أمضينا فيه فترة شبابنا“. لقد ولد هؤلاء الرجال كيابانيين وبذلوا ما في وسعهم لـ ”وطنهم“. لذا توافرت لديهم الروح اليابانية، وحتى بعد أن حصلوا على استقلالهم بعد انتهاء الحرب وأصبحوا أجانبا عن هذا البلد فإنهم لم يفقدوا هذا الفخر. ولم ينسوا لطف اليابانيين وقتها وماتزال لديهم تلك الرابطة القوية بين بلدهم واليابان.

اليابان موجودة في قلوبهم

لقد تلقی هؤلاء الشبان أثناء خضوع تايوان للحكم الياباني تعليمهم باللغة اليابانية (١٨٩٥-١٩٤٥)، وتشربت الثقافة اليابانية في قلوبهم. ولايمكن بأي شكل تناول العلاقات اليابانية التايوانية دون التحدث عن مثل هذه الروابط التاريخية. وإن معدل أعمار الشبان الحرفيين الذين عايشوا هذا التاريخ يبلغ الآن حوالي الـ٨٥ عاما.

إن والدي تايواني ولد عام ١٩٢٨. وهو من نفس جيل الحرفيين الشبان. ولقد قمت بتأليف كتاب عن حياة والدي اسميته "صندوق حياتي" وكما أصدرت نسخته التايوانية في شهر آذار/ مارس من هذا العام.

وأثناء كتابتي لهذا الكتاب، تعرفت من خلال حياة والدي على العلاقات اليابانية التايوانية التي لم أفكر فيها من قبل على الإطلاق وجعلتني هذه التجربة أفكر لأول مرة في أزمة الهوية التي حلت على والدي وجعلته يحتار فيما إذا كان ”يابانيا أم تايوانيا“. وبعد انتهاء الحرب العالمية وقع والدي أسير التفكير في أزمة الهوية تلك ولم يستطع العمل وأصيب بالاكتئاب. وقد شعرت أن هذه المعاناة كانت مشتركة إلى حد كبير بين الشباب الحرفيين. وعلى الرغم من اختلاف مشاعر كل منهم إزاء اليابان، فإنه من المؤكد أن لليابان مكانة لا تتزحزح من قلب كل منهم.

علاقات أخوية تجاوزت المائة عام

تشتهر تايوان لدى الكثير من اليابانيين بالتدليك وحلوى الزلابية وبأنها بلد صديق لليابان. ومع ذلك أصابت الدهشة الكثير من الناس (وأنا واحد من هؤلاء) كون تايوان على قمة البلدان التي أرسلت إعانات مادية لليابان بعد حادثة التسونامي الشهيرة التي ضربت شرق اليابان.

ومن المؤسف تفسير هذا الأمر بمجرد ”صداقة تايوان لليابان“. حيث أن وراء ذلك توجد العديد من الأمور المهمة كمنتدى كوزاكاي تايوان، وكذلك التاريخ الطويل الذي يجمعنا، والعديد من الأوقات الصعبة والذكريات المؤلمة إلا أن الوقت كان كفيلا بمحو كل تلك الأحداث من أذهاننا ولذلك نقف اليوم لنسترجع ذكريات الماضي. لا أدري ولكن ربما لكوني الأخت الكبرى، فإنني أرى العلاقة بين اليابان وتايوان علاقة أخوية. لذا وعند وقوع كارثة التسونامي في مارس /آذار ٢٠١١ سارعت تايوان كالأخت الكبرى بتقديم أكبر دعم للأخت الصغرى اليابان. وبالمثل كانت اليابان بمثابة الأخت الكبرى وأرسلت أكبر فريق إغاثة لمساعدة تايوان الأخت الصغرى في كارثة الزلزال التي ألمت بها عام ١٩٩٩.

لذا في بعض الأحيان تكون تايوان الأخت الكبرى وفي أحيان أخرى تكون الأخت الصغرى وكالأخوات تساعد البلدان بعضهما البعض وأحيانا قد تختلفان لبعض الوقت ولكن تعودان للتصالح دون وجود أي اختلاف جذري.

توارث ذكريات الشبان الحرفيين السابقين

قام الحضور بغناء أغنية ”بعيداعن مدينتي ألاف الكيلومترات“.

تجمع في القاعة ما يقارب الألف شخص من اليابانيين والتايوانيين، ولكن كان القادمون من تايوان هم الأعلى صوتا، وذلك ربما لتذكرهم العديد من ذكريات الماضي، ولقد شهدت الدموع تترقرق في عيني السيد ران.

خلال الاحتفال بالذكرى الخمسين حضر من تايوان ١٤٠٠ فرد من الشباب الحرفيين. وفي الحفل القادم عام ٢٠٢٣ سيكون قد مر٨٠ عاما وسيكون متوسط عمر الشباب الحرفيين ٩٥ عاما. ولذلك لا أعلم كم منهم سوف يستطيع المشاركة. ومن المحزن سماع بعض الآراء بأن احتفال هذا العام، سيكون الأخير. وإنني لا أود أن

يكون هذا الحفل الأخير. وحتى وإن بقي واحد منهم فقط، وحتى وإن ماتوا جميعا، فإننا يجب أن نرث عنهم ذكرياتهم وعزيمتهم ونخلد حياتهم التي مثلت الرابط بين اليابان وتايوان ليستمر منتدى كوزاكاي تايوان. وإن أمكن سوف أحمل على عاتقي إرث هذا المنتدى الرائع.

(المقالة الأصلية باللغة اليابانية، ١٧ مايو/ ايار  ٢٠١٣، الصورة: مدينة كيوبون شمال تايوان اثناء زيارة كاتب المقال، تصوير: كوماجاي توشيوكي)

اليابان تايوان