استقلالية القضاء... القيود السياسية والبيروقراطية على القضاء الياباني

مجتمع

إن القضاء المستقل هو أحد أركان الديمقراطية في اليابان، ومع ذلك يجادل الخبير القانوني موراؤكا كيئيتشي بأن عملية التعيين البيروقراطية للقضاة تنتج عنها محاكم ذات عقلية محافظة تعجز عن ممارسة الاستقلال القضائي كما ينبغي.

لقد كان اعتقال كارلوس غصن، المدير التنفيذي السابق لشركة نيسان، سبباً في تسليط الضوء على نظام العدالة الجنائية الياباني. فبعد هروبه الهوليودي من اليابان إلى مسقط رأسه لبنان في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وجّه غصن انتقادات لاذعة للطريقة التي تعاملت بها السلطات اليابانية معه، مما دفع الكثيرين خارج اليابان إلى انتقاد الإجراءات الجنائية في البلاد باعتبارها غير عادلة. وركزت معظم الانتقادات على المدعين العامين في البلاد بسبب أسلوبهم في احتجاز المشتبه فيهم لفترات طويلة قبل توجيه الاتهامات إليهم وعدم السماح لمحامي الدفاع بحضور الاستجوابات، لكن المحاكم تعرضت أيضًا لانتقادات بسبب سماحها باستمرار مثل هذه الممارسات المريبة.

فيما يلي أقوم بتقييم هيكل النظام القضائي الياباني وإلقاء نظرة على القوى الداخلية والخارجية التي تؤثر على الكيفية التي تتبعها المحاكم عند الفصل في القضايا.

التأثير السياسي على السلطة القضائية

باعتبارها ديمقراطية دستورية، تحرص اليابان على الفصل بين سلطات الدولة القضائية، والتنفيذية والتشريعية منها. تتمتع المحاكم بسلطة قضائية منفردة ومستقلة تمامًا عن الفرعين الآخرين للحكومة، كما ينص الدستور على أن القضاة يجب ألا يخضعوا لأي قيد ”في ممارستهم وفقاً لضمائرهم“ وأنهم ملزمون فقط بـ ”الدستور والقوانين“. علاوة على أن الدستور يمنح المحكمة العليا السلطة النهائية للبت في المسائل الدستورية، وإجراء فحص قضائي صارم على الفروع الأخرى.

من واجب المحاكم التمسك بمبادئ الديمقراطية التعددية في اليابان من خلال ضمان ألا يتم سحق حقوق المواطنين الأفراد تحت مطرقة مطالب حكم الأغلبية، إلا أن إحجام المحكمة العليا عن إلغاء القوانين ألقى بظلال من الشك على هذه الأيديولوجية المتغطرسة. فخلال سبعة عقود هي عمر المحكمة العليا، قامت بإعلان عدم دستورية 10 قوانين فقط لا غير.

ينبغي اعتبار سلبية المحكمة العليا جزءًا من أيدولوجية أوسع نطاقًا وطويلة الأمد تتبناها المحاكم اليابانية تتمثل في ضبط النفس القضائي تجاه تصرفات السلطتين التنفيذية والتشريعية. لفهم السبب وراء ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار مستوى النفوذ الذي يتمتع به مجلس الوزراء على القضاة.

أولاً، الطريقة التي يتم بها اختيار القضاة. يمنح الدستور مجلس الوزراء سلطة تعيين القضاة في المحكمة العليا والمحاكم الأقل درجة، بما في ذلك رئيس القضاة الذي يختاره الإمبراطور ظاهريًا ولكن يتم ترشيحه من قبل مجلس الوزراء. ويحد هذا النهج من استقلالية القضاء إلى حد كبير من خلال تمكين الأحزاب الحاكمة في ذلك الوقت من استغلال سلطتها في التعيين لتوزيع الترقيات ”كمكافأة“ على القضاة الذين يدعمون سياسات الحكومة و”معاقبة“ غير الداعمين لتلك السياسات. بدون إجراء انتخابات تنتج عنها إعادة صياغة منتظمة للشأن السياسي (سيطر الحزب الليبرالي الديمقراطي على اليابان خلال معظم فترة ما بعد الحرب)، أو جلسات استماع تأكيدية عامة من شأنها أن تمنح فصائل المعارضة فرصة لفحص المرشحين، سوف يستمر هذا الأسلوب في إنتاج كوادر للسلطة القضائية أكثر انسجامًا مع الحزب الذي يأتي على رأس السلطة -الحزب الليبرالي الديمقراطي- على حساب الإرادة الديمقراطية للشعب.

قضية سوناغاوا

للوصول إلى فهم أفضل حول موقف المحاكم المتحفظ تجاه إجراء أية مراجعة قضائية، يجب الاعتراف بأن التحالف الأمني الياباني مع الولايات المتحدة له نفوذ على النظام القانوني الياباني بشكل أكبر منه على النظام الدستوري.

ضمنت المعاهدة الأمنية اليابانية الأمريكية واتفاقية تموضع القوات، وجودًا مستمرًا للقوات الأمريكية في اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في حين يُنظر إلى هذه الاتفاقات على نطاق واسع باعتبارها مفتاحاً لتحقيق الهدف المتبادل المتمثل في ضمان السلام والاستقرار في منطقة شرق آسيا، إلا أنها ذات طبيعة سياسية للغاية وتأتي في منطقة قانونية لا تخضع للمعايير التفسيرية للقانون الدستوري.

ويدلل علماء القانون على هذه الحقيقة بالحماية المقدمة للقواعد الأمريكية على حساب حقوق المواطنين الأفراد، فضلاً عن أحكام المعاهدات مثل اتفاقية تموضع القوات التي تمنع السلطات اليابانية من احتجاز الأفراد العسكريين الأمريكيين المشتبه في ارتكابهم جرائم حتى يتم اتهامهم رسميًا، إلا أن حكم المحكمة العليا في قضية سوناغاوا لعام 1959، التي تركزت على دستورية الوجود العسكري الأمريكي بموجب بند نبذ الحرب الوارد في المادة 9 من الدستور، قد أسس لسابقة في مبدأ الشك السياسي، وهو مفهوم قانوني يحد من سلطة المحاكم التي تخولها إصدار أحكام في الشؤون السياسية.

تمحورت القضية حول اعتقال وإدانة عدد من المتظاهرين بموجب قانون خاص يتعلق بالمعاهدات بعد دخولهم قاعدة عسكرية أمريكية في ضاحية سوناغاوا بطوكيو في يوليو/ تموز 1957. وفي مارس/ آذار 1959 برّأت محكمة منطقة طوكيو تلك المجموعة معلنة أن وجود القوات الأمريكية يعد انتهاكًا للمادة 9. لكن المحكمة العليا ألغت قرار المحكمة الأقل درجة في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام على أساس أن المحاكم لا تمتلك الأهلية للحكم في الشؤون السياسية الحساسة مثل المعاهدات الأمنية اليابانية مع الولايات المتحدة.

كان تأسيس المحكمة لمبدأ الشك السياسي هذا مهمًا، حيث أصبح المبرر النظري لنظام قانوني لا يخضع لمعايير الدستور بدعوى دعم الاتفاقية الأمنية الثنائية. ويثير شكوكًا جدية حول ما إذا كانت اليابان محكومة فعليًا بسيادة القانون. وما يدعو للقلق بنفس القدر، هو الطريقة التي أرسى بها هذا المبدأ سابقة للأداء السلبي فيما يتعلق بالأمور السياسية، الأمر الذي نتج عنه نمط ثابت من التحقق القضائي فيما تقوم به الحكومة.

حدث تطور جديد في قضية سوناغاوا عندما كشفت الأبحاث عن وجود وثائق في الأرشيف الوطني الأمريكي تبين قيام دوجلاس ماك آرثر الثاني الذي كان سفير الولايات المتحدة في اليابان آنذاك، بناءً على أوامر من الحكومة الأمريكية، بالضغط مرارًا وتكرارًا على رئيس المحكمة تاناكا كوتارو ليقوم بإلغاء الحكم الصادر عن المحكمة المحلية، مما يمثل انتهاكاً صارخاً للسرية القضائية، وتحتوي سلسلة البرقيات المرسلة إلى وزارة الخارجية الأمريكية على تفاصيل مثل آراء قضاة المحكمة العليا وسير المداولات والحكم النهائي المتوقع. يُظهر هذا الاكتشاف كيف أن رئيس المحكمة تاناكا شعر بأنه ملزم بالحفاظ على المعاهدة الأمنية اليابانية الأمريكية أكثر من شعوره بالالتزام تجاه واجبه الحقيقي في الحفاظ على نزاهة الدستور، تاركًا وصمة عار في استقلالية القضاء الياباني.

القضاة البيروقراطيون

جانب آخر يؤثر على سلبية السلطة القضائية هو طبيعتها البيروقراطية الشديدة، فعلى عكس دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث يقضي المرشح عمومًا سنوات في ممارسة المحاماة قبل الحصول على منصب قضائي، تعتمد اليابان على نظام هرمي في التعيينات.

لكي تصبح قاضيًا، يجب على المرشحين أولاً اجتياز اختبار المحامين وقضاء الوقت كمتدرب قانوني، ثم إكمال دورة تدريبية قضائية لمدة عام في معهد التدريب والبحث القانوني التابع للمحكمة العليا. وتميل المسارات المهنية القانونية المختلفة في اليابان إلى الصرامة الشديدة، لذلك في حين أن المتدربين القضائيين قد يقضون وقتًا في العمل مع المحامين والمدعين العامين، فإنه من غير المألوف بالنسبة للأفراد تغيير مساراتهم المهنية في منتصف الطريق، وهذا يعني أن القضاة الجدد يصلون إلى مناصبهم في السلطة القضائية دون خبرة قانونية عملية خارج مجال عملهم ويصلون عمومًا إلى سن التقاعد - وهو ما يفعله جميعهم تقريبًا - بعد أن يكونوا قد اكتسبوا قدراً قليلاً من التفاعل المهني المباشر خارج نطاق القضاء بخلاف ربما عملهم لفترة قصيرة في هيئة حكومية مثل مكتب المدعي العام أو في مؤسسة خاصة.

إن المحكمة العليا قادرة على التحايل على القيود البيروقراطية للنظام إلى حد ما عن طريق تعيين قضاة ليسوا فقط من بين صفوف القضاة المهنيين، ولكن أيضًا من الخبراء في مجالات مثل الأوساط الأكاديمية والخدمة المدنية، وبدون اتخاذ المحاكم الأقل درجة لهذه التدابير، فإن الاتجاه العام سيظل يميل إلى التوافق القضائي وسلطة قضائية محافظة.

استقلال هش

قبل كل شيء، هناك ضغوط هيكلية يمكن أن تؤثر على استقلالية القضاة المهنيين بطرق مباشرة. فمن الناحية النظرية، يتم الإشراف على الواجبات الإدارية للمحاكم من قبل مجلس القضاء الذي يتألف من قضاة المحكمة العليا ويترأسه رئيس القضاة، كما أنه يقوم بوضع القواعد التي تحكم إجراءات المحكمة، والتوصية بتعيين قضاة بعينهم، والإشراف على الشؤون المالية للمحاكم، لكن في الحقيقة، فإن السلطة يسيطر عليها رئيس القضاة والأمانة العامة التي تعد الذراع الإداري للمحكمة، وعادة ما تنحصر وظيفة المجلس في التأكيد على أية قرارات يتم التوصل إليها فقط.

يوفر الدستور ضمانات قوية لضمان استقلالية القضاة، بما في ذلك التعويضات الملائمة والترقية المنتظمة والحماية من العزل، ومع ذلك فإن الإدارة القضائية القوية تراقب أداءهم عن كثب. تعتبر الانتقالات أمراً روتينياً مما يؤدي إلى وجود اختلافات كبيرة في الوظائف والرواتب، ورغم أن الإصلاحات مثل استحداث نظام التقييم قد ساهمت في تحسين هذا الوضع، إلا أن مستوى الشفافية لا يزال منخفضاً، مما يزيد من خطر أن يجد القضاة المهنيون أن مجاراة الأمر الواقع والسباحة مع التيار تصب في مصلحتهم المهنية أكثر.

”فوق السحاب“

إن فهم المواطن العادي في اليابان للنظام القانوني ضعيف، على الرغم من ميل الشعب إلى إجلال قدر القضاة بشكل كبير واعتبارهم من النخب القانونية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى قلة عدد القضاة نسبيًا، حيث ظل عددهم حتى وقت قريب ثابتاً عند حوالي 2000 شخص. بهدف إصلاح النظام القانوني، أنشأ مجلس الوزراء عام 1999 مجلس الإصلاح القضائي ليرفع توصياته بالتدابير اللازمة من أجل تعزيز الدور الاجتماعي للجهاز القضائي وزيادة عدد رجال القانون. وبينما ازداد عدد المحامين بشكل مطرد، إلا أن الشيء نفسه لم يحدث بالنسبة لأعداد القضاة، الذين يبلغون حاليًا حوالي 3000 قاضٍ.

يعتبر الشعب القضاة حراساً قانونيين أقسموا على حماية سيادة القانون، ولهذا يُتوقع من القضاة إصدار أحكام دقيقة وعادلة، وممارسة العدالة بمنتهى النزاهة، والتمسك بالمعايير القضائية، والحفاظ على ثقة المواطنين. فطالما هم في السلطة القضائية، يجب عليهم الالتزام بالحياد والاستقلالية والإنصاف في تفسير القانون، وأن يؤدوا عملهم بنزاهة وكرامة.

يطور القضاة اليابانيون وعيًا مهنيًا قويًا بواجباتهم ويمارسون ضبط النفس الذي لا تشوبه شائبة في سلوكهم وفقًا لمعايير أخلاقية عالية (بطلان المحاكمة بسبب سوء السلوك القاضي مثل قبول الرشاوى أو غير ذلك هو أمر لا يمكن تصوره في اليابان). إلا أن المثير للدهشة هو افتقار اليابان لمدونة قواعد موحدة تحكم سلوك القضاة كما هو الحال بالنسبة للأنظمة القضائية في الدول المتقدمة الأخرى، وبدلاً من ذلك، يمارس القضاة المهنيون في اليابان الحكم الذاتي بتوجيه من الأقران وكبار السن وتحت مراقبة القضاة وفقًا لقانون غير رسمي من القواعد والمعايير.

يفرض النظام القضائي مستوى عاليًا جدًا من المساءلة الأخلاقية بين أعضائه. ففي حين أنه من الخطأ القول إن القضاة اليابانيين لا ينزلقون أبداً للقيام بأمور مريبة أخلاقياً، إلا أن التجاوزات تعد هينة إلى حد ما مقارنة بما يعتبر سلوكًا غير أخلاقي في البلدان الأخرى. يُتوقع من القضاة، في حياتهم المهنية والخاصة على حد سواء، أن يمتنعوا عن أي مظهر غير لائق قد يؤدي إلى فقدان ثقة الجمهور، وهذا يشكل معضلة نوعاً ما، حيث يضطر القضاة إلى جعل حقوقهم كمواطنين عاديين تأتي في المرتبة الثانية بعد متطلبات دورهم العام.

تقليديًا، من المتوقع أن يتجنب القضاة الإتيان بأي سلوك مبعثه السعي وراء مصلحة شخصية قد يرى الجمهور فيها تعارضاً مع دورهم كحراس محايدين للعدالة. على سبيل المثال، فإن التعبير عن الآراء السياسية بصفة رسمية أو التعليق على المسائل القانونية في مدونة شخصية قد تعد أسبابًا كافية لاتخاذ إجراء تأديبي ضد القاضي، ولذلك فإن وجود مدونة سلوك موحدة من شأنه أن يساعد القضاة على التنقل بحرية في المناطق الرمادية بين ما هو شخصي وما هو مهني. لكن بدون مدونة سلوك موحدة، فإن القضاة اليابانيين يتعرضون لضغوط مؤسسية شديدة للتوافق والاندماج وهم أنفسهم يكونون أكثر استعدادًا لمجاراة الواقع السائد وتأييد خط سير الأحداث بدلاً من المخاطرة بمعارضة القواعد والهياكل البيروقراطية الصارمة.

بصفتهم أعضاءً في السلطة القضائية البيروقراطية، يتعرض القضاة لضغوط شديدة من جميع الجهات للامتثال، وعلى الرغم من أن هذا ينتج مستوى عالٍ من الكفاءة المهنية، إلا أن هذه ”المجانسة“ للمحاكم اليابانية تلقي بظلال قاتمة على استقلالية القضاء.

نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية. الترجمة من اللغة الإنكليزية. صورة العنوان: المحكمة العليا تستمع إلى الاستئناف في قضية تتعلق برسوم الاشتراك لهيئة الإذاعة الوطنية NHK في أكتوبر/ تشرين الأول 2017. الصور من جيجي برس)

المجتمع الياباني الحكومة اليابانية القضاء