كوريا الجنوبية بين مطرقة الصين وسندان الولايات المتحدة

سياسة

لقد تمكنت كوريا الجنوبية حتى الآن من التوفيق بين دورها كحليف للولايات المتحدة وبين اعتمادها الاقتصادي المتزايد على الصين، لكن الحملة العنيفة التي تشنّها إدارة بايدن ضد الاستبداد قد تكون لها فاتورة مكلفة.

تسليط الضوء على التحالف بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا

خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت منطقة شرق آسيا بؤرة لنشاط دبلوماسي مكثف تقوده الإدارة الجديدة للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي أعلن بوضوح أن الصين هي الشاغل الاستراتيجي الأول لإدارته. وفي حين يمكن اعتبار هذا التوجه السياسي أمراً مرحباً به من قبل طوكيو، إلا أنه قد يشكل معضلة خطيرة بالنسبة لسيول.

لقد قيل الكثير عن حقيقة أن رئيس الوزراء الياباني سوغا يوشيهيدي كان أول رئيس دولة أجنبية يزور البيت الأبيض لإجراء محادثات قمة مع الرئيس بايدن، ولكن هناك سابقة أخرى هامة قد تكون أكثر غرابة ومن ثم أكثر دلالة على أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن، إذ تم اختيار الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن ليكون ثاني ضيف رسمي يقابل بايدن. من المؤكد أن القرار قد يكون متأثرًا جزئيًا بالحالة التي خلقتها جائحة كورونا، التي ضربت قارة أوروبا أكثر من كوريا الجنوبية، لكنها تظل سابقة مهمة للغاية بالنسبة لسيول.

لا شك أن تركيز إدارة بايدن وإصرارها على مواجهة تهديد القوة المتنامية للصين كان العامل الرئيسي وراء كلا الخيارين. قال بايدن في مؤتمره الصحفي الذي عقد في مارس/ آذار 2021، ”الصين لديها هدف عام. . . أن تصبح الدولة الرائدة في العالم وأغنى دولة في العالم وأقوى دولة في العالم. هذا لن يحدث أثناء وجودي في البيت الأبيض“. في سياق هذا التوجه السياسي كان التشاور مع قادة اليابان وكوريا الجنوبية، حلفاء أمريكا في شمال شرق آسيا، أولوية قصوى دون أدنى شك.

لكن موقف واشنطن المتشدد تجاه الصين قد يكون مصدر إزعاج خطير لسيول، ليس فقط بسبب السياسة اليسارية التي ينتهجها الرئيس مون، بل إن المشكلة الجوهرية تكمن في اعتماد كوريا الجنوبية اقتصادياً على الصين بشكل كبير.

مأزق كوريا الجنوبية

تعتمد كل من كوريا الجنوبية واليابان على الصين بنسبة 25% تقريباً من حجم تجارتهما الدولية. لكن اقتصاد كوريا الجنوبية يعتمد على التجارة بأكثر من ضعف اقتصاد اليابان، حيث تمثل الصادرات ما يقرب من 40% من الناتج المحلي الإجمالي (2019)، أي أن الصناعة والاقتصاد في كوريا الجنوبية تعتمدان بشكل كبير على السوق الصينية، وهذا هو السبب وراء سعي قادة كوريا الجنوبية إلى تحسين العلاقات الدبلوماسية مع الصين في السنوات الأخيرة. ويشمل ذلك السياسيين المحافظين، مثل الرئيسة السابقة بارك غن هي، ممن لديهم علاقات قوية مع الشركات الكبرى.

بالنظر إلى هذه العلاقة الاقتصادية، فإن موقف إدارة بايدن المتشدد تجاه الصين قد يمثل تحديًا غير مسبوق للرئيس مون جاي إن وخليفته. ولفهم هذا التحدي بشكل أفضل، دعونا نسترجع بإيجاز التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين واستجابة سيول لها حتى الآن.

سياسة الحياد وصعوبة الحفاظ عليها

أصبح التغيير في موقف واشنطن تجاه الصين واضحًا لأول مرة في عام 2014، في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما. كان هذا التحول بسبب التنافس العسكري، حيث كانت الصين تستعرض عضلاتها في بحر الصين الجنوبي. خلال العام التالي، تعرضت الرئيسة بارك غن هي لانتقادات حادة من الولايات المتحدة بسبب استمرارها في مغازلة بكين وسط كل هذه التوترات. ونتيجة لضغوط واشنطن، اضطرت بارك إلى توقيع اتفاقية مع رئيس الوزراء آبي شينزو لإنهاء نزاع ”نساء المتعة“. (كانت إدارة أوباما قلقة من أن الخلاف المتزايد بين اليابان وكوريا الجنوبية بشأن القضايا التاريخية يمكن أن يعرقل الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لمواجهة التهديد العسكري الذي تمثله الصين).

اتخذت إدارة الرئيس دونالد ترامب موقفا أكثر عدوانية ضد الصين. كانت مخاوفها اقتصادية في المقام الأول، واعتمدت في تحركاتها على إجراءات أحادية الجانب مثل فرض التعريفات العقابية وتصنيف الصين على أنها ”دولة تتلاعب بالعملة“، أما في كوريا الجنوبية فقد كان هناك قلق متزايد بشأن التأثير المحتمل لهذه الحرب التجارية الشعواء على الاقتصاد الوطني.

لكن في النهاية، تمكنت سيول من تجنب الانحياز إلى أي جانب. التوترات العسكرية التي اندلعت بين الولايات المتحدة والصين خلال إدارة أوباما لم تكن لها تداعيات فورية على سيول (باستثناء اعتراضات بكين على نشر كوريا الجنوبية لصواريخ ثاد التي كانت موجهة إلى كوريا الشمالية وليس الصين). ففي نهاية الأمر كوريا الجنوبية، وعلى عكس اليابان، لم تواجه أي تهديد مباشر من استفزازات الصين في بحر الصين الجنوبي. كانت التوترات الاقتصادية التي ظهرت على السطح في ظل إدارة ترامب مقلقة بالنسبة لكوريا الجنوبية لكنها لم تهدد علاقة سيول مع بكين، حيث أن ترامب لم يكن يعادي الأنظمة الاستبدادية بشكل خاص كما لم يكن متحمساً للتعاون مع الدول الديمقراطية الأخرى. في الواقع، كان عدم اكتراثه بالقضايا الأيديولوجية هو ما دفعه إلى غض بصره عن سعي مون الحثيث للحوار مع كوريا الشمالية.

ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان كوريا الجنوبية الحفاظ على نفس الحرية الدبلوماسية والمرونة في ظل إدارة جو بايدن، التي تعتبر المنافسة العسكرية والاقتصادية بالنسبة لها أمراً ثانوياً بالمقارنة مع المعركة الوجودية بين الديمقراطية والاستبداد.

خوف وبغض لدى الشعب الأمريكي

شهد العام الماضي تحولاً جذرياً في الرأي العام الأمريكي ضد الصين، وكان أكبر محفز لهذا التحول هو جائحة كورونا التي عمّقت حالة انعدام الثقة والخوف من الطاغوت الصيني.

ينبع عدم الثقة من تعامل الحكومة الصينية مع الجائحة في مراحلها الأولى، لا سيما فرض السرية والرقابة مما سمح لفيروس كورونا بالانتشار إلى خارج مدينة ووهان. لقد أودت الجائحة بحياة أكثر من نصف مليون أمريكي، أي أكثر من الحربين العالميتين وحرب فيتنام مجتمعين. تم إلقاء اللوم على الحزب الشيوعي الصيني بسبب فرضه سيطرة مشددة على تدفق المعلومات، مما أدى إلى تفشي الفيروس عالمياً بشكل خارج عن السيطرة.

في الوقت نفسه، أصبح العديد من الأمريكيين خائفين من النظام الصيني نظرًا لمدى فعاليته وكفاءته في السيطرة على انتشار العدوى بعد التعثرات الأولية للحكومة، خاصةً بالمقارنة مع معركة أمريكا المريرة والطويلة ضد الوباء. بل وذهب بعض المراقبين الأمريكيين إلى حد الإشارة إلى نقاط الضعف الكامنة في الديمقراطية الأمريكية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع أزمة بهذا الحجم. علاوة على ذلك تمكنت الصين، على الرغم من كونها بؤرة الوباء، من تحقيق نمو اقتصادي حتى خلال عام 2020 حين تراجعت اقتصادات اليابان وجميع الديمقراطيات الغربية، وانتعش الاقتصاد الصيني بقوة مع توقع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8% كاملة في عام 2021 (بحسب صندوق النقد الدولي).

ما لا شك فيه هو أن جائحة كورونا قد زادت من وعي الأمريكيين بالاختلافات بين نظام حكومتهم والنظام الصيني، وأن هذه هي البيئة التي تبلور فيها التوجه السياسي المتشدد لإدارة بايدن في مواجهة الاستبداد الصيني. حتما كان لهذا كله تأثير على سياسات واشنطن في شرق آسيا.

ولعل أحد مظاهر هذا التغيير هو ظهور مشكلة تايوان كقضية رئيسية في السياسة الخارجية. فإذا كانت علاقة أمريكا بالصين اقتصادية بحتة أو عسكرية بطبيعتها، ما كانت واشنطن لتقلق كثيراً بشأن مصير تايوان. ولكن بمجرد إعادة تأطير العداء بين الولايات المتحدة والصين على أنه صراع بين الديمقراطية والاستبداد، تتخذ مشكلة تايوان شكلاً مختلفًا تمامًا. إن التخلي عن تايوان يعني التخلي عن النظام الديمقراطي الذي بناه شعب تايوان وحافظ عليه منذ التسعينيات. في صدى لـ ”نظرية الدومينو“ التي كانت المحرك الرئيسي لسياسة واشنطن في شرق آسيا خلال حقبة الحرب الباردة، أعرب البعض عن قلقهم من أن دولًا أخرى في المنطقة قد تتراجع عن التزامها بالديمقراطية عندما تواجه النجاح الواضح الذي حققه الحزب الشيوعي الصيني في حكم وإدارة الاقتصاد.

إن إعادة صياغة التنافس بين الولايات المتحدة والصين على أنه صراع أيديولوجي قد يضع سيول في موقف صعب، حيث أن كوريا الجنوبية تفتخر بحكومتها الديمقراطية، التي تأسست استجابةً لانتفاضة شعبية واسعة النطاق في عام 1987، ولذا لن يكون بإمكانها تبني موقف محايد في المعركة المتصاعدة بين الديمقراطية الأمريكية والاستبداد الصيني.

قمة أمريكية كورية غير حاسمة

مع وضع هذا في الاعتبار، كان هناك قلق عميق في كوريا الجنوبية قبل قمة شهر مايو/ أيار بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا. كان القلق من أن يقوم بايدن بإجبار مون على ”التخلي“ عن الصين والانضمام إلى واشنطن في إدانتها للتجارة الصينية والممارسات البحرية وممارسات حقوق الإنسان، لكن كل هذه المخاوف لم يكن لها أي أساس. حيث أن البيان المشترك الصادر عن الزعيمين لم يذكر الصين من قريب أو من بعيد كما أن بايدن لم يدعو سيول للتعاون مع دول الحوار الأمني الرباعي (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة) في شراكة ”كواد بلس“ لتطويق النفوذ الصيني.

لكن من المرجح أن يكون هذا مجرد تأجيل. فعلى الرغم من أن إدارة بايدن سارعت إلى الإعلان عن مبادئها التوجيهية الاستراتيجية الأساسية، إلا أنها لا تزال تضع تدابير سياسية ملموسة لدعم تلك الاستراتيجية، ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي جعل بايدن يرجئ تقديم مطالب محددة إلى مون فيما يتعلق بسياساته تجاه الصين وكوريا الشمالية. لكن سيول ستتعرض، إن عاجلاً أم آجلاً، لضغوط لكي تتخذ موقفاً حاسماً.

في السبعينيات، ومع إحراز تقدم في العلاقات مع الصين الشيوعية، أدارت الولايات المتحدة ظهرها لتايوان وجنوب فيتنام، وكانت كوريا الجنوبية تواجه نفس المصير. كان الأمريكيون غير مستعدين لاستثمار الكثير في الدفاع عن دول فقيرة ومنقسمة تحكمها أنظمة استبدادية. أما اليوم، فإن كوريا الجنوبية تعد قوة اقتصادية كبرى وديمقراطية شامخة. ومن المفارقات، أن انتماءها لزمرة الدول الديمقراطية المتقدمة هو ما سيورطها في صراع أيديولوجي كانت تفضل تجنبه.

كيف ستحقق سيول التوازن في علاقاتها مع واشنطن وبكين في ظل التنافس الذي أطلق عليه البعض ”الحرب الباردة الجديدة“؟ هل سيضطر الرئيس مون، الذي يقترب من نهاية ولايته الوحيدة البالغة خمس سنوات، إلى تغيير سياساته؟ أم أنه سيترك هذه المهمة لخليفته ليقررها في انتخابات مارس/ آذار 2022؟ في كل الأحوال ستواجه كوريا الجنوبية خيارات صعبة في الأشهر والسنوات المقبلة.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن، إلى اليسار، مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في مؤتمر صحفي عقب محادثات القمة التي عقدت في البيت الأبيض في 21 مايو/ أيار 2021. جيجي برس)

العلاقات الخارجية كوريا الجنوبية العلاقات اليابانية الأمريكية