اليابان تتلمس طريقها لتجاوز جائحة كورونا

مجتمع

تتواصل جائحة كورونا في التفشي في جميع أنحاء المعمورة، وتتوقف قدرة الدول على التغلب على الجائحة من عدمها إلى حد كبير على معدلات التطعيم ضد الفيروس واستغلالها لتكنولوجيا المعلومات. وفي هذا المقال يطرح الاقتصادي المخضرم تاكيموري شونبيي رأيه حيال مستقبل الاقتصاد الياباني.

تكنولوجيا المعلومات تخفف من وطأة تداعيات كورونا

يمثل فيروس كورونا جائحة وقضية ذات أبعاد عالمية. دعونا نبدأ مناقشتنا من هنا. وجه هذا الفيروس في جميع أنحاء العالم ضربة للشركات التي يتطلب العمل بها التواصل وجها لوجه، بينما كان التأثير على الشركات القادرة على استخدام تكنولوجيا المعلومات لجعل موظفيها ’’يعملون عن بعد‘‘ أكثر محدودية. وقد أدى ذلك إلى توسيع ’’الفجوة الرقمية‘‘، وهي ظاهرة كانت موجودة منذ ما قبل الجائحة حيث تميل الشركات التي لديها إمكانية الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات لتحقيق أرباح أكبر من تلك التي ليس لديها إمكانية الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات. وهذا ليس محض صدفة.

يقول الناس إن كورونا يرمز إلى ’’الجانب المظلم‘‘ للعولمة. ولكن الجانب المظلم للعولمة المتمثل في ميلها إلى مفاقمة الانقسامات الاجتماعية ضمن الاقتصادات المتقدمة، يعود إلى ما قبل الجائحة بوقت طويل. وقد تجلت هذه القضية بشكل خاص في تدفق الأشخاص عبر الحدود، ولا سيما المهاجرين واللاجئين. والمشكلة كانت أشد بروزا في أوروبا على نحو خاص حيث أضر تدفق اللاجئين السوريين بسلطة المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل وألقى بظلال ثقيلة على المشهد السياسي لبلدها. حقيقة أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب جعل تشييد جدار على طول الحدود مع المكسيك تعهدا انتخابيا يظهر أن معارضة الهجرة وصلت لدى بعض الفئات إلى نقطة الغليان في أمريكا أيضا.

ولكن من خلال تطبيق تكنولوجيا المعلومات على هذه المواقف، يصبح من الممكن استخدام القوى العاملة الأجنبية عن بعد للاستفادة من اقتصاد الفرد. إن سلسلة الإمداد العالمية ليست إلا نوعا من العمل عن بعد على نطاق عالمي. وبعبارة أخرى، لعبت تكنولوجيا المعلومات دورا مهما في تقليل الانقسامات الاجتماعية التي أوجدتها العولمة، من خلال تقليل الاتصال المباشر بين العاملين من مختلف الدول واللغات والأعراق والأديان.

دعونا الآن نعيد التفكير في التقييم القائل إن كورونا يمثل الجانب المظلم للعولمة بعد أن نأخذ كل ما ورد آنفا بعين الاعتبار. لا يمكن أن ينتقل الفيروس عبر كوابل الألياف الضوئية. وإنما تحدث العدوى عن طريق التواصل الشخصي ولا سيما بأشخاص من مناطق معرضة للعدوى. وبعبارة أخرى، حدثت الجائحة على وجه التحديد بسبب وجود ثغرات في نظامنا الدولي القائم على تكنولوجيا المعلومات الذي يسمح لنا بممارسة الأعمال التجارية دون تواصل مباشر مع أولئك الذين ينتمون إلى خلفيات لغوية وثقافية ودينية مختلفة، بسبب وجود ’’منطقة مظلمة‘‘ تُركت على الرغم من تقدم العولمة. تكمن الأهمية التاريخية لكورونا في الطريقة التي أدت بها الجائحة داخل اليابان وخارجها إلى خفض القيمة الاقتصادية للأنشطة التي تتطلب تواصلا شخصيا بين البشر، مع زيادة قيمة الأنشطة التي لا تحتاج إلى تواصل مباشر ويمكن إجراؤها عبر الشبكات الرقمية.

الغرب يعتمد استراتيجية التلقيح للتفوق على آسيا

اسمحوا لي أن أوضح نقطة أكثر أهمية من منظور عالمي، وهي تتعلق بتوازن القوى بين الدول الغربية الرائدة والدول الآسيوية الصناعية. أدى ظهور عاملين، هما المتحورة دلتا من فيروس SARS-CoV-2 واللقاحات، إلى تغيير كبير في توازن القوى ذاك. حتى خريف عام 2020 تقريبا، أي بعد تفشي الجائحة ولكن قبل ظهور المتحورة دلتا وعندما كان اللقاح مجرد احتمال، شهدت الدول الآسيوية معدلات إصابة ووفيات أقل بكثير من العديد من الدول الغربية المتقدمة. وهذا الاختلاف فرضه النظام الاقتصادي العالمي. حظي انضباط المجتمعات الآسيوية واستخدامها للمراقبة بالإشادة حيث أمكن تجنب الآثار السيئة للجائحة، لدرجة جعلت البعض يقول إنه يوجد الآن شعور أقوى بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن آسيا.

على الرغم من كون الصين بؤرة تفشي كورونا إلا أنها تمكنت من كبح جماح العدوى من خلال إجراء مراقبة متزايدة لمواطنيها، وكانت الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي نما العام الماضي. تساءل الناس إن كان الجانب السلبي للصين الاستبدادية قد عمل بالفعل لصالحها. على النقيض من ذلك، كان الوباء كارثة بالنسبة للغرب حيث خسرت الكثير من الدول الأوروبية الكبرى مئات آلاف الأرواح بسبب المرض وسجلت الولايات المتحدة أكثر من نصف مليون حالة وفاة. ركزت الدول الغربية الرائدة على تطوير اللقاحات كوسيلة للتعافي من حافة الدمار. ونجح الباحثون في إنتاج اللقاح بفضل أنظمة الرعاية الصحية للدول الأوروبية ذات الرفاهية، ونفقات الرعاية الصحية الأمريكية القياسية التي اقتربت من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وباستخدام قدرات بحثية أساسية شيدت على مدى سنوات طويلة من تطوير لقاح مضاد لفيروس نقص المناعة المكتسبة لا يزال غير مكتمل، وبفضل أسواق رأس المال المتقدمة التي تمكنت من جمع مبالغ ضخمة من التمويلات. وفي عام 2021 بدأ التطعيم باستخدام لقاحات mRNA الجديدة.

في ذلك الوقت تقريبا هيمنت على المستوى العالمي المتحورة دلتا التي تعد أكثر قدرة على العدوى بنسبة 50% مقارنة بالأشكال السابقة من الفيروس، والتي تعادل فيروس جدري الماء في قدرتها على إحداث العدوى. في آسيا، شهدت دول مثل تايوان وفيتنام كانت قد تمكنت حتى ذلك الوقت من إبقاء حالات الإصابة بالفيروس منخفضة بأعجوبة، شهدت زيادة حادة في الإصابات. في السابق كان نجاح تلك الدول في كبح انتشار الفيروس سببا في جعلها أقل اهتماما بالتلقيح. وقد أصبح هذا الموقف الآن عقبة لدى تلك الدول.

كانت السلطات الصينية عازمة على تطوير لقاح خاص بها مضاد لكورونا. ولكن لا يزال من غير الواضح إن كانت اللقاحات الصينية التي تعطي نتائج ضعيفة في التجارب السريرية، فعالة ضد السلالة الأصلية من الفيروس، ناهيك عن المتحورة دلتا. ومع زيادة عدد المصابين بالمتحورة دلتا، فرضت السلطات الصينية قيودا أشد صرامة على الوافدين من الخارج. وقد ساهم ذلك في تراجع النشاط الاقتصادي الذي كان قويا حتى ذلك الحين.

استجابة يابانية بطيئة ومتأخرة جدا

دعونا ننظر الآن إلى التجربة اليابانية في ضوء التقييم الذي ورد آنفا للوضع الدولي. من حيث العامل الأول -تدفق الأشخاص عبر الحدود- كان مستوى الوافدين الدوليين لليابان أقل بكثير من مستوياتهم في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا أو أوروبا، حيث كانت التنقلات داخل المنطقة عاملا مهما جدا في انتشار المرض وتأثيره على الاقتصادات. يمكننا القول إن حجم تفشي المرض والتأثير على الاقتصاد الياباني كان بالتالي ضئيلا نسبيا. بالطبع كانت القيود تعني أيضا انخفاض مقدار الأموال التي ينفقها السياح الصينيون، كما طلبت السلطات اليابانية في عدة مناسبات إغلاق الحانات والمطاعم طواعية، وإن كان ذلك باستخدام إجراءات أقل صرامة من عمليات الإغلاق التي شوهدت في أوروبا. لا تزال إحدى حالات الطوارئ الصحية تلك سارية حتى وقت كتابة هذا المقال. كان لهذا تأثير لا يستهان به.

ولكن مدى فعالية الإغلاق الطوعي يعتمد على مستوى وسرعة التعويض من قبل الحكومة. ولا يمكن إنكار أنه في حالة اليابان كانت سرعة دفع التعويضات مشكلة على وجه الخصوص. حقيقة أن عمليات الإغلاق على الطريقة الأوروبية لم تكن خيارا متاحا للحكومة استلزمت أيضا إجراءات طوعية مطولة، والتي ربما زادت من التداعيات على الحانات والمطاعم والفنادق.

بيانات تجارية صحية تخفي حقيقة مزعجة

في غضون ذلك، شهد قطاع التصنيع الياباني أداء قويا مدفوعا بالصادرات. أدى ذلك إلى أداء اقتصادي قوي بشكل غير متوقع. يبدو أن سلسلة الإمداد العالمية (العمل عن بعد العالمي، كما وصفناها أعلاه) كانت بمثابة ’’جسم مضاد‘‘ للجانب المظلم من العولمة أو الجائحة. ولكن الأداء التجاري الجيد قد أبرز ضعف قطاع التصنيع الياباني. أصبحت صناعة أشباه الموصلات في اليابان، التي كانت توفر نصف الطلب العالمي، ضعيفة إلى حد كبير. بدأ هذا الاتجاه مع حريق مارس/آذار عام 2021 في مصنع لشركة رينيساس للإلكترونيات، وهي كارثة سلطت الضوء على ضعف سلسلة إمداد أشباه موصلات السيارات. وقد أدى هذا بدوره إلى إعادة فحص كامل النطاق للقضايا الخفية لهذا القطاع، وتسليط الضوء على الاختلاف في القدرة بين الشركات المصنعة اليابانية وشركة TSMC التايوانية التي تفخر بقدرة تنافسية لا مثيل لها في التصنيع الدقيق لأشباه الموصلات.

كان المستوى المنخفض لعدد الوافدين الدوليين في اليابان مقارنة بأوروبا، إلى جانب الانخفاض الكبير في السياحة الوافدة، عاملا في التخفيف من التداعيات السلبية لكورونا. ولكن في آسيا، ظلت دول صغيرة مثل تايوان تركز على أنشطة التسويق الدولية، حيث تعتبر رحلات العمل داخل المنطقة مفتاحا للنمو الاقتصادي، وبالتالي الحفاظ بنجاح على قنوات المبيعات الواسعة (وبالتالي الأسواق الشاسعة) التي تعمل كقاعدة للإنتاج الضخم.

ومن الآثار الأخرى غير المتوقعة للجائحة، أنها كشفت التداعيات السلبية لفشل الشركات اليابانية في تسويق نفسها دوليا على مدى سنوات طويلة. تفرض الحكومة اليابانية حاليا قيودا صارمة على الوافدين من الخارج. وحقيقة أن هذا الإجراء لا ينتج عنه مشاكل خطيرة على الاقتصاد المحلي قد يكون مؤشرا على المشكلة الحقيقية التي تواجه اليابان.

آفاق تعافٍ تقوده الولايات المتحدة

بعد الركود العالمي الناجم عن الأزمة المالية الكبرى في عام 2008، قاد الاقتصاد الصيني -الذي انتعش قبل اقتصاد أي دولة أخرى نتيجة للاستثمار الحكومي المكثف- التعافي الاقتصادي العالمي. كان الناس يأملون في حدوث الشيء ذاته هذه المرة أيضا. ولكن بسبب تفشي المتحورة دلتا واللقاحات الصينية ضعيفة الأداء، لا يمكن لأحد التكهن بالمستقبل على وجه اليقين.

وبدلا من ذلك، فإن سيناريو التعافي الاقتصادي العالمي بقيادة الولايات المتحدة -الدولة التي تواجه الجائحة من خلال تشجيع مواطنيها على تلقي لقاحات عالية الفعالية مع إنفاق أكثر من 2 تريليون دولار لتحفيز الاستهلاك- يبدو أكثر ترجيحا. ابتداء من عام 2002، شقت اليابان طريقها للخروج من ’’العقد الضائع‘‘ من فترة ركود النمو الاقتصادي عن طريق التعافي القائم على التصدير والذي تغذيه حزمة تحفيز اقتصادي كبيرة في الولايات المتحدة. ومع استعداد إدارة بايدن لاعتماد مستويات أعلى من التحفيز الاقتصادي من أجل التغلب على الأزمة الحالية، يمكن لقطاع التصنيع الياباني مرة أخرى أن يتوقع فوائد من هذه السياسة.

ولكن هناك نقطة واحدة مثيرة للقلق. بدأت آسيا مع تقدمها البطيء في عملية التحصين ضد الفيروس، تشهد إمدادا محدودا للمكونات اللازمة لقطاع التصنيع. وقد تسبب هذا في تعرض المصنعين اليابانيين لأزمة جديدة، كما يتضح من إعلان تويوتا في 19 أغسطس/آب عن خفض إنتاج سبتمبر /أيلول بنسبة 40% ما يوضح مدى خطورة المشكلة. وفي فيتنام وماليزيا والفلبين وتايلاند وغيرها من مراكز الإنتاج الآسيوية المهمة للشركات اليابانية، تستمر الإصابات في الارتفاع.

اكتسبت الحكومة اليابانية الثقة حتى الآن من خلال الإشارة إلى استعدادها للتعاون النشط مع النهج الأمريكي عن طريق سياسات خضراء وما شابه، ونجحت في تأمين شحنات لقاحات أمريكية الصنع. وفي الواقع فقد ارتفعت نسبة السكان الملقحين بشكل ملحوظ. ولكن بالتأكيد مع انتشار المتحورة دلتا شديدة العدوى على نطاق واسع، ستتطلب إعادة الأعمال إلى وضعها الطبيعي أكثر من مجرد التطعيم. وسنشهد عما قريب دعوات ليس لتسريع عمليات التلقيح ضد الفيروس فحسب، وإنما لاتخاذ سياسات تعزز الرقابة على التنقلات.

وفي الأشهر المقبلة سيكون تشجيع الدول الآسيوية الأخرى على تكثيف برامج التطعيم الخاصة بها بصورة متزامنة، ولا سيما تشجيع الدول الغربية الرائدة على إمداد اللقاحات للدول الآسيوية الصناعية التي تربط اليابان بها علاقات اقتصادية قوية، موضوعا مهما في الدبلوماسية اليابانية.

(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية. الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: ملاحظة ملصقة على واجهة مطعم في طوكيو تشير إلى إغلاقه بصورة مؤقتة. حقوق الصورة لجيجي برس)

الطب الطب التجديدي الصحة كورونا