الإرث والدروس المستفادة من أزمة مضيق تايوان الثانية

سياسة

مضيق تايوان منطقة حساسة من العالم، واستقراره أمر يهم كل القوى العالمية، لكن التوترات دائمة الحدوث في هذه البقعة الهامة. ولأن من لا يعرف التاريخ لا يمكنه استقراء المستقبل، فسوف نلقي الضوء على أزمة مضيق تايوان الثانية التي حدثت عام 1958 حتى نفهم طبيعة الوضع الحساس للمضيق وعلاقاته المتشابكة بالدول المحيطة.

اندلعت أزمة مضيق تايوان الثانية في 23 أغسطس/آب 1958، عندما شن جيش التحرير الشعبي الصيني هجومًا مدفعيًا ثقيلًا على كنمن (كويموي) وماتسو، وهما مجموعتان من الجزر قبالة ساحل مقاطعة فوجيان كانتا تحت السيطرة العسكرية لحكومة شيانج كاي شيك القومية ومقرها في تايبيه (جمهورية الصين، أو ROC). ولم تكن أهداف بكين واضحة، لكن تشيانغ كاي شيك كان مصمماً على الدفاع عن ”الجزر البحرية“، التي اعتبرها منصات انطلاق محتملة لهجوم مضاد يهدف إلى استعادة البر الرئيسي من الشيوعيين، فسعى للحصول على دعم الولايات المتحدة، التي أبرم معها معاهدة للدفاع عن الجزر، وشن هجوم مضاد إذا لزم الأمر.

من جانبها، أرادت واشنطن تجنب التورط في حرب على الجزر البحرية التي كانت بعيدة عن جزيرة تايوان الرئيسية ولا تغطيها بشكل صريح معاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين. لكنها في النهاية قررت التدخل لتحقيق هدف مزدوج يتمثل في وقف التوسع الشيوعي في المنطقة والحيلولة دون تسبب هجوم القوميين المضاد في اندلاع حرب واسعة النطاق، فقامت بتجهيز مجموعة هجومية محمولة في البحار المحيطة لمراقبة جيش التحرير الشعبي وحرصت على مرافقة السفن الصينية المسؤولة عن تزويد القوات الموجودة على الجزر، بينما تجاهلت طلب شيانج كاي شيك بالحصول على مساعدة في الهجوم المضاد.

أثناء فرض الحصار، دعت بكين شيانغ كاي شيك إلى سحب قواته القومية من الجزر البحرية. لكن مع دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة، بدأ الحصار المفروض على كنمن في الانهيار، وبعد شهر تقريبًا من بدء القصف، وجّه ماو تسي تونغ رسالة إلى مواطنيه في تايوان يدعوهم فيها إلى حل سلمي للحرب الأهلية وينكر وجود سياسة الصينيتين. ثم قررت بكين أن جيش التحرير الشعبي لن يطلق النار إلا في الأيام الفردية، وهي تسوية ظلت متبعة لمدة عقدين تقريبًا. وبهذا الرد تمكنت الصين من نزع فتيل الأزمة. لكن مع وجود جزيرتي كنمن وماتسو تحت سيطرة القائد تشيانغ كاي شيك، كان لدى بكين مبرر منطقي لرفض المشاركة في أي مفاوضات رسمية لوقف إطلاق النار حيث أن هذا يعد اعترافاً ضمنياً بوجود صينيتين. ومع ذلك، عقدت واشنطن وتايبيه محادثات، نتج عنها إقناع الحكومة القومية بالتخلي عن استخدام القوة كوسيلة أساسية لاستعادة البر الرئيسي مقابل إعادة التأكيد على التزام واشنطن بالدفاع عن تايوان، بما في ذلك الجزر البحرية. وقد تم التأكيد على هذا الاتفاق في بيان أصدره كل من وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس وتشيانغ كاي شيك في 24 أكتوبر/تشرين الأول.

بداية عهد الازدهار والرخاء

وأخيرا، انتهى القصف الصيني اليومي للجزر عندما أقامت واشنطن وبكين علاقات دبلوماسية رسمية في عام 1979. ولكن بالنسبة للصين في عصر ”الإصلاح والانفتاح“، اكتسبت جزيرتا كنمن وماتسو أهمية أكبر باعتبارهما ”الجسور“ التي تربط تايوان بالبر الرئيسي.

ومع تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، تبنت بكين صراحة سياسة إعادة التوحيد السلمي مع تايوان ودعت إلى إنشاء علاقات تجارية وتطوير النقل والبريد، فيما يُعرف باسم الروابط الثلاثة. لكن تايبيه كانت حذرة بشأن إقامة مثل هذه العلاقات، وسارت الإصلاحات ببطء. طوال فترة رئاسة نجل تشيانغ كاي شيك وخليفته، تشيانغ تشينغ كو (1978-1988)، ظلت كنمن وماتسو من أهم المعاقل العسكرية لجمهورية الصين، مما يرمز إلى ما لا يزال الكثيرون يعتبرونه حربًا أهلية غير مكتملة. وأخيرا في عام 2001، وفي إطار مبادرة الروابط الثلاثة الصغيرة، تم ربط كنمن وماتسو بالمدينتين الساحليتين شيامن وفوزهو، على التوالي، وأصبحتا مراكز للتبادل الاقتصادي عبر المضيق. إلا أن دورهما قد تضاءل بعد عام 2008، مع تنفيذ سياسة الروابط الثلاثة الكاملة التي تربط تايوان بالبر الرئيسي. ثم عادت الجزر مرة أخرى إلى دائرة الضوء حيث تواجه الحكومتان التحدي المتمثل في استعادة حركة المرور عبر المضيق التي توقفت خلال جائحة كوفيد-19. ومن ناحية أخرى، ينظر الرئيس شي جينبينغ، الذي يبدو أن حملته لإعادة التوحيد قد توقفت، إلى كينمن وشيامن كنموذج ”للتنمية المتكاملة“ عبر المضيق، مما يزيد التوقعات بأن الجزر البحرية سوف تعود لتلعب دوراً محورياً كحلقة وصل بين الصين وتايوان.

ولكن في الوقت نفسه، تصاعدت التوترات العسكرية في مضيق تايوان. وفي السنوات الخمس والستين الماضية، نمت القوة العسكرية الصينية بشكل كبير. ففي وقت أزمة عام 1958، كان القصف والحصار على كنمن وماتسوي هو أقصى ما استطاع جيش التحرير الشعبي تحقيقه، إذ لم يكن بمقدوره ممارسة السيطرة على البحار والمجال الجوي المحيط بها وكان عليه التعامل مع أي عملية إنزال بأقصى قدر من الحذر. لكن بفضل قدراته الحالية، أصبح جيش التحرير الشعبي قادراً على ممارسة السيطرة البحرية والجوية على مضيق تايوان في غياب التدخل الأميركي. إن الاختبارات الصاروخية التي أجراها جيش التحرير الشعبي حول تايوان في الفترة من 1995 إلى 1996 (أزمة مضيق تايوان الثالثة) والتدريبات العسكرية واسعة النطاق في عام 2022 هي دليل على أن جيش التحرير الشعبي لم يعد ينظر إلى الجزر البحرية كأهداف رئيسية، وأصبح تركيزه حالياً منصباً على منع القوات الأمريكية من التدخل أثناء استيلائه على الجزيرة الرئيسية.

الأهمية الاستراتيجية لكل جزيرة

إن أي عملية محدودة للسيطرة على جزر تايوان البحرية سيكون المقصود منها في الأرجح إما استعراض القوة، بهدف إقناع تايوان والمجتمع الدولي بعدم جدوى المقاومة، أو لن تعدو كونها مجرد مسرحية سياسية يقدمها قادة الصين للاستهلاك المحلي. ومع ذلك، حتى في مثل هذه الحالة، سيكون الهدف المحتمل لهذه العملية هو إحدى الجزر البحرية غير المأهولة أو ذات الكثافة السكانية المنخفضة، مثل تونغشا (جزيرة براتاس) حيث أن سكان جزيرتي كنمن وماتسو، اللتين كانتا بمثابة جسر بين الصين وتايوان، من مصلحتهم استمرار التبادل مع البر الرئيسي ويعارضون بشكل عام استقلال تايوان. ولهذا السبب، فإن الهجوم على كنمن وماتسو لن يكون له التأثير السياسي المنشود، بل ربما يؤدي إلى نتائج عكسية لكل ما أحرزته بكين من تقدم على تلك الجبهة. من وجهة نظر عسكرية أيضاً، فإن الهجوم على كنمن وماتسو اللتين لا تزال بهما قوات تايوانية منتشرة على مستوى معين، من المرجح أن يؤدي إلى هجوم مضاد أو يكون دعوة إلى التدخل العسكري الأميركي.

ولكن ما هي احتمالات قيام الولايات المتحدة بالرد على عمل عسكري صيني موجّه ضد كنمن وماتسو؟

لقد قامت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً بمراجعة موقفها فيما يتعلق بالدفاع عن جزر تايوان الرئيسية والبحرية، لكنها لم تحِد مطلقاً عن التزامها الأساسي بردع أي عدوان صيني مع إثناء تايوان عن إثارة الصراع بأي شكل من الأشكال.

في يناير/ كانون الثاني 1980، انتهت معاهدة الدفاع المشترك الصينية الأمريكية والتي كانت سارية خلال أزمة مضيق تايوان الثانية، أي بعد عام من تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين (يناير/ كانون الثاني 1979). وفي إبريل/نيسان 1979، أقر الكونجرس الأميركي قانون العلاقات مع تايوان، الذي ينص على أن حكومة الولايات المتحدة ”سوف تعتبر أي جهد مبذول لتحديد مستقبل تايوان بوسائل أخرى غير الوسائل السلمية، مصدر قلق بالغ للولايات المتحدة، وسوف تتيح لتايوان الأدوات الدفاعية والخدمات الدفاعية التي قد تكون ضرورية لتمكين تايوان من امتلاك القدرة الكافية للدفاع عن النفس. ومنذ ذلك الحين، حافظت واشنطن على سياسة “الغموض الاستراتيجي” التي تهدف إلى ردع أي عدوان عسكري من جانب الصين بالتوازي مع منع أي سلوك استفزازي من جانب تايوان، مثل قيامها بإعلان الاستقلال، وهو ما قد يثير حفيظة الصين ويدفعها إلى استخدام القوة. خلال أزمة مضيق تايوان الثالثة، في التسعينيات، أرسلت الولايات المتحدة مرة أخرى مجموعة هجومية محمولة إلى المضيق. وبالنظر إلى سياسة واشنطن واستجابتها للأزمات السابقة، يتضح جلياً أن مجرد شن هجوم محدود على جزيرتي كنمن وماتسو يمكن أن يدفع الولايات المتحدة إلى التدخل.

باختصار، وفي ضوء الأهمية السياسية التي تشكلها كنمن وماتسو بالنسبة للعلاقات عبر المضيق واحتمال شن هجوم مضاد وتدخل الولايات المتحدة، يكون تكرار أزمة عام 1958 التي أشعل شرارتها الهجوم الصيني على هاتين الجزيرتين، أمراً غير مرجح. ومع ذلك، فهناك دروس يمكن تعلمها من هذا الفصل من التاريخ. وعندما نعود إلى أزمة مضيق تايوان الثانية، فلابد أن نركز على تعلم تلك الدروس وتطبيقها لمنع العدوان العسكري الصيني أو أي نوع من أنواع الترهيب ضد جزيرة تايوان الرئيسية.

دروس مستفادة من أزمة مضيق تايوان الثانية

ولعل الدرس الأكثر أهمية الذي يمكن تعلمه من أزمة مضيق تايوان الثانية هو أهمية الردع، بما في ذلك الدور الذي تلعبه الأسلحة النووية.

لقد اندلعت أزمة مضيق تايوان الثانية نتيجة لقرار ماو بشن هجوم مدفعي على كنمن. وقبل اتخاذ هذا القرار، قضى ماو العديد من الليالي يشعر بالقلق إزاء احتمال تدخل الجيش الأميركي للدفاع عن الجزر البحرية. وبينما أمر بالقصف في النهاية، فقد راقب هو ومساعدوه بعناية مستوى التدخل الأمريكي بعد ذلك، وقد ردعهم الرد الأمريكي عن اتخاذ خطوتهم التالية، وهي عملية الإنزال. فمن المهم للغاية أن تكون هناك وظيفة ردع مماثلة في مضيق تايوان اليوم. ويتعزز الردع عندما تعبر الولايات المتحدة عن مصالحها في الدفاع عن تايوان، وعندما تتعاون الولايات المتحدة وتايوان، أو الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، بشأن التدابير الأمنية الموجهة نحو مضيق تايوان.

أما الدرس الثاني فهو الدور الحيوي الذي تلعبه الدبلوماسية والتواصل الدولي أثناء الأزمات العسكرية. فطوال أزمة مضيق تايوان الثانية، كان جهاز الدبلوماسية والسياسة الخارجية في الصين يراقب ردود أفعال الدول الأخرى المعنية ويناقش أفضل السبل لترسيخ الشرعية الدولية لمطالباتها. وفي هذه العملية أدركت أولاً أن عملها العسكري أثار قلق الدول الأخرى، ثانيًا، كان هناك دعم قليل جدًا للهجوم القومي المضاد، وثالثاً، أن الرأي العام كان يتصاعد لصالح المحادثات التي تحظى برعاية دولية لوقف إطلاق النار أو التوصل إلى اتفاق أوسع نطاقاً يقوم على حل مشكلة تايوان بين الصين وتايوان. وقد كان لردود الأفعال الدولية هذه كلها دور أساسي في إقناع بكين بالتراجع وإنهاء الأزمة.

كما ساهم في اتخاذ هذا القرار موقف موسكو الرافض لتصرفات بكين العدوانية في وقت كانت فيه الصين تحت ”المظلة النووية“ للاتحاد السوفييتي. وبطبيعة الحال، منذ ذلك الحين، طورت الصين ترسانتها النووية الخاصة، وتعاظم نفوذها الدولي بشكل كبير مقارنةً بما كان عليه قبل 65 عاما. ومع ذلك، فقد تعمقت أيضًا علاقات الاعتماد المتبادل بين الصين وبقية المجتمع الدولي، ولهذا السبب، لا ينبغي لنا أن نستبعد تأثير الرأي العام الدولي على سياسات بكين. لذا فمن الأهمية بمكان أن نستمر في إرسال رسالة إلى بكين مفادها أن العالم لن يتسامح مع أي إجراء أحادي لتغيير الوضع الراهن، مع التأكيد بوضوح على دعم استقلال تايوان.

وضع تايوان يتغير بتغير الوضع الداخلي في الصين

الدرس الثالث المستفاد من أزمة مضيق تايوان الثانية هو أن التطورات السياسية داخل الصين والحزب الشيوعي الصيني من الممكن أن تؤثر على سياسات بكين تجاه تايوان. لقد كان أحد العوامل المهمة التي ساهمت في قرار قصف كنمن في عام 1958 هو صعود القوى داخل الحزب الشيوعي الصيني التي تعارض سياسات ماو تسي تونغ الخارجية والدفاعية، بما في ذلك تركيزه (بدءًا من عام 1954) على ”التعايش السلمي“ وتحديثه لجيش التحرير الشعبي الذي استوحاه من السوفييت، وسعي تلك القوى إلى تأكيد قيادتها في هذه المجالات.

وحتى يومنا هذا، يبدو أن قرار غزو تايوان ــ والذي من شأنه أن يؤدي بشكل شبه مؤكد إلى تدخل الولايات المتحدة وعزلة الصين دولياً ــ يقع في المقام الأول على عاتق شي جينبينغ، الذي واصل تعزيز سيطرته المركزية على الحزب من أعلى إلى أسفل. وفي ظل هذه الظروف، فبينما نعمل على تعزيز الردع والتأكيد على الرفض التام لأي محاولة لتغيير الوضع الراهن بالقوة، يتعين علينا أن ندرك كيف قد تؤثر السياسات الداخلية، بما في ذلك علاقات القوة داخل الحزب الشيوعي الصيني، على عملية صنع القرار على أعلى المستويات.

في الأعوام الخمسة والستين التي تلت أزمة مضيق تايوان الثانية، تنامت القوة العسكرية النسبية للصين ونفوذها الدولي بشكل كبير. ومع ذلك، خلال كل تلك السنوات، سيطر نظام الردع، مع الصين وتايوان والولايات المتحدة باعتبارها الجهات الفاعلة الرئيسية، على مضيق تايوان، وحافظت حكومة جمهورية الصين على سيطرتها على جزر تايوان الرئيسية. وبسكادورز وكنمن وماتسو، وهي أراضيها الفعلية. ومع استعراض الصين لعضلاتها العسكرية على نحو متزايد في مضيق تايوان، فلا شك أن الوقت قد حان للنظر في استراتيجيات جديدة. لكن هذا لا يقلل من أهمية دراسة وتحليل أحداث تاريخية مهمة مثل أزمة مضيق تايوان الثانية لفهم كيفية عمل الردع والدبلوماسية وغير ذلك من الآليات التي تساعد في السيطرة على مثل هذه المواقف ومنعها من التطور إلى حروب شاملة.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: قاعدة مدفعية قديمة في جزيرة كنمن، مفتوحة الآن للزيارة، تم التصوير في يوليو/تموز 2018. وكالة أخبار كيودو)

الصين العلاقات اليابانية الأمريكية تايوان العلاقات الصينية اليابانية