ما الذي يمكن أن تقدمه اليابان لإنهاء الصراع الأزلي بين الصين وتايوان؟

سياسة

أثناء أزمة مضيق تايوان الثانية في عام 1958، تعرضت جزيرتا كنمن وماتسو للقصف بشكل متكرر، الأمر الذي أثار اهتمامًا قويًا حتى في اليابان. وقد أدت هذه الأحداث إلى بث الخوف في نفوس اليابانيين خشية الوقوع في فخ الصراع الصيني التايواني، وكانت السبب وراء ما أثير من جدل حول ضرورة مراجعة معاهدة الأمن المشترك بين الولايات المتحدة واليابان خلال العامين المقبلين.

لقد استحوذ الخوف من اندلاع صراع في تايوان على جل الاهتمام مؤخرًا في اليابان وكان له تأثير عميق على المناقشات البرلمانية والإصلاحات الأمنية. إلا أنها لم تكن المرة الأولى، فخلال أوائل الحرب الباردة، كان مضيق تايوان، وجزيرة كنمن تحديداً، في قلب أزمة مضيق تايوان الثانية التي أبرزت بدورها الحاجة إلى مراجعة معاهدة الأمن المشترك بين الولايات المتحدة واليابان خلال إدارة كيشي نوبوسوكي (1957-1960).

هل تعتبر الحرب في آسيا حرباً باردة؟

ظلت الحرب واقعاً ثابتاً في شرق آسيا لمدة 50 عامًا تقريبًا بدءًا من ثلاثينيات القرن العشرين. فبعد أن نفذ الجيش الياباني حادثة منشوريا في عام 1931، اندلعت الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، انتهاءً بالحرب الصينية الفيتنامية في عام 1979. وفي الواقع، كانت الحرب الباردة في شرق آسيا عبارة عن سلسلة من الحروب الدامية، ولم تبدأ المنطقة ككل تتمتع بالازدهار الاقتصادي إلا بعد أن وضعت كل تلك الحروب أوزارها.

وفي حين كانت اليابان مسؤولة عن بدء الصراع الإقليمي في ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أنها بعد استسلامها في عام 1945، عمدت إلى تجنب الانخراط مباشرة في الصراعات الإقليمية وأصبحت تقدم نفسها للعالم على أنها ”دولة سلام“. ومع ذلك، فقد فكر الشعب والسياسيون اليابانيون في إمكانية تورط اليابان في أحد هذه الحروب الساخنة في عهد إدارة كيشي الذي سعى إلى مراجعة المعاهدة الأمنية بين الولايات المتحدة واليابان لعام 1951 واستبدالها بمعاهدة تمنح اليابان المزيد من الاستقلال. ومن شأن هذه المعاهدة الجديدة أن تزيد من أعباء اليابان وعلاقاتها المتبادلة مع الولايات المتحدة، لذلك قوبلت بمعارضة واحتجاجات قوية في اليابان. فبعيداً عن المشاعر العامة المناهضة للحرب، يبدو أن الكثيرين في اليابان كانوا قلقين بشأن ”تورط“ بلادهم في الصراع في شرق آسيا أو ”وقوعها في فخ ما“ نتيجة لتعزيز التحالف بين الولايات المتحدة واليابان.

وكان الصراع المسلح الأكثر خطورة الذي دار حول اليابان في ذلك الوقت هو أزمة مضيق تايوان الثانية في عام 1958. وفي هذه ”الحرب“، تعرضت جزيرة كنمن، التي كانت تسيطر عليها جمهورية الصين (تايوان)، للقصف المستمر من قبل جمهورية الصين الشعبية الشيوعية. وفي مراحل لاحقة، ردت جمهورية الصين بقصف محطة سكة حديد شيامن التي تم افتتاحها مؤخرًا في مقاطعة فوجيان. قامت وسائل الإعلام اليابانية بتغطية الأحداث المحيطة بجزيرة كنمن يوميًا، ونوقش الصراع على نطاق واسع في البرلمان. لم يكن أحد يتوقع أن جزيرة كنمن التي احتلتها اليابان خلال الحرب الصينية اليابانية، ولم تكن محور اهتمام كبير في السابق، ستصبح فجأة في دائرة الضوء.

أزمة مضيق تايوان الثانية

تقع كنمن على الجانب الآخر من مدينة شيامن بمقاطعة فوجيان، وتبلغ مساحتها مع الجزر المحيطة بها 150 كيلومترًا مربعًا فقط. كانت معروفة تاريخياً بأنها بوابة لهجرة الصينيين إلى اليابان وجنوب شرق آسيا، وينتمي إليها العديد من المسؤولين في البيروقراطية الصينية الإمبراطورية. خلال الحرب الأهلية الصينية، دفع الشيوعيون الصينيون بلا هوادة جيش الكومينتانغ (القوميين الصينيين) ناحية الجنوب أكثر فأكثر. لكن في معركة جونينجتو في كنمن في أكتوبر/ تشرين الأول 1949، تمكن حزب الكومينتانغ أخيرًا من وضع حد لخسائره الفادحة.

وبعد أن صارت ”رمز النصر“ بالنسبة لجيش الكومينتانغ، أصبحت جزيرة كنمن فعلياً خط المواجهة العسكري مع الصين خلال الحرب الباردة. لم يكن تأسيس جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1949 نهاية لهذه الحرب فقد استمر الصراع حول مضيق تايوان، ولم تخف حدة المواجهات نسبياً إلا بعد أزمة مضيق تايوان الثانية.

ومع ذلك، ظلت التوترات العسكرية قائمة حتى بعد انسحاب القوات الأميركية من تايوان في عام 1979. وفي الأول من مايو/أيار 1991، تخلت جمهورية الصين عن سياستها الهجومية المضادة في البر الرئيسي من خلال إلغاء ”الأحكام المؤقتة ضد التمرد الشيوعي“، والتي كان من ضمن آثارها السلبية فرض قيود على الحريات المدنية في تايوان. لقد ولدت جزيرة كنمن من جديد الآن كمركز للتبادل عبر المضيق.

ولكن قبل ذلك بوقت طويل، حدثت أزمة مضيق تايوان الثانية، عندما قصف جيش التحرير الشعبي الصيني كنمن ابتداء من 23 أغسطس/آب 1958 وعلى مدار شهر ونصف، حيث أمطر جيش التحرير الشعبي الجزيرة بما يصل إلى 500 ألف قذيفة. أصبحت كنمن حينها مثار قلق في البرلمان وتصدرت أخبارها وسائل الإعلام اليابانية حيث نشرت مجلة سيكاي الإخبارية التابعة لدار نشر إيوانامي شوتن والمقروءة على نطاق واسع، موضوعًا خاصًا عن الأحداث، وذلك في عددها الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 1958 بعنوان ”أزمة مضيق تايوان واليابان“. وقال أحد المعلقين إنه استناداً إلى المعاهدة الأمنية بين الولايات المتحدة واليابان عام 1951، ”إذا رأت الولايات المتحدة أن من الضروري للسلام والأمن في الشرق الأقصى اتخاذ إجراء عسكري ضد الصين للدفاع عن كنمن، وهي جزيرة صغيرة على بعد ثلاثة أميال فقط من البر الرئيسي الصيني وأكثر من 100 ميل من تايوان، فلن تقيد المعاهدة بأي حال من الأحوال استخدام القواعد اليابانية من قبل الولايات المتحدة.

تعديل المعاهدة الأمنية بين الولايات المتحدة واليابان

ومع ذلك، لم تتم مناقشة مسألة كنمن على نطاق أوسع في اليابان إلا بعد هدوء أزمة مضيق تايوان الثانية في ديسمبر/ كانون الأول 1958. ويرجع هذا إلى نشر صحيفة يوميوري شيمبون في السابع والعشرين من يونيو/حزيران 1959 مسودة المعاهدة الأمنية المعدلة التي يجري التفاوض عليها بين الولايات المتحدة واليابان. ورغم أن اليابان سوف تتولى بموجبها قدراً أعظم من ”التزامات الدفاع المتبادل“، إلا أن المادة السادسة من المعاهدة الجديدة تضمنت ”بند الشرق الأقصى“، وهو ما يشبه إلى حد كبير المعاهدة القديمة.

أثار هذا على الفور القلق في البرلمان. وفي 3 يوليو/تموز، استجوب عضو الحزب الاشتراكي توكانو ساتوكو الحكومة خلال اجتماع للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب فيما يتعلق بالنطاق الجغرافي ”التقريبي“ لبند الشرق الأقصى. ولم يكن بوسع وزير الخارجية فوجياما إيشيرو إلا أن يجيب قائلاً: ”الأمر ليس واضحاً بعد“. في 26 يوليو/تموز، اشتكت صحيفة أساهي شيمبون من أن استخدام عبارة ”الحفاظ على السلام والأمن الدوليين في الشرق الأقصى“ بنفس الطريقة المستخدمة في المعاهدة الحالية قد يعطي الجمهور انطباعًا بأن اليابان ملزمة بالدفاع عن الشرق الأقصى بنفس القدر الذي تفعله الولايات المتحدة. وحتى البعض في الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم كانوا يشعرون بالقلق إزاء غموض التعريف الخاص بنطاق ”الشرق الأقصى“ في المادة السادسة.

أشار أسانوما إنيجيرو من الحزب الاشتراكي بشكل مباشر إلى الصراع السابق حول كنمن وماتسو في 28 أكتوبر/ تشرين الأول، وذلك عندما أعرب عن قلقه في البرلمان بشأن اضطرار اليابان للتدخل في الصراعات في الشرق الأقصى باسم ”حفظ السلام والأمن في المنطقة“، خلال اجتماع لجنة الشؤون الخارجية في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، طرح الاشتراكي هواشي كي مثالًا افتراضيًا لمخاطر وقوع التحالف في فخ الدفاع عن كنمن:

لنفترض أن الولايات المتحدة استخدمت القواعد اليابانية لقصف فوجيان أو بكين خلال معركة للسيطرة على جزر كنمن وماتسو. وبما أن المراجعات المقترحة للمعاهدة الأمنية قد عززت ووضحت التبادل الدفاعي بين الولايات المتحدة واليابان، على عكس المعاهدة السابقة، فمن الطبيعي أن تكون القواعد اليابانية هدفاً لقصف انتقامي. أي أننا سوف نتورط حتمياً في الحرب.

وبعد هذه المناقشة، أصدرت الحكومة اليابانية في 26 فبراير/ شباط 1960 رأيًا موحدًا ينص على أن ”الشرق الأقصى“ هو ”تقريبًا“ المنطقة المحيطة باليابان شمالي الفلبين، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة كوريا الجنوبية وجمهورية الصين. وهذا يعني فعليًا أن جزيرة كنمن أصبحت خاضعة لأحكام بند الشرق الأقصى في المعاهدة الأمنية الجديدة بين الولايات المتحدة واليابان.

قبل بضعة أسابيع فقط، نشرت صحيفة أساهي شيمبون في عددها المسائي بتاريخ 13 فبراير/ شباط مقالاً بعنوان ”قضية اليوم: الاضطرابات في الشرق الأقصى“، ورد فيه ما يلي:

ليس هناك ما هو أكثر إثارة للحيرة هذه الأيام من موقف الحكومة كما رأينا في الجدل الدائر في البرلمان حول جزيرتي كنمن وماتسو. في صيف وخريف عام 1958، لقد كانت المنطقة تمور بالأحداث والتقلبات بسبب الصراع في مضيق تايوان الذي تركز على جزر كنمن وماتسو. في ذلك الوقت كان الرأي العام الياباني يؤيد المفاوضات الرامية إلى مراجعة المعاهدة الأمنية القائمة، خوفاً من الخطر الرهيب والعواقب المترتبة على اندلاع صراع بين البر الرئيسي للصين وتايوان مع وجود الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في الخلفية.

ومع ذلك، تساءل المؤلفون عما إذا كانت المعاهدة المنقحة ستجعل اليابان أكثر أمانًا، ورأوا أن استمرار إدراج بند الشرق الأقصى يعني أنه من وجهة نظر الشعب الياباني، لم تعد جزر كنمن وماتسو رمزًا للسلام والأمن في الشرق الأقصى، بقدر ما أصبحتا رمزا للخطر وانعدام الأمن. يشير المقال إلى أنه ”حتى المعاهدة الأمنية بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين لا تشمل كنمن وماتسو“، في حين أن المعاهدة الأمنية بين اليابان والولايات المتحدة تشملهما. ولذلك كان من المزعج أن يرتبط مصير اليابان بهذه الجزر بسبب انتشار القوات الأميركية في اليابان. ويعارض الشعب الياباني بشدة بند الشرق الأقصى، بل ويشكك في أهمية مراجعة المعاهدة في المقام الأول.

جزيرة كنمن بعيون سينمائية

من الواضح أن المجتمع الياباني كان على دراية تامة بجزيرة كنمن في ذلك الوقت. ومما يرمز إلى هذا المستوى العالي من الاهتمام هو إصدار فيلم Kinmontō ni kakeru hashi (قوس قزح فوق كنمن) في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1962، والذي تم إنتاجه بشكل مشترك بين شركة Nikkatsu اليابانية وشركة Central Motion Picture Corporation التايوانية، وقد تم تصوير هذا الفيلم الرومانسي في تايوان وجزيرة كنمن.

في الفيلم، يلعب إيشيهارا يوجيرو دور الطبيب تاكي إيشيرو، الذي يلتقي بشابة تدعى يانغ لي تشون (هوا هسين) في طوكيو أثناء علاج الجنود الجرحى من الحرب الكورية. ثم يتم إجبار تاكي على الخروج من المستشفى بسبب مشاكل طبية، ولكنه يجتمع مجددًا بعد ثلاث سنوات مع يانغ في كاوشيونغ بتايوان، حيث يتوجه تاكي إلى جزيرة كنمن وتتبعه يانغ إلى هناك. يُقال إن نهاية الفيلم أثارت الكثير من الجدل في كل من اليابان وتايوان، لكن حقيقة أن جزيرة كنمن أصبحت موضوعًا لفيلم أنتجته شركات كبرى هو أمر مهم.

كما أن العنوان مهم للغاية، فمن السهل أن نتخيل أن العنوان الياباني، والذي يعني حرفيًا ”جسر فوق كنمن“، مستوحى من فيلم الحرب الملحمي ”جسر على نهر كواي“. مع الأخذ في الاعتبار أن الفيلم يتخذ فترة إنشاء خط السكة الحديد الذي يربط بين تايلاند وبورما كإطار زمني لأحداث الفيلم، يمكن ترجمة العنوان الياباني للفيلم الأمريكي البريطاني ”Senjō ni kakeru hashi“ حرفيًا على أنه ”جسر فوق ساحة المعركة“، ولعل اعتبار (كنمن) ساحة المعركة في إنتاج ياباني تايواني مشترك يخبرنا الكثير عن الصورة التي كانت منتشرة على نطاق واسع في اليابان في ذلك الوقت بأن الجزيرة هي منطقة صراع.

بعد هذا الاهتمام، لم تحظى (كنمن) أبدًا بنفس الأهمية في المجتمع الياباني. وحتى عندما تصاعد الجدل حول الطوارئ المتعلقة بتايوان والأمن القومي الياباني مرة أخرى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يعد يُنظر إلى جزيرة كنمن على أنها خط المواجهة. واليوم، تركز التصورات الاستراتيجية اليابانية والنقاشات على الفخ المتمثل في ”حالة الطوارئ الأمنية“ على جزيرة تايوان الرئيسية الأكبر حجماً.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: سياج دفاعي على امتداد ساحل جزيرة كنمن لمنع عمليات إنزال جنود جيش التحرير الشعبي، وهو مصنوع من قضبان السكك الحديدية التي تم تقطيعها إلى قضبان حادة.© بيكستا)

العلاقات الخارجية العلاقات الروسية اليابانية تايوان العلاقات اليابانية الصينية