اليابان تدخل عصر الاقتصاد المؤقت

اقتصاد

انتشر في الآونة الأخيرة إقبال الأفراد على الوظائف المؤقتة والأعمال التي تعتمد على أساس مخصص أو مهام محددة تتيحها شبكة الإنترنت والتطبيقات المتوفرة على الهواتف النقالة. هذا النمط من الأعمال يطلق عليه (gig economy) (غيغ إكونومي) ومعناه العربة التي يجرها حصان واحد، ويمكن مجازاً إطلاق مصطلح «اقتصاد الأفراد» أو «الاقتصاد المؤقت» على هذا النوع من الاقتصاد، حيث يتجه الأفراد للقيام بمهام تتناسب مع مؤهلاتهم وأوقاتهم وغالباً ما يكون الارتباط بالعمل لفترة وجيزة لا تتعدى شهوراً أو أسابيع، وقد أخذ هذا النمط من الأعمال يخطف الأضواء في الدول الغربية، إلا أنه لا يزال يكتسب زخمًا بطيئًا في اليابان.

ظاهرة عالمية

”غيغ إكونومي“ مصطلح تم تعريفه على نطاق واسع بأنه أي نوع من الأعمال المحددة زمنيًا والتي يقوم بها الموظفون المؤقتون المعينون بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو مصطلح غامض اعتمده الخبراء لوصف الاتجاه العالمي الناشئ في سوق العمل المستقل المُسَيّر رقميًا. ففي عام 2018، قدرت النشرة الدورية للموارد البشرية (Staffing Industry Analysts) (ستافينغ إنددستيري أناليستس) حجم ”غيغ إكونومي“ في أمريكا بحوالي 1,3 تريليون دولار. كما أن مؤسسات مثل (معهد أوكسفورد للإنترنت) وعملاق الخدمات المهنية (برايس ووترهاوس كوبرز) قد أعلنتا عن الانتشار المزدهر لهذا النمط من الأعمال، على الرغم من أن ظهور وباء فيروس كورونا قد ألقى بظلال الشك على توقعات صدرت سابقًا عن النمو في قطاع الأعمال.

ويبلغ عدد الأفراد الذين ينتهجون هذا النمط من الأعمال 53 مليون عامل، مشكلين بذلك 35٪ من إجمالي القوى العاملة في السوق الأمريكية. ويضم هذا الرقم 7,9 مليون عامل ممن يجدون وظائفهم من خلال أسواق العمل المتاحة عبر الإنترنت – يطلق عليهم (human cloud) (هيومن كلاود) (السحابة البشرية)– و 1,3 مليون استشاري للأعمال المتعلقة ببيان العمل – وثيقة (يعتد بها كوثيقة رسمية) لتحديد العمل والإنجازات المتوقعة والجدول الزمني الذي يجب أن تنفذه شركة ما للعميل) –، و27 مليون متعاقد مستقل.

مورد بشري هام

أحد الجوانب البارزة لهذا النمط من الأعمال هو أن التقدم التكنولوجي جعلها بلا حدود. ففي الوقت الذي تمثل فيه الولايات المتحدة 40٪ من مصادر الموظفين التي تشكل جزءًا من القوى العاملة (السحابة البشرية)، يتم تنفيذ حوالي 70٪ من هذا النوع من الأعمال في آسيا.

وتدير العديد من الشركات الغربية مواردها البشرية وفقًا لمفهوم ”إدارة المواهب الشاملة“، بمعني أن الشركات تبني ملفات مخصصة لأصحاب المواهب تتكون من مجموعة مثالية من المواهب يتم انتقاؤها من جميع الخيارات المتاحة في سوق العمل. وتضم هذه الملفات الموظفين النظاميين والموارد البشرية الخارجية مثل (العاملين المستقلين، العاملين بنظام الـ (غيغ)، المستشارين، ومن لديهم وظائف بالفعل في شركات أخرى)، وهناك الموارد غير المرتبطة بالموظفين كالذكاء الاصطناعي. وبعبارة أخرى، أصبح سوق الموارد البشرية عالمي النطاق حيث يتجاوز أرباب العمل أطر الشركات التقليدية ويبحث عن المواهب في أسواق العمل الخارجية، وفي البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية على وجه الخصوص، يتجه أصحاب العمل بشكل متزايد إلى البلدان النامية ودول أوروبا الشرقية للبحث عن موظفي تكنولوجيا المعلومات وتوظيف العاملين في مناطق زمنية مختلفة.

وفي الدول الغربية، تستفيد الشركات بجميع فئاتها بشكل فعَال من المتخصصين الخارجيين. بشرط أن يكون لديهم المهارات المطلوبة، فالعاملون بنمط الـ (غيغ) قادرون على العمل بمرونة وبدرجة عالية من الحرية، في أي وقت وفي أي مكان. ويتزايد الطلب على مجالات المبيعات والبرمجيات والمتخصصين المبدعين، ونجد أن المرونة المكانية للعاملين بطريقة الـ (غيغ) تجعلهم مورداً قيماً لمعالجة نقص العمالة الإقليمية.

الدور الحاسم للوسطاء الوظيفيين

يربط الكثير من الأشخاص الأعمال القائمة على (غيغ إكونومي) بالسائقين وخدمات التوصيل مثل (أوبر) و (لايفت)، ولكنه في الواقع أوسع نطاقًا من ذلك، حيث يشمل الخدمات المحلية كالطهي والتنظيف بالإضافة إلى الخدمات عالية المهارة مثل البرمجيات، وتطوير التطبيقات، وتصميم المواقع الشبكية.

ويُعتقد أن نمو الأعمال القائمة على (غيغ إكونومي) في الغرب ناتج جزئيًا عن الزيادة في عدد الوسطاء الذين يوفرون فرص عمل عبر منصات الإنترنت. ولتحسين المجالات المعروضة، يستخدم هؤلاء الوسطاء أدوات عالية التقنية ومواقع وتطبيقات مخصصة لمطابقة العمالة مع الطلبات المتاحة من الشركات والأفراد المستهلكين. وكل ما يحتاجه العاملون بنمط الـ (غيغ) هو التسجيل باستخدام إحدى منصات الإنترنت، وتوفير معلومات حول الوظائف التي يمكنهم القيام بها، وتحديد مدى إمكانياتهم. وبالإضافة إلى ربط العملاء بالعمالة وفقًا للخدمات المطلوبة، يقوم الوسطاء بدعم خطوات أخرى في الإجرءات المتبعة، بما في ذلك إجراء تحريات عن الهوية، وتوفير معلومات عن الخبرات السابقة، وتسهيل الاتصال، وعرض خيارات الدفع. ويوفر الوسطاء لعاملي الـ (غيغ) بيئة عمل أفضل من خلال العمل كضامنين، ويقوموا بالتنسيق مع العملاء، وإصدار الفواتير، وتحصيل الحسابات المستحقة.

عقبات أمام الشركات اليابانية

وعلى النقيض من ذلك، تعد العلاقات المباشرة بين الشركات التجارية في اليابان هي القاعدة. فوفقًا لـ (Keidanren) (كيدانرين) (اتحاد الأعمال الياباني)، فإن معظم الشركات تتعامل بشكل رئيسي مع شركات أخرى وتميل إلى قصر التعامل مع الأفراد على بعض المهام المتخصصة، مثل التصميم الغرافيكي وتطوير البرمجيات. وقد ترغب بعض الشركات في تكليف المزيد من العمل للموظفين المتخصصين، إلا أنها تفتقر إلى الخبرة في تنمية قدرات الموظفين المطلوبة للعثور على الأشخاص المناسبين.

وتمثل الحاجة إلى ملائمة مهارات العمالة بشكل صحيح مع المهام المتاحة عقبة هائلة أمام الشركات التي تسعى إلى الاستفادة من سوق الأعمال التي تعتمد على نمط الـ (غيغ) في اليابان. إلا أن هناك أسباب أخرى لتردد الشركات في العمل مع الأفراد المستقلين، من ضمنها صعوبة تقييم جودة العمل والمشكلات في وضع مهام عالية القيمة مع الأفراد بسبب المخاوف من التعامل فيما يخص انتهاكات العقود المبرمة والمطالبة بالتعويضات عن الأضرار.

ومن وجهة نظر العمالة، عادة ما تأتي عروض العمل من أصحاب العمل السابقين أو مؤسسات التدريب السابقة. وعلى الرغم من كونهم لا يزالوا مسؤولين عن حصة صغيرة من نشاطات الـ (غيغ إكونومي)، إلا أن الوسطاء، والشركات التي تقدم خدمات الاقتصاد المشترك، ووكالات اكتشاف المهارات يشكلون حصة متزايدة من الأعمال الجديدة.

إزالة القيود المفروضة على الوظائف الثانية

وعلى الرغم من أن خدمات (نقل الركاب) أصبحت تشكل جزءًا كبيرًا من أنشطة الـ (غيغ إكونومي) في الدول الغربية، إلا أن قانون النقل البري الياباني أعاق شركات مثل أوبر و لايفت من خلال اشتراط حصول السائقين على رخصة القيادة المخصصة لسيارات الأجرة قبل أن يتمكنوا من نقل الركاب. وأدت هذه القيود المفروضة على قطاع مربح محتمل إلى إبطاء النمو الإجمالي لأنشطة الـ (غيغ إكونومي)، بمعني أن عادات العمل التقليدية لم تتغير نظرتها بشكل كبير تجاه العمالة المستقلة. ومع ذلك، هناك مجالان قد ينموان داخل أنشطة أعمال الـ (غيغ إكونومي).

يتعلق المجال الأول برفع الحظر عن العمل في وظائف متعددة. فالآن، بعد أن بدأت الحكومة اليابانية في تشجيع الموظفين على تولي وظائف أخرى، يقوم عدد متزايد من الشركات بإزالة الحظر المفروض على العمل في وظيفة ثانية من لوائح العمل. وتسمح بعض الشركات للموظفين بالعمل في وظائف ثانية إذا تم استيفاء شروط معينة، مثل الوظائف التي تتم لأغراض تدريبية، أو في صناعات مختلفة، ولا تؤثر على واجبات الموظفين في وظيفتهم الأساسية. وتنص بعض الشركات أيضًا على أن الموظف يجب أن يكون في وظيفته الرئيسية لفترة زمنية محددة. وبالنظر إلى الشركات التي أزالت الحظر المفروض على العمل في وظائف متعددة منذ عام 2016، نجد من ضمنها مجموعة من الشركات الرائدة في مجالاتها، مثل شركة المشروبات (آساهي)، شركة الأطعمة والمشروبات (كاغومى)، شركة المستلزمات التقنية (كونيكا)، شركة الاتصالات (سوفت بانك)، شركة الخدمات الشبكية (ياهو)، وشركة (روهتو) للمستحضرات التجميلية والدوائية.

أما المجال الثاني المتوقع نموه ضمن أنشطة أعمال الـ (غيغ إكونومي) فيتمثل في الأعمال التي يقوم بها كبار السن. ففي الرابع من فبراير/ شباط الماضي، وافق مجلس الوزراء برئاسة رئيس الوزراء شينزو آبي على تعديل قانون تثبيت الموظفين كبار السن، والذي بدوره يفتح الطريق أمام الموظفين للبقاء في العمل حتى سن السبعين. بالإضافة إلى رفع سن التقاعد وتشجيع الممارسات المتمثلة في إعادة توظيف العمال الأكبر سنا على أساس عرضي. ويسمح التعديل أيضًا بتعويض أصحاب الأعمال الحرة وأصحاب المشاريع باعتبارهم مقاولين. وبمجرد تمرير القانون، سيدخل التعديل حيز التنفيذ في أبريل/ نيسان 2021.

وفي ظل حياة حيث يمكن للمرء أن يحيا فيها حتى المائة، هناك بالتأكيد المزيد مما يمكن القيام به للاستفادة من العمال المستقلين والعمال من جميع الأعمار الذين يمكنهم اختيار متى وأين يريدون العمل كلما سمح وضعهم الصحي، بدلاً من الالتزام بأنظمة العمل المتشددة التي تنظمها لوائح العمل.

ومن الممكن حاليًا أن تشهد اليابان زيادة في أعداد العاملين بنظام العمل بدوام جزئي اعتمادًا على نمط عمل (غيغ إكونومي)، سواء كانوا يعملون في وظائف ثانية أو بعقود مؤقتة. وعلينا أن ننتظر الآن لنرى كيف سيتطور سوقا العمل الناشئان، وبالطبع ستلعب عوامل مثل ملائمة الموظفين مع ما يجيدونه من مهارات، وتطوير الأدوار المهنية، وتقديم مستوى عال من الدعم دورًا رئيسيًا في تطور المنظومة ككل.

(النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية، والترجمة من اللغة الإنكليزية. صورة الموضوع: إحدى سيارات الأجرة مقدمة من شركة أوبر تكنولوجيز لخدمات نقل الركاب خلال افتتاح عروضها في مدينة ناغويا. جيجي برس)

الاقتصاد الشركات اليابانية اقتصاد الحكومة اليابانية