انعكاسات فيروس كورونا على النظام العالمي والطريقة الصينية في السيطرة على الوضع

سياسة

سيصيب العالم حالة من الترنح جراء تأثير فيروس كورونا (كوفيد-19) والتي ستستمر لفترة طويلة في أعقاب انحسار الوباء. يكشف لنا الكاتب كاواشيما شين بعض الآثار المترتبة على نهج سياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ والعلاقات الدولية والأنظمة العالمية.

أولاً وقبل كل شيء علينا إدراك أن جائحة فيروس كورونا الجديد كوفيد-19 تمثل أزمة صحة عامة، إلا أن التعامل مع تلك الأزمة في الصين وبقية دول العالم يثير مجموعة من التساؤلات ذات تداعيات وآثار عميقة على النظام العالمي.

هل هي نقطة تحول محورية على الصعيد العالمي؟

تمثلت أولى هذه المشكلات في ضعف ردود الأفعال العالمية على الرغم من الأولوية القصوى التي توليها الحوكمة العالمية للتعاون في مكافحة الأمراض المعدية. ومع وضع منظمة الصحة العالمية تحت المجهر باعتبارها تقود المشهد، تراجع التعاون الدولي بدلاً من المضي قدمًا، حيث تتصدى الحكومات الوطنية للأزمة بشكل فردي. حتى بين دول منطقة شينغن الأوروبية العاملة بنظام الإعفاءات من التأشيرات، والتي حققت على مدى العقود القليلة الماضية وحدة إقليمية، أغلقت هي الأخرى حدودها مع بعضها البعض. وبعد فترة من التقدم العام نحو التكامل الإقليمي والحوكمة العالمية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، يبدو أننا نعود إلى عالم تكون فيه دول بعينها هي اللاعب المهيمن.

وتتمثل المشكلة الثانية في التأثير الواقع على الحريات والسياسات الديمقراطية. حيث أن التدابير الفعَّالة لاحتواء الأوبئة الخطرة مثل ما نشهده الآن تشمل تقليصًا للحقوق الدستورية الأساسية لعامة الناس، بمعنى أن الاعتبارات المعمول بها عند مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة تشكل عائقا أمام اتخاذ الإجراءات الاحترازية في الوقت المناسب. والحكومات الديمقراطية ملزمة بالعمل ضمن حدود القانون، كما هو الحال عند الإعلان الرسمي لحالات الطوارئ، والسعي إلى توعية العامة بمجمل إجراءاتهم. وبما أن التدابير المطبقة ستؤثر على نتائج الانتخابات، فمن المحتم أن تكون مدفوعة على الأقل جزئياً باعتبارات سياسية لاسيما طبية. وفي الوقت نفسه، أظهرت إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي انقسامات بين الأعراق والطبقات بشكل واضح للعيان. ففي أماكن مثل نيويورك، أصبحت الشوارع تعُج ا بالأشخاص الملونين، حيث يقوم العمال ذوي الدخل المنخفض الذين لا يستطيعون تحمل كلفة البقاء في المنزل بتوصيل طلبات البقالة للمواطنين الأثرياء الذين يمكنهم البقاء بالمنزل دون الحاجة للخروج.

أما المشكلة الثالثة فتكمن في آثار الوباء على الاقتصاد العالمي. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، تم إدراج الاقتصادات الوطنية إلى حد كبير ضمن شبكة من سلاسل الإمدادات العالمية القائمة على تقسيم العمل الدولي. ومما لا شك فيه أن الأزمة قد أثرت على حركة الناس أكثر من تدفق السلع. لكن القيود المفروضة على حركة الأفراد وتقليص ساعات عمل النقل الجوي أدت حتمًا إلى تقييد حركة البضائع أيضًا. والسؤال المطروح حاليًا هل سيعود الاقتصاد العالمي لسابق عهده؟ أم سيمثل وباء (كوفيد-19) نقطة تحول تاريخية، حيث تتراجع البلدان عن العولمة وتُنتهج سياسات النزعة القومية الاقتصادية والحمائية (حماية الإنتاج الوطني)؟

الآثار المترتبة على النظام الصيني

أدى دور الصين البارز في الأزمة إلى التركيز على هذه القضايا بشكل خاص.

حيث نجد أن مشاركة بكين مع المجتمع العالمي – سواء من خلال الهيئات الدولية أو من خلال برامجها الخاصة، مثل مبادرة الحزام والطريق – كانت تركز دائمًا على تعزيز القوة والهيبة القومية للصين. وفي السنوات الأخيرة، اتبعت الصين سياسة تضخيم الذات من خلال جدول أعمال دولي نشط أكثر من أي وقت مضى، في الوقت الذي نجد فيه واشنطن في ظل سياسات الرئيس دونالد ترامب التي تنتهج مبدأ أمريكا أولاً، تنأى بنفسها عن مثل هذه المبادرات التعاونية العالمية كتلك التي قادها الرئيس السابق باراك أوباما لمواجهة تفشي فيروس الإيبولا في عام 2009.

ولقد أصبح وباء فيروس كورونا الجديد جزءًا لا يتجزأ من حملة بكين الدؤوبة لتعزيز هيبتها ونفوذها الدوليين. ففي المراحل الأولى عندما انتشر الفيروس من مدينة ووهان في مقاطعة هوبي، تركزت الأحداث على دعم المجتمع الدولي للصين وللإجراءات المضادة التي ستتخذها بكين لمكافحة الفيروس. أما الآن وقد بدأت الأزمة المحلية في الانحسار، تحول التركيز إلى مساعدة الصين لبقية دول العالم. وكجزءٍ أصيلٍ من حملتها للسيطرة على مجريات الأمور كان دعم الحكومة الصينية الشامل لمنظمة الصحة العالمية المحايدة جغرافيًا والمخصص لمكافحة فيروس كوفيد-19 ومعارضتها الشديدة لأي اسم يشير إلى الصين أو ووهان.

وفي خضم الأحداث تظهر فعالية الإجراءات المحلية الصارمة التي اتخذتها الصين لاحتواء تفشي الفيروس. فبعد عملية التستر الأولية في مدينة ووهان والخطوات الإدارية الخاطئة التي سمحت بانتشار الفيروس، أطلقت الحكومة المركزية استجابة منسقة واسعة النطاق في العشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي. ووضعت مدينة ووهان والمدن الأخرى في مقاطعة هوبي تحت الحجر الصحي الفعّال، وفرضت قيودًا على السفر والتنقل في أماكن أخرى. وتم استخدام وحدات الجيش والميليشيات لإغلاق المدن. وتمت تعبئة الأجهزة الرقمية ولجان الأحياء والشركات المملوكة للدولة للسيطرة على حركة الأفراد. حتى الباحثين الأكاديميين الصينيين الذين يقومون بالدراسات البحثية في الدول الخارجية كان مطلوبًا منهم البقاء في المنزل، والإبلاغ عن أنشطتهم اليومية إلى مؤسساتهم المعنية في الصين، وتجنب الاتصال مع الآخرين. كما عملت الحكومة بوتيرة سريعة لبناء مرافق علاجية جديدة، حيث تم إجراء اختبارات الكشف عن الفيروس لأعداد كبيرة من المرضى وعزل من ثبتت إصابته منهم.

وعلى الرغم من أن بكين ردت اعتبار سمعة الأطباء الذين عوقبوا من قبل السلطات المحلية لقولهم الحقيقة، إلا أنها مارست سيطرة مركزية مشددة على تدفق المعلومات المتعلقة بالوباء، وعمدوا إلى إسكات أو احتجاز المثقفين الذين تحدوا علانية طريقة تعامل الحكومة مع تفشي المرض في الوقت الذي كانت تستعد فيه لآلياتها الدعائية.

وبالنظر إلى كل هذه التدابير الصارمة فنجد أنها قد أتت أُكلها. وبالفعل، أشاد بها عدد من الخبراء خارج الصين لكونها تمثل استجابة منطقية للوباء الخبيث. ومن منظور محض تجاه قياس مدى الفعالية، فمن الممكن اعتبار  ”الطريقة الصينية“ على أنها النهج المناسب لاحتواء الفيروس.

ويمكن للصين أيضا أن تتباهى بأنه على الرغم من العراقيل التي واجهتها في عمليات التوزيع المحلي لبعض السلع، إلا أن الوباء كان له تأثير على التجارة الدولية للصين وسلسلة التوريدات العالمية أقل بكثير مما كان يُخشى في بادئ الأمر.

”الطريقة الصينية“ ومرحلة التعافي

من المعروف أن بدايات ظهور فيروس كوفيد-19 كانت في الصين، لكن عدد الحالات الجديدة فيها بدأ في الانخفاض في منتصف فبراير/ شباط. وبحلول أوائل شهر مارس/آذار، كانت الحكومة الصينية تستعد لإعادة الدولة إلى وضعها الطبيعي، وإن كان ذلك بشكل تدريجي. ففي العاشر من مارس/ شباط، سافر الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى مدينة ووهان للمرة الأولى منذ تفشي المرض – على الرغم من أن رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانغ زار المدينة في نهاية يناير/ كانون الثاني – ليظهر للصينيين وللعالم مدى التقدم في مستويات التعافي. ومن 18 إلى 22 مارس/ آذار، لم تسجل ووهان أي حالات عدوى جديدة للفيروس محليًا. وبعد أن ذاقت الصين مرارة الضربة الأولى، كان حتمًا عليها أن تتعافى أولاً، وهي حريصة على استخدام هذا الفارق الزمني لإقناع الأمة والعالم بحكمة ”الطريقة الصينية“، مع تقديم نوع المساعدات الذي يليق بها كقوة عظمى. وبهذه الطريقة، لا تأمل فقط في إنقاذ سمعتها (التي تضررت من سوء التعامل المبكر) ولكن في الواقع لتعزيز هيبتها الدولية.

وتستخدم بكين أيضًا مرحلة التعافي لإعادة صياغة التاريخ المبكر للوباء. حيث أن الفشل الأولي للسلطات المحلية والمركزية في الاستجابة بشكل مناسب لمرحلة التفشي، عرّض حكومة شي جين بينغ والحزب الشيوعي لموجة من الانتقادات المحلية. والآن، وخلال مرحلة التعافي، تشجب الحكومة وتحتجز منتقدي تعاملها وتبرر بأثر رجعي أفعال الحكومة والحزب. وقد ذهب الأمر ببعض المسؤولين إلى حد القول بأن قوة أجنبية كانت وراء ظهور المرض في مدينة ووهان.

وعلى الرغم من أخطائه المبكرة، فقد استفاد نظام شي جين بينغ بلا شك من الناحية السياسية من خلال استعراضه الأخير لقدرته على تعبئة موارد بشرية وتنظيمية هائلة والتحكم في السلوكيات على مستوى المجموعات والأفراد. وبالطبع، بالنظر إلى الفشل المبكر للحكومة في كبح تفشي المرض وحقيقة أن التباطؤ الاقتصادي يمكن أن يضع الأهداف الوطنية لعام 2021 (الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني) بعيدة المنال، فقد يرى البعض أن الوباء كان بمثابة نكسة لـ شي جين بينغ وتهديد لاستمرارية النظام على المدى الطويل. ولكن في الوقت الحالي، يبدو أن الحكومة خرجت من الأزمة مقتنعة أكثر من أي وقت مضى ”بصواب“ نهجها الخاص في الحكم، وستشدد من قبضتها على المجتمع الصيني في المستقبل.

وقد تكون هناك خطورة مصاحبة للحملات الدعائية لبكين فيما يتعلق بنجاح مواجهتها لوباء (كوفيد-19)، والتي قد تأتي بدورها بنتائج عكسية. فخلال ذروة الأزمة المحلية، لجأ العديد من المواطنين الصينيين إلى الدول الخارجية، معتقدين أن الدول الأخرى أكثر أمانًا. والآن بعد أن أعلن شي جين بينغ بأن الصين آمنة، فإنهم يعودون من الخارج بأعداد كبيرة. وهناك مخاوف جدية من أن هؤلاء العائدين، والذين من ضمنهم بلا شك مصابين بالفيروس من الخارج، يمكن أن يتسببوا في موجة ثانية من الفيروس داخل الصين. كما أن هناك شكوكًا باقيةً حول مصداقية الإحصاءات الصينية فيما يتعلق بالحالات الجديدة. وإذا تم التلاعب بالأرقام، ورفعت الحكومة الصينية القيود على السفر على أساس معلومات غير صحيحة، فإن إعلان الرئيس الصيني للنصر قد يكون مجرد زعم أجوف.

وحتى لو حدث ذلك، فمن غير المرجح أن تتراجع بكين عن موقفها من التبرير الذاتي. وسيبقى السؤال بالنسبة لنظام شي جين بينغ هو ما إذا كانت قدرته على تأكيد صحة مزاعمه يمكن أن تصمد أمام ثقل الواقع المرير. وبمجرد أن تميل الكفة، لن يكون أمام الحكومة خيار سوى اتخاذ الإجراءات اللازمة، تمامًا كما فعلت في أواخر يناير/ كانون الثاني، عندما لم يعد بالإمكان تجاهل الواقع القاسي الذي كان الأطباء يبلّغون عنه.

الدبلوماسية الصينية في زمن الكورونا

كيف سيؤثر الوباء على علاقات الصين مع الدول الأخرى، بما فيها اليابان؟

وحتى كتابة هذه السطور، لا يزال الفيروس مستمر في الانتشار في جميع أنحاء العالم، ولكن في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، سوف ينحسر معدل الإصابات، وسيصبح الوباء تحت السيطرة. ولو استثنينا حدوث موجة ثانية، فإن الصين ستكون في طليعة مرحلة التعافي. ومن هذا المنطلق، ستكون قادرة على تقديم أشكال معينة من المساعدة إلى بلدان أخرى، والتي سيكون ”امتنانها“ بمثابة الداعم الأكبر للحملات الدعائية المحلية والخارجية، كما رأينا بالفعل فيما يتعلق بإيطاليا.

والأمر الآن منوطٌ بما سيحدث لاحقًا. وبكين ستكون حريصة على رفع جميع إجراءات الطوارئ المتبقية محليًا واستئناف التفاعلات الطبيعية مع البلدان التي خفت بها حدة الوباء. ونظرًا لأن الوباء قد بدأ في الصين، فيبدو أن البلدان الأقرب حدوديًا إلى الصين على وشك الوصول إلى فترة ما بعد ذروة التفشي على الرغم من أنه لا يمكن استبعاد حدوث موجة جديدة من العدوى. ولكن لو استثنينا حدوث ذلك، ستتحرك الصين في جميع الاحتمالات أولاً لتطبيع العلاقات الاقتصادية مع تلك البلدان، جنبًا إلى جنب مع بعض المشاركين في (مبادرة الحزام والطريق)، قبل أن تفعل ذلك مع الغرب، وستعمل على إنشاء نوع من التكتلات الجزئية لحركة طبيعية للناس وللبضائع. ويمكن أن تصبح هذه التكتلات آلية بشكل منفصل عن الاقتصادات الغربية.

وقد تكون اليابان وسنغافورة، اللتان نجحتا نسبياً في السيطرة على الوباء، مرشحين بارزين للتطبيع المبكر للعلاقات. وقد تحدث هذه الخطوة بالتزامن مع زيارة شي جين بينغ المؤجلة إلى اليابان. ولن يكون لدى بكين بالطبع ميل إلى تخفيف موقفها تجاه طوكيو بشأن القضايا الأمنية والإقليمية. والسؤال الآن كيف ستتعامل اليابان مع الصين في المشهد المتغير لعالم ما بعد كوفيد-19؟ ويمكن أن تكون للإجابة تداعيات عميقة ليس فقط على صعيد العلاقات الثنائية ولكن على المستوى الإقليمي والنظام العالمي ككل.

(النص الأصلي نُشر باللغة اليابانية، والترجمة من اللغة الإنكليزية. صورة الموضوع: الرئيس الصيني شي جين بينغ يتفقد مستشفى (هوشينشان)، أحد مرافق الطوارئ العلاجية التي شُيدت لمواجهة وباء كوفيد-19، خلال زيارته الأولى إلى مدينة ووهان منذ بدء تفشي المرض هناك في أواخر عام 2019. © شينخوا/أفلو.)

السياسة الصين العلاقات الخارجية طب مرض