السلطة الرابعة.. أهميتها ودورها في أوقات الحرب والسلم

سياسة

أثناء حرب المحيط الهادئ، كان المقر العام الإمبراطوري، القيادة العامة للجيش الياباني، مسؤولاً عن إبلاغ الجمهور بنتائج الحرب. في البداية كانت الحقائق تُنقل بموضوعية، لكن مع تدهور الوضع في زمن الحرب، كانت الحقائق تُنقل منقوصةً أو مشوهةً إلى الجمهور، وقد كان هذا مؤشراً على مخاطر الانفصالية البيروقراطية والعلاقات الوثيقة بين الحكومة والجيش ووسائل الإعلام.

تزييف لا يصدق في زمن الحرب

غالبًا ما يُطلق مصطلح daihon’ei happyō في اللغة اليابانية على التصريحات الصادرة عن السلطات والتي تكون غامضة وموجهة لخدمة فئة بعينها. وهذا المصطلح يعني حرفيًا ”إعلان من المقر العام الإمبراطوري“ أو IHQ، ولا يزال المصطلح رائج الاستخدام في عصرنا الحالي. على سبيل المثال، تعرضت تأكيدات وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة وشركة طوكيو للطاقة الكهربائية بأن الطاقة النووية لا تزال مصدراً آمناً للطاقة حتى بعد حادث محطة فوكوشيما دايئتشي للطاقة النووية عام 2011 للانتقاد باعتبارها daihon’ei happyō أو مجرد تصريحات للاستهلاك الإعلامي. كما تعرض إصرار الحكومة اليابانية على موقفها المتفائل تجاه إمكانية إقامة دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في طوكيو بأمان خلال عام 2021 وفي خضم أزمة فيروس كورونا إلى الإدانة والانتقاد. غالبًا ما يتم انتقاد وسائل الإعلام السائدة في اليابان على أنها عوامل تمكين للخداع الذي تمارسه السلطات المجتمعية والذي يشبه ممارسات المقر العام الإمبراطوري IHQ في زمن الحرب، بسبب التقارب الملحوظ في العلاقات بين السلطات المجتمعية والشركات الراعية، مزودي إيرادات الإعلانات، والحكومة التي تمنحهم تراخيص البث.

إذن، ما هو بالضبط إعلان daihon’ei happyō أو إعلان IHQ؟ تم تأسيس المقر العام الإمبراطوري في الأصل خلال فترة ميجي، وتم تكليفه بتوحيد القيادة العسكرية في زمن الحرب تحت إشراف الإمبراطور. بدءًا من الحرب الصينية اليابانية التي بدأت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1937، وحتى نهاية حرب المحيط الهادئ في أغسطس/ آب 1945، كان المقر العام الإمبراطوري IHQ أيضًا يُطلع الشعب على آخر تطورات الحرب.

لكن مع تدهور الوضع العسكري بالنسبة لليابان، أصبح إصرار IHQ على تأكيد فوز اليابان أمراً أكثر سخافة. كما كررت وسائل الإعلام اليابانية تقارير IHQ الملفقة دون تدقيق، مما كان له تأثير كبير على مشاعر الشعب. هذا الجانب المظلم من تاريخ وسائل الإعلام في اليابان هو السبب وراء استمرار استخدام المصطلح حتى يومنا هذا.

لا شك أن كل دولة تقلل من شأن الهزائم وتعظّم من شأن الانتصارات لرفع الروح المعنوية لجنودها ومواطنيها، ومن المعروف أن الحكومات العسكرية على وجه الخصوص تستخدم الدعاية على نطاق واسع. إلا أن المعلومات الزائفة التي نشرتها السلطات اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية كانت على مستوى آخر.

دعونا نلقي نظرة على بعض الأمثلة الملموسة. خلال حرب المحيط الهادئ، أعلن المقر العام الإمبراطوري IHQ أن الجيش الياباني قد أغرق 43 سفينة حربية تابعة للحلفاء و 84 حاملة طائرات. إلا أن حجم الخسائر الفعلي لقوات الحلفاء كان 4 سفن حربية فقط و 11 حاملة طائرات، مما يعني أن السلطات بالغت في الخسائر بأكثر من 10 مرات و 7 مرات على التوالي. على الجانب الآخر، تقلص حجم الخسائر اليابانية التي أعلنها المقر العام الإمبراطوري IHQ من 8 سفن حربية إلى 3 فقط، ومن 19 حاملة طائرات إلى 4. ناهيك عن الأضرار التي لم يتم الإبلاغ عنها بشكل صريح والتي تعرضت لها السفن الصغيرة مثل الطرادات والمدمرات والغواصات وسفن النقل والطائرات وخسائر القوات البرية، لقد وصل تشويههم للواقع إلى مستويات غير معقولة.

بل وامتدت تشويهات الواقع الممنهجة إلى التعبيرات المستخدمة لوصف نتائج المعارك، فتم وصف انسحاب وحدة عسكرية بعبارة ”تغيير المسار من أجل التقدم“. أما إذا تم القضاء على هذه الوحدة، فكان يتم وصف هذا الحدث من خلال الاستشهاد بفكرة gyokusai، أو الهزيمة على نحو بطولي يشبه جوهرة تتكسر إلى أشلاء. بالنسبة لبطولات وحدات الهجوم الخاصة tokkōtai والتي غالبًا ما تسمى ”كاميكازي“، فقد كانت تُسرد على نطاق واسع بطريقة مذهلة مماثلة، في حين يتم ذكر المعارك البرية الكارثية بشكل مقتضب في بضعة أسطر فقط في تقارير IHQ. كما وُصفت الأضرار التي سببتها الغارات الجوية الأمريكية على البر الياباني في وقت لاحق من الحرب بأنها ”طفيفة“، مع وجود أضرار دائمة ”قيد التحقيق“ من قبل فرق المسح الرسمية.

مع تدهور وضع اليابان في الحرب، استمر تردي مستوى تصريحات IHQ حتى تحولت في النهاية إلى مجرد تراكيب جوفاء أملاها البيروقراطيون العسكريون. بحلول نهاية الحرب، لم يعد الشعب الياباني، الذي كان يقف وراء جيشه في البداية، يصدق أي تصريحات تصدر عن IHQ.

وسائل الإعلام كفرع عسكري

لماذا كانت إعلانات IHQ مليئة بمثل هذا الزيف؟ هناك أربعة أسباب محتملة. الأول يتعلق بالخلاف التنظيمي. على الرغم من الغرض الأصلي من إنشاء المقر العام الإمبراطوري IHQ ليكون بمثابة برج مراقبة لتوحيد القيادة في زمن الحرب، فقد تم تقويض IHQ بسبب الانقسام الموجود بشكل دائم في اليابان قبل الحرب بين الجيش الإمبراطوري والبحرية. في حين أن الإمبراطور كان الجنرال العام للقوات المسلحة اليابانية وفقاً للدستور، إلا أنه كان يتصرف اسميًا فقط كقائد عام لليابان في وقت الحرب.

لم يكن التنافس بين الجيش والبحرية هو السبب الوحيد للخلاف. كانت الوكالات الإدارية للجيش (وزارة الحرب ووزارة البحرية) ووكالات القيادة (مكتب الأركان العامة للجيش الإمبراطوري الياباني والأركان العامة للبحرية الإمبراطورية اليابانية) في كثير من الأحيان على خلاف مع بعضها البعض. علاوة على ذلك، داخل التنظيمات القيادية لم يكن هناك توافق كامل في معظم الأحيان بين وجهات نظر أقسام العمليات وأقسام الاستخبارات.

نظرًا لأن تصريحات IHQ كانت أعلى الاتصالات الرسمية للجيش الياباني، فقد تطلب الأمر موافقة من مختلف الجهات. لكن نظرًا للمصالح المنفصلة، فإن أي ممثل يرغب في الإعلان عن التفاصيل الواقعية للهزيمة سيجد شخصاً آخر يجادله بأن مثل هذا الإعلان من شأنه ”خفض معنويات الشعب الياباني“. لم يكن لقسم الصحافة المسؤول عن صياغة هذه التصريحات سوى القليل من السلطة الفعلية، مما يعني أن المسؤولين عن التواصل مع الجمهور قد تم اجتذابهم في اتجاهات مختلفة بسبب الآراء والمصالح المتضاربة. نتيجة لذلك، كانت الاتصالات تميل إلى أن تكون فردية التوجه وملتبسة، ومعرضة للخطر كما كانت بسبب الانفصالية المتفشية.

يتعلق السبب الثاني بإهمال الجيش الياباني في الحصول على معلومات واقعية لأغراض صنع القرار. ولم يتم التحقيق بطريقة منهجية في نتائج المعارك الجوية والبحرية، بما في ذلك درجة الضرر. مع عدم وجود أقمار صناعية للمراقبة مثل هذا العصر، اعتمد الجيش الياباني فقط على تقارير الطيارين.

طالما حافظت اليابان على التفوق الجوي، لم تكن هذه مشكلة كبيرة. لكن مع تقدم الحرب، فقد تفوق الجناحان البحري والجوي الياباني، وانخفضت مستويات مهارة الطيارين وانخفض أيضاً معدل البقاء على قيد الحياة. وبالتالي أدى الاعتماد على تقارير الطيارين إلى تراجع دقة المعلومات التي تم جمعها بشكل كبير مع مرور الوقت. لم يقرر القادة الميدانيون أو IHQ في أي وقت اتخاذ نهج مختلف للتقييم. في الواقع، قام المسؤولون المثقلون بتوقعات النصر بتقديم تقارير ميدانية مبالغ فيها، غالبًا ما تم الأخذ بها كاملة دون مزيد من الفحص. وكلما ازداد الوضع سوءًا في زمن الحرب، ازدادت المبالغة سوءًا.

السبب الثالث هو ببساطة أن وضع الحرب تدهور بسرعة. عندما كان الجيش الياباني يحقق انتصارات، لم تكن هناك حاجة لتزييف النتائج. لكن كل هذا تغير بشكل كبير في عام 1943، عندما أصبحت الفجوة في القدرة العسكرية بين الجيشين الأمريكي والياباني واضحة بشكل خاص، ومع تراكم الخسائر ازدادت وتيرة الخلافات والنزاعات بين الأقسام المختلفة وازداد الاحتكاك حول الاتصالات العامة. أدت هذه الخسائر أيضًا إلى فضح المعلومات الواردة من الميدان، وبدأت IHQ في استبدال التقارير الدقيقة بالتفكير المفعم بالأمنيات. بشكل أساسي، أدى التدهور في زمن الحرب إلى ظهور أوجه القصور التنظيمية الموجودة مسبقًا في الجيش الياباني إلى السطح.

قد يكون السبب الرابع والأخير هو الأهم. ربما كانت الروابط الوثيقة بين السلطات العسكرية ووسائل الإعلام هي الدافع الأكبر وراء تزييف الحقائق الخاصة بالحرب قبل IHQ. إذا علمت السلطات العسكرية أن وسائل الإعلام كانت ستدقق في تصريحاتها للتأكد من خلوها من أي تزييف أو خداع، فمن المحتمل أن المقر العام الإمبراطوري IHQ كان سيفكر كثيراً قبل الإدلاء بهذه التصريحات. لكن وسائل الإعلام كانت تعمل بشكل أساسي باعتبارها تابعة للسلطات العسكرية، وتخلت عن مسؤوليتها في محاسبة السلطات. في النهاية، لم تكن هناك أي قيود على ما يمكن أن يفلت منه IHQ في تصريحاتهم.

للتوضيح، لم تكن وسائل الإعلام اليابانية الرئيسية خاضعة دائمًا للجيش في اليابان قبل الحرب. فيما يتعلق بتجربة اليابان مع الديمقراطية خلال عصر تايشو (1912-1926) وأوائل عصر شووا (1926-1989)، والمثالية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى والتركيز على الحد من التسلح العالمي، كانت الصحف كثيرًا ما تنتقد الجيش وأفعاله.

لكن حادثة منشوريا في سبتمبر/ أيلول 1931 كانت نقطة تحول حاسمة. حيث أرسلت العديد من وسائل الإعلام مراسليها إلى البر الرئيسي الآسيوي أملاً في الحصول على سبق صحفي، فانتهز الجيش الفرصة لكسب ود هذه المنظمات. تم توطيد هذه العلاقة ذات المنفعة المتبادلة فقط عندما اندلعت الحرب الصينية اليابانية في يوليو/ تموز 1937. كما تم التهديد بمقص الرقابة وبفرض قيود على القصص التي ستُطبع لتأديب وسائل الإعلام التي لم تكن مقتنعة في البداية بإغراءات الجيش لتوفير تغطية مواتية لرغبات الجيش.

لذلك وجد الجيش الياباني أنه من السهل التلاعب بوسائل الإعلام المحلية، وأصبحت هذه المنافذ متعاونة في حرب المحيط الهادئ. في النهاية، لم يتبق أحد لمراقبة الانتهاكات العسكرية والمطالبة بالمحاسبة.

المساءلة ووسائل الإعلام في العصر الحديث

ماذا يمكن أن نتعلم من هذا التاريخ؟ الدرس الأكثر أهمية للعصر الحالي هو مخاطر ارتباط وسائل الإعلام ارتباطًا وثيقًا بالسلطة أو اعتمادها على الوصول إلى الجهات الفاعلة المجتمعية القوية. في الآونة الأخيرة، كانت هناك انتقادات متكررة لوسائل الإعلام الرئيسية في جميع أنحاء العالم، وانصب التركيز على المصالح الخاصة والقيم المتميزة التي تمتلكها المؤسسات الإعلامية، وكيف أنها تحرف تغطية الأحداث الهامة. هذا النقد صحيح بالفعل إلى حد ما، لكن في جوهره يجب أن يحث هذا النقد وسائل الإعلام على القيام بدورها في مراقبة من هم في السلطة واستخداماتهم للسلطة. يجب تذكير وسائل الإعلام السائدة لماذا كانت تُعتبر ”السلطة الرابعة“ إلى جانب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في السياسات الديمقراطية.

قد يشعر البعض أن توقع أن تقوم وسائل الإعلام بمساءلة السلطة هي فكرة قديمة عفا عليها الزمن، لكن هؤلاء الأشخاص هم بالتحديد الذين يحتاجون إلى الاطلاع على تاريخ daihon’ei happyō في اليابان. تتحرك الحكومة البيروقراطية في العصر الحالي في الاتجاه الخاطئ بسبب مزيج من الانفصالية المتفشية وعدم احترام المساءلة وشفافية المعلومات حيث يتخلى الإعلام عن مسؤولياته الديمقراطية. إلا أن الجميع يجب أن يعلم أن الكوميديا التراجيدية التي حدثت في اليابان قبل الحرب ليست بعيدة عن الحدوث مجدداً في المستقبل القريب.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: قسم الصحافة العسكرية في المقر العام الإمبراطوري يعلن عن بدء الحرب العالمية الثانية في ديسمبر/ كانون الأول 1941 وكالة كيودو).

العلاقات اليابانية الأمريكية العلاقات الروسية اليابانية الحرب العالمية الثانية الحرب العالمية الأولى العلاقات الصينية اليابانية