كيف تحولت دورة الألعاب الأولمبية ببكين إلى ساحة للعراك السياسي وتأجيج الخصومات الدولية

سياسة

حرصت الصين على إرسال رسائل سياسية واضحة خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين التي قاطعتها دبلوماسياً عدة دول. ينقل إلينا أحد الصحفيين اليابانيين، الذين كانوا في قلب الحدث، الإشارات السياسية المتعددة التي أرسلتها الصين من خلال هذا الحدث.

انقسامات عميقة

في يناير/ كانون الثاني، بدأت العمل في شنيانغ بمقاطعة لياونينغ شمال شرق الصين. مع اشتداد العداء بين الولايات المتحدة والصين، تزايد الاحتكاك بشأن دورة الألعاب الأولمبية الشتوية القادمة في بكين. وقد كان لدي اهتمام كبير بالمباريات وتذكرت قبل أربع سنوات، عندما كنت أقوم بتقديم تقرير عن حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيونغتشانغ بكوريا الجنوبية.

دعا رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن إلى إنشاء فريق كوري موحد، وقبل بهذه الفكرة كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية الذي كان وقتها رئيساً لحزب العمال الكوري، فتم إقناع رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ نظراً لرغبته في أن يُنسب له الفضل في إقامة ”أولمبياد السلام“، لذلك قبل وقت قصير من انطلاق الألعاب الأولمبية، تقرر أن تدخل الفرق الكورية الإستاد لحضور حفل الافتتاح معًا، بالإضافة إلى مشاركة فريق واحد يمثل الكوريتين في مسابقة هوكي الجليد للسيدات.

قام حاملو العلم من كلا البلدين بحمل علم موحد عليه صورة لشبه الجزيرة الكورية، وقادوا الرياضيين إلى الإستاد. كان المتفرجون متحمسين لرؤية الفريق الكوري، حتى وإن كان هذا نتاج عملية سياسية معقدة، مما خلق أجواءً عاطفية.

في حين عارض العديد من مواطني كوريا الجنوبية المصالحة مع الشمال بسبب العداء السياسي بين البلدين، لكن أداء ”مهرجان السلام“ هذا كان فعالًا إلى حد ما.

ماذا إذن عن دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين التي ستقام في فبراير/ شباط 2022؟ إذ أعلنت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ودول أخرى مقاطعة دبلوماسية، حيث لم يذهب رؤساء تلك الدول أو ممثلون آخرون من هذا القبيل، وذلك بسبب الإجراءات الصينية في شينجيانغ وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى، كما لم ترسل اليابان وفدا حكوميا.

في حفل الافتتاح الذي أقيم في 4 فبراير/ شباط، كان هناك قادة من أكثر من 20 دولة، بما في ذلك روسيا. لا شك أن حضور رؤساء الدول الصديقة للصين وغياب رؤساء الدول الغربية قد أعطى صورة واضحة للانقسامات العميقة التي يشهدها كوكب الأرض.

روسيا وتايوان

كانت التوترات حول أوكرانيا تتصاعد أيضًا وقت إقامة الألعاب الأولمبية. قبل حفل الافتتاح، أجرى الرئيس الصيني شي جين بينغ محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفقًا لوزارة الشؤون الخارجية الصينية، شدد شي على أن الصين وروسيا ملتزمتان بتعميق التنسيق الاستراتيجي للدعم المتبادل والوقوف جنبًا إلى جنب من أجل الإنصاف والعدالة الدولية، وصرّح بوتين أن ”روسيا مستعدة للعمل مع الصين لتوسيع نطاق التواصل والتنسيق الاستراتيجي، وأنهما تدعمان بقوة بعضهما البعض في الدفاع عن مبدأ السيادة وسلامة الأراضي“.

لقد أكد البيان الصيني الروسي المشترك على أن ”الصداقة بين الدولتين لا حدود لها، ولا توجد مجالات محظورة للتعاون“. كما أشار بوضوح إلى أن الجانبين يعارضان التوسع المتزايد للناتو، كما أكد بوتين.

أقيم حفل الافتتاح بعد وصولي إلى الصين مباشرة، لذا لم أتمكن من التواجد في الملعب وشاهدته على التلفزيون. كانت لحظة دخول الفريق التايواني غير عادية، حيث قدم مذيع الملعب المجموعة كالمعتاد قائلاً، من ”تايبيه الصينية“ أو Zhonghua Taibei باللغة الصينية، لكن مقدم محطة التلفزيون الصينية CCTV استخدم اسم Zhongguo Taibei. والفرق هنا أن الاسم الأول، الذي تفضله تايوان، يعني أن الدولة صينية ثقافيًا، أما الاسم الثاني فيعني أنها جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية.

وكانت تايوان قد تنبأت بحدوث مثل هذا الموقف وأعلنت أنها لن تشارك في حفل الافتتاح بسبب استخدام بعض الشخصيات الحكومية الصينية لاسم Zhongguo Taibei. إلا أن النداءات والمناشدات من اللجنة الأولمبية الدولية أقنعتها لاحقًا بالمشاركة.

بينما سمحت الصين باستخدام الاسم المفضل لتايوان للاستهلاك الخارجي، فقد عمدت إلى استخدام الاسم الذي يشير بوضوح إلى أن الدولة كانت في الواقع جزءًا من الصين أمام الجماهير المحلية.

عندما دخل الفريق التايواني إلى الملعب، عرضت الدوائر التلفزيونية المغلقة لقطات للرئيس الصيني جالساً في مقاعد كبار الشخصيات. ومع دخول فريق هونغ كونغ، ظلت الكاميرات على الرئيس الصيني. لقد انتقدت الصين المقاطعة الدبلوماسية باعتبارها إقحاماً للسياسة في الرياضة، ورغم ذلك فقد استغلت الصين حفل الافتتاح لتوجيه عدد من الرسائل السياسية.

رسائل سياسية مبطنة

كما تضمن الجزء الختامي من حفل الافتتاح إشارات قوية، حيث كان آخر حامل للشعلة الأولمبية هو الرياضي المنتمي لأقلية الأويغور دينيغير ييلاموجيانغ. وقد وصفت صحيفة نيويورك تايمز هذا في عنوان رئيسي بأنه ”اختيار استفزازي، وأن الصين قد أخلّت بدورها كدولة مضيفة لمثل هذا الحدث العالمي الهام فطالتها انتقادات عديدة“، حيث أن سبب المقاطعة الدبلوماسية الغربية هو انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الحكومة الصينية ضد أقلية الأويغور، بما في ذلك الاعتقال.

أنا أيضًا اعتبرت أن الاختيار يشير إلى نية الحكومة في عدم الاهتمام بأي انتقادات من المجتمع الدولي فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان التي تُمارس ضد الأويغور.

إلا أن تشاو ليجيان، نائب مدير إدارة المعلومات بوزارة الخارجية الصينية، قال في مؤتمر صحفي بعد ثلاثة أيام إن الاختيار أظهر أن ”الصين أسرة كبيرة تفتخر بالوحدة العرقية“.

وهكذا استمرت الإجراءات السياسية السافرة في لفت أنظار العالم خلال الأولمبياد.

كانت المتحدثة باسم اللجنة الأولمبية يان جيارونغ قد صرحت في مؤتمر صحفي عقد في 17 فبراير/ شباط أن قصص الانتهاكات ضد أقلية الأويغور في شينجيانغ كانت أكاذيب، وأكدت أن تايوان جزء من الصين. ووُجّهت إليها انتقادات بأن مثل هذه التعليقات غير مناسبة لشخص يتحدث نيابة عن حكومة البلد في موقف ينبغي أن يتسم بالحياد السياسي.

اللجنة الأولمبية الدولية وسياسة التملّق

في عملية الاختيار الأولية للمدينة المضيفة لعام 2022، كانت المخاوف بشأن التكاليف الباهظة عاملاً أساسياً دفع المدن الأوروبية إلى سحب عروضها لاستضافة الأولمبياد رغم تأصل تقاليد ممارسة الرياضات الشتوية فيها. في النهاية، لم يتبقى في التصويت النهائي سوى بكين ومدينة ألماتي الكازاخستانية فقط. وهكذا، أصبحت بكين أول مدينة تستضيف كلاً من الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية.

واصلت اللجنة الأولمبية الدولية التقرب من الصين مع إعطاء الأولوية لإقامة دورة الألعاب بشكل سلس، وبالتالي فلم تبذل أي جهد لتشجيع البلاد على معالجة قضايا حقوق الإنسان.

ولعل أحد الأمثلة القوية على هذا الموقف كان مشاهدة رئيس اللجنة الأولمبية الدولية باخ وهو يجلس مع لاعبة التنس بينغ شواي، التي اختفت لفترة بعد ما نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي حول قيام عضو سابق رفيع المستوى في الحزب الشيوعي الصيني بإجبارها على لقاء جنسي معه.

دورة الألعاب نصر كبير يُنسب للرئيس الصيني

بعد انتهاء دورة الألعاب الأولمبية، أعلنت الصين أنها حققت نجاحًا كبيرًا. أشادت وكالة أنباء شينخوا التي تديرها الدولة بتعاون أكثر من 1.4 مليار صيني تحت قيادة شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني في التغلب على صعوبات إقامة الألعاب الأولمبية خلال جائحة كوفيد -19، كما ذكرت الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي الصيني، بيبولز ديلي، أن الصين قد أظهرت للعالم صورة منفتحة ومفعمة بالأمل.

لقد استطاعت الصين إقامة الألعاب الأولمبية مع الاحتفاظ بسيطرتها على حالة انتشار العدوى من خلال سياستها القوية الرامية إلى عدم انتشار فيروس كورونا، ولا شك أن الرئيس شي سوف يدرج ”النجاح“ الأولمبي كأحد إنجازاته عندما يسعى للحصول على فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة مدتها خمس سنوات في مؤتمر الحزب المزمع عقده في النصف الثاني من عام 2022. وكما ذكرت وكالة أنباء شينخوا، لم يكن هناك بديل عن نجاح أولمبياد بكين، ببساطة لأن الرئيس الصيني شي جين بينغ بنفسه هو من خطط ونفّذ هذه الأولمبياد.

الرد على غزو أوكرانيا

تحول اهتمام المجتمع الدولي من قضايا حقوق الإنسان في الصين إلى الوضع في أوكرانيا، الذي ازداد توتراً خلال الألعاب الأولمبية. قد يكون هذا تطوراً مواتياً للصين بطريقة ما، لكنها وجدت صعوبة في تحديد رد فعلها.

في 24 فبراير/ شباط، شنت روسيا غزوًا واسع النطاق على أوكرانيا. ظل موقف الحكومة الصينية ثابتاً على عدم إدانة روسيا، وامتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة روسيا، كما أنها لم تستخدم كلمة ”غزو“ لوصف ما قامت به روسيا. في الوقت نفسه، كانت قد حافظت في السابق على علاقات جيدة مع أوكرانيا.

في 4 مارس/ آذار، بدأت دورة الألعاب البارالمبية في بكين. في حفل الافتتاح الذي حضره الرئيس شي، عمد المترجم الفوري إلى عدم ترجمة جزء من الخطاب الذي ألقاه رئيس اللجنة البارالمبية الدولية أندرو بارسونز إلى اللغة الصينية، كما تم قطع اللقطات من البث على الإنترنت.

مع أخذ الغزو الروسي لأوكرانيا بعين الاعتبار، دعا بارسونز إلى السلام قائلاً: ”القرن الحادي والعشرون هو وقت للحوار والدبلوماسية، لا للحرب والكراهية“، وأن ”الهدنة الأولمبية من أجل السلام خلال الألعاب الأولمبية والبارالمبية، يجب احترامها والالتزام بها وعدم انتهاكها“.

صرخته الختامية ”السلام!“ لم تُترجم أيضاً. ويرى المعلقون أن هذا يشير إلى القلق من أن كلماته قد تلهم منتقدي روسيا وتزيد من حالة التعاطف مع أوكرانيا، مما سيؤدي قطعاً إلى انتقاد الرد الصيني.

لقد مرت أربعة عشر عامًا على الألعاب الأولمبية الصيفية في بكين عام 2008. وقد تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للصين أكثر من ثلاثة أضعاف، وتزايد حضورها وصوتها على المسرح الدولي وفقًا لذلك.

لكن الصين مازالت تمنع نشر المعلومات المناهضة لها بحيث لا يمكن تداولها محليًا، وقد تكون هذه علامة على أن الحكومة ليست صلبة كما يعتقد من حولها. ويجب ألا ننسى أن الانتقادات اللاذعة بشأن تسييس الرياضة يمكن توجيهها إلى الصين نفسها.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية في 14 مارس/آذار 2022. صورة العنوان: الرئيس الصيني شي جين بينغ يلوّح من مقاعد كبار الشخصيات في الحفل الختامي لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 20 فبراير/ شباط 2022. وكالة أخبار جيجي برس وأفلو)

العلاقات الدولية العلاقات اليابانية الصينية الألعاب الأولمبية