هل اقتربت نهاية معجزة شرق آسيا؟ نظرة ديموغرافية على مستقبل الاقتصاد في الشرق الأقصى من العالم

مجتمع

فيما يعد مؤشراً واضحاً على استمرار تدهور المشكلة السكانية، سجلت اليابان خلال عام 2022 أقل من 800 ألف مولود جديد فقط. وعلى ما يبدو فإن اليابان ليست هي الدولة الوحيدة في شرق آسيا التي تواجه مثل هذه التحديات الديموغرافية الصعبة، فلدينا دولاً أخرى مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان تعاني جميعها انخفاضًا ملحوظًا في عدد المواليد. لقد كانت شرق آسيا محركًا للنمو الاقتصادي العالمي لفترة طويلة، ولكن الآن تظهر علامات على انحسار هذا النمو.

هل هي بداية النهاية لمرحلة النمو الاقتصادي؟

لقد شكلت ستينيات القرن الماضي عصر المعجزة الاقتصادية اليابانية من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، حيث تجاوزت اليابان كلاً من فرنسا في عام 1963، وبريطانيا في عام 1967، وألمانيا الغربية في عام 1968، وقفزت لتحتل المرتبة الثانية كأكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن التقدم الاقتصادي في شرق آسيا لم يقتصر على اليابان وحدها، فخلال نفس الحقبة حققت كوريا الجنوبية ما أطلق عليه اسم ”معجزة نهر هان“ نسبة الى نهر هان بالعاصمة سيول، حيث حققت كوريا الجنوبية انتعاشاً اقتصادياً مثيراً. تلا ذلك صعود اقتصادات أخرى مثل تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة، لتشكل مجموع هذه الدول ما اصبح يعرف لاحقا باسم ”النمور الآسيوية“ كما أُطلق على هذه الدول أيضًا اسم الاقتصاديات الصناعية الناشئة في شرق اسيا.

ومع نهاية عام 1978، تبنى الزعيم الصيني دينغ شياوبينغ سياسة الاصلاح الاقتصادي أو ما يعرف باسم ”سياسة اقتصاد السوق“ لتكون بمثابة نقطة انطلاق العملاق الصيني. وفي عام 2010 تجاوزت الصين اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد وطني في العالم. وفي ديسمبر 2018 أشاد الزعيم الصيني شي جين بينغ خلال الاحتفاء بمرور أربعون عاماً على بداية سياسة الإصلاح التي ساهمت في رفع قيمة الاقتصاد الصيني من 1.8٪ فقط من الإجمالي العالمي إلى 15.2٪، إيذانا ببداية عصر العملاق الاقتصادي الجديد في ظل تراجع وهج المعجزة اليابانية؟

تغيرات كبيرة في الخريطة الديموغرافية

اعلنت الحكومة اليابانية مؤخراً أن عدد المواليد في جميع انحاء اليابان في عام 2022 قد بلغ 799 الف و 728 مولود فقط، وهو ما يعد اقل عدد مواليد يتم تسجيله في عام واحد منذ بدء عمليات التسجيل الرسمية في عام 1899. وكان معهد بحوث السكان والضمان الاجتماعي قد توقع الهبوط دون مستوى 800 الف طفل بحلول عام 2033، اي ان الأمور تدهورت 11 عاماً أسرع مما كان متوقعاً. وحتى مع الوضع في الاعتبار التأثير السلبي لجائحة كوفيد-19 على زيادة عدد المواليد، إلا أن الرقم جاء صادماً للجميع، إلى الحد الذي دفع رئيس الوزراء كيشيدا إلى وصف الوضع بالأزمة؟

وفي الوقت نفسه شهدت الصين هي الأخرى انخفاضا ملحوظاً في عدد المواليد، حيث سجلت 9.6 مليون مولود فقط في عام 2022، بينما اعتادت في السنوات السابقة على تسجيل 10مليون مولود او أكثر في العام الواحد. ورغم أن الصين كانت قد سجلت ارتفاعًا طفيفًا في معدل المواليد في عام 2016، وهو العام الأول الذي تلى إلغاء سياسة الطفل الواحد، إلا أن معدل المواليد منذ ذلك الحين يشهد تراجعاً واضحاً بشكل عام. حيث بلغ عدد سكان البلاد في عام 2022 حوالي 1.41 مليار نسمة، متراجعاً بمقدار 850 الف نسمة عن عام السابق.

وبالنسبة للصين فقد كان هذا هو أول انخفاض سنوي في عدد السكان منذ عام 1961، وهو عام المجاعة التي هلك خلالها الملايين، والتي تسبب فيها فشل الخطة الخمسية التي أطلقت عليها الحكومة الصينية مصطلح ”القفزة الكبرى“ بين عامي 1958 و 1962. ويصرح السيد يي فوكسيان، الباحث في جامعة ويسكونسن - ماديسون، أنه على الأرجح هذه أول مرة ينخفض فيها عدد المواليد في الصين دون 10 ملايين منذ بدء حقبة حكم سلالة تشينغ عام 1790. كما يعتقد أيضًا أن أرقام السكان الصادرة عن الحكومة الصينية غير موثوق بها، وأن الذروة العمرانية المحتملة كانت حوالي 1.28 مليار نسمة في عام 2018.

أما بالنسبة لكوريا الجنوبية فقد شهد عام 2022 أدنى معدل للخصوبة في تاريخها، حيث بلغت نسبة توقع إنجاب المرأة العادية للأطفال خلال فترة حياتها كلها ب 0.78 طفل فقط، وهو ما يجعل كوريا الجنوبية الدولة الأولى في العالم من حيث الانخفاض في معدل المواليد، حيث يقل المعدل الحالي بنسبة 40% عن المعدل المحدد بنسبة 2.1 طفل لكل امرأة من أجل الحفاظ على مستوى الاستقرار السكاني. ويحسب للحكومة الكورية أنها لم تتجاهل هذه الأزمة المتفاقمة، فقد قامت بإنفاق حوالي 280 تريليون وون أو ما يعادل حوالي 28 تريليون ين ياباني، في الفترة ما بين عام 2006 إلى عام 2021 لمكافحة انخفاض معدل الإنجاب، لكن يبدو أن الأزمة لازالت قائمة.

ولا يختلف الأمر كثيراً في تايوان، حيث انخفض عدد المواليد في عام 2022 إلى أدنى مستوى منذ بدء عملية جمع البيانات، ليصل إلى أقل من 140 ألف مولود في العام. وبهذا يصبح العام السابع على التوالي الذي تشهد فيه تايوان انخفاضًا في عدد المواليد، والعام الثالث على التوالي منذ عام 2020 الذي تسجل فيه البلاد انكماشاً سكانياً.

الهند تستحوذ على الصدارة

تعتبر اليابان في طليعة دول شرق آسيا التي تعاني من تحديات تتعلق بتراجع معدل المواليد وزيادة نسبة الشيخوخة في السكان، مما يؤثر على توازن الهرم السكاني وتركيبة القوى العاملة والاقتصاد بشكل عام. ويذكر أنه في عام 1995 بلغت اليابان ذروتها السكانية في فئة العمر المنتجة ”15-64 سنة“، ومنذ ذلك الحين تراجعت هذه الفئة العمرية بشكل كبير على مدى ما يعرف بـ ”مرحلة الركود“ التي تلت انفجار الفقاعة الاقتصادية. ومنذ عام 2008، شهدت اليابان تراجعًا تدريجيًا في إجمالي عدد السكان. هذا التراجع الديموغرافي يرتبط بتأثيرات تراجع معدل المواليد وزيادة نسبة الشيخوخة بين السكان، وقد أثر ذلك على هيكل القوى العاملة واقتصاد اليابان على مر السنوات.

وبالرغم من تسجيل كلاً من كوريا الجنوبية والصين وتايوان لمعدلات خصوبة أقل من اليابان، إلا أن اقتصادات كل منها يعتبر في وضع أفضل من اليابان بشكل كبير. وفي الوقت نفسه نستطيع الجزم بأن فقاعة العقارات في الصين وكوريا الجنوبية قد قاربت على الانفجار، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن ما إذا كان الوضع في هذه الدول سيؤول إلى ما شهدته اليابان من تباطؤ اقتصادي طويل الأمد؟ ومن ناحية أخرى، تشير الأرقام الأولية للناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 لهذه البلدان إلى نمو بنسبة 1.0% في اليابان، مقارنة بنمو بنسبة 2.6% في كوريا الجنوبية، و3% في الصين، و2.4% في تايوان.

وبالتوجه إلى منطقة جنوب شرق آسيا، نرى أن تايلاند قد حققت نمواً أقل حيوية بنسبة 2.6% في عام 2022، في حين حققت إندونيسيا معدلات تصل إلى 5%، والفلبين حوالي 7%، وفيتنام وماليزيا حوالي 8%. ومن الجدير بالذكر أنه قد مر 32 عاماً كاملاً منذ آخر مرة تفوقت فيها اقتصادات هذه المجموعة على اقتصاد الصين.

ومن جانبها أصبحت الهند في وضع مواتٍ لتجاوز الصين في التصنيفات العالمية للسكان، كما أنها تفوقت بشكل كبير على منافسها الضخم في المجال الاقتصادي، حيث حققت نموًا بنسبة 6.7% في عام 2022، ويتوقع أن يستمر نمو عدد سكان الهند حتى 2060، وهو ما قد يسمح لها بتحقيق نمو اقتصادي أكبر.

التطلع إلى الغرب والجنوب من أجل النمو في المستقبل

من الملاحظ أن الاستثمار الأجنبي في الصين قد تراجع بنسبة 73% في النصف الثاني من عام 2022 عن العام السابق له، ليصل إلى أدنى مستوى له خلال 18 عامًا. وقد كان لإجراءات الصين الساعية إلى تحقيق ”صفر كوفيد“ تأثيراً واضحاً على ذلك، اضافة الى عوامل أخرى مرتبطة بتراجع الصين عن مسار ”سياسة السوق“ في العقود الأخيرة، والمخاطر المتعلقة بالوضع الاقتصادي المتوتر مع الولايات المتحدة، والمخاوف الأخيرة من تأثير التوزيع الديموغرافي للبلاد على النمو الاقتصادي. فاجتماع كل هذه العوامل أثر بشكل كبير على تراجع معدل الاستثمارات الأجنبية، وهو ما زاد من مخاوف تراجع النمو الاقتصادي في المستقبل.

وتشهد الحقبة الحالية تقلصاً في الاستثمارات الوافدة إلى الصين، بالتزامن مع نقل تعاملات التوريد للسلع المصنعة إلى أسواق أخرى بفتح قواعد تصنيع جديدة خارج الصين، وهذا ما يعني حرمان الصين من إيرادات تلك القواعد التصنيعية التي تم تحويلها باتجاه فيتنام وماليزيا ودول أخرى في جنوب شرق آسيا. وهذا ما سيؤدي الى رسم خريطة اقتصادية جديدة في المنطقة على حساب الصين.

وهناك عامل آخر لا يقل تأثيراً عما سبق ذكره يتعلق بهرم التركيبة الديموغرافية لاقتصادات هذه الدول. فهرم دول جنوب شرق آسيا يتميز بوجود كثافة سكانية ثقيلة في قاعدته من فئة الشباب التي تمثل القاعدة العاملة. بالمقابل نجد أن كلاً من الصين وجيرانها في شمال شرق آسيا، تمتلك هرما سكانيا يتمركز ثقله في القمة حيث فئة كبار السن. أما فيما يتعلق بالهند، فإن هرمها السكاني بدأ يعرف تحولا في تركيبته السكانية من قاعدة كبيرة من فئة عمرية شابة الى قمة يتزايد فيها تركيز الفئة العمرية من كبار السن بسبب زيادة متوسط الأعمار في الهند عما كان عنه سابقا. وهذا ما زاد من مخاوف تأثير هذا التغيير على العوامل الاقتصادية والاستثمارية للبلاد.

الهرم السكاني لعام 2023

ويوضح الرسم البياني أعلاه المستقبل الاقتصادي للمنطقة، فعلى ما يبدو أن النمو الاقتصادي والفرص التجارية والاستثمارية من المرجح أن تنتقل تدريجياً من منطقة شرق آسيا إلى منطقة جنوب شرق آسيا، ومن ثم إلى الهند.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية، صورة العنوان: أطفال في مدرسة ابتدائية في دونغيانغ، الصين، يشاركون في فعالية رياضية في 8 فبراير/ شباط)

التعليم التعليم العالي آسيا التعليم الياباني